عندما سئل جورج بوش الاب من قبل الصحافين بعيد ما جرى في العالم العربي في التسعينيات: هل ستربحون هذه الحرب؟ اجاب : لن نخسرها. وراح المحللون في تفسير هذا التصريح الى عدة مناح .جورج بوش هنا لم يلزم نفسه بنتيجة الانتصار واستباق الاحداث ولكنه رجح عدم الخسارة حيث ان منطقيا اي مواجهة تتضمن ثلاثة احتمالات اما الفوز او الخسارة او التعادل. وبالرغم من عظمة امريكا جورج لم يجعل نفسه فريسة للسكاكين وتعليقات الصحافين بتنبؤات مغلوطة بل اعطى لنفسه فسحة للخروج من المأزق المحتملة.
ويحكى ان رجلا انجليزيا مرة سئل: ما ا لمدة الزمنية بالقطار من مانجستر الى ادنبرة؟ فأجاب : في الظروف العادية ست ساعات تقريبا . هذا الرجل لم يلزم نفسه بمدة اكيدة اخذا بالاعتبار الاحوال الجوية والتغييرات في توقيتات انطلاق ورجوع القطارات وايام الاسبوع العادية . وانما قال ضمنا اذا كان الجو صحوا واذا كانت المواعيد باقية على حالها دون تغيير واذا كان اليوم من ايام العمل الرسمية فالمدة التقريبية هي ست ساعات. كانت اجابة الرجل:
1- خالية من الالزام اي لم يلزم نفسه بمدة معينة واذا فعل ذلك قد تظهر للسائل عدم صحة المعلومة وتقل الموثوقية
2- متضمنة منفذا للخروج عن الزام نفسه بمعلومة وذلك باستعمال المفردات “في الظروف العادية” وكلمة” تقريبا”
3- مراعية ومتضمنة اكتساب ثقة السائل به
4- مصاغة بشكل منطقي
يتطلب من محلل المواد الاعلامية في الاعلام المرئي والمسموع في راي كاتب هذا المقال ان يسلك المسلك الطبيعي لجورج بوش الاب و الرجل الانجليزي اعلاه و عدم الضياع في متاهات الكلام الانشائي الذي يبرع به العرب وعليهم ايضا استخدام مقاربات منهجية لكل تحليل من تحليلات المواد الاعلامية . بشكل عام تشترك هذه المقاربات بمكونات عامة لابد للمحلل من معرفتها واتباعها عند القيام بعملية التحليل
هذه المكونات هي
تحديد لب الموضوع المراد تحليله بدقة وتحديد نوع حقله : اهو سياسي او اقتصادي او…..؟
تحديد ومناقشة السوابق ( الاحداث والاوضاع القبلية)التي تحيط بالموضوع
تحديد اللواحق( الاحداث والاوضاع البعدية )التي اترت او قد تؤثر بلب الموضوع
ان تكون المعطيات المراد تحليلها اصلية او عفوية او كلاهما
بعد وضع المقاربة التحليلية يجب تطبيقها على المعطيات حسب ترتيب الاولويات ومن ثم البدء بالتحليل. اثناء التحليل سوف يصل المحل الى نمط من الاحداث او الاوضاع التي تؤهله الى الوصول الى خلاصات حول الموضوع.
ولرب سائل يقول كيف للمحل ان ينتقي المقاربة ويطبق ويحلل الحدث ويصل الى نتائج وتوصيات في فترة زمنية قصيرة وعادة تكون دقائق؟
الجواب على ذلك هو ان الامر بسيط جدا بالنسبة للمحلل الممارس او المتخصص كما هو الحال في العديد من المهن ولكن المفارقة عندنا في الشرق هو ان المحلل احيانا يمارس عمليا مهنة اخرى ويتكسب من مهنة التحليل الخبري كعمل اضافي .
و عندنا ايضا في العالم العربي السلاح الغالب للمحلل هو الاسلوب الانشائي الناري البعيد عن المنطق والذي لا يخلو من مواقف يتبناها المحلل الى جانب الجهة التي يميل اليها ومحلل الاخبار العربي عادة يميل الى الخوض في الموضوع المراد تحليله دون تحديد مساره كما ان المحلل هذا :
ليس لديه ما يكفي من المعلومات للتحليل
غير متخصص او متمرس في هذا المجال او كلاهما
معلوماته مغلوطة ومصادره غير موثوقة
يلزم المحلل نفسه بآراء او مواقف او معلومات غير اكيدة وذلك عن طريق قيامه بتوفير الثغرات للمنتقدين
احيانا لا يقنع محدثه ويرد على محدثه بألفاظ خشنة او نابية. كما حدث في احدى القنوات الفضائية عندما سئلت المذيعة المحلل العربي : هل تعتقد ان السبب الرئيسي للحرائق في اليونان هو التغير المناخي وليس حرائق متعمدة ؟ فأجابها المحلل :طبعا وهل يخفى عليك ذلك.
المحلل هنا ضمنيا او تلميحا يتهم المذيعة بالجهل وهذا اسلوب خشن والاجدر به الاجابة بكلمة ” بالضبط احسنت” او” قد يكون هذا او ذاك سيدتي “ويبدأ بإكمال الموضوع
كل هذا يدعونا كاكاديميين ومشتغلين في ميدان الاعلام الى الابتعاد عن الاساليب الانشائية النارية ومحاولة عدم الوقوع في شرك الاتهامات والادعاءات غير المنطقية والتي لا تسر المتلقي وتؤدي ايضا الى انعدام ثقة المتلقي بصناعة الاعلام العربية.
ليس هذه دعوة الى التمسك بعقدة الخواجة ولكن محاولة بسيطة لتصحيح مسار التحليل الاعلامي والابتعاد عن الوقوع في شرك التنبؤات العاطفية وغير العلمية.