22 نوفمبر، 2024 9:13 م
Search
Close this search box.

دراسات في تاريخ الزرادشتية وعقائدها/ج9

دراسات في تاريخ الزرادشتية وعقائدها/ج9

دراسة تحليلية نقدية لكتاب الآفستا – الفنديداد – نموذجاً
بنى دين الآريين القديم على عبادة قوى الطبيعة (= الماء والهواء والتراب والنار) والعناصر والأجرام السماوية، وأضيفت إلى آلهة الطبيعة، منذ زمان قديم، آلهة تمثل قوى أخلاقية أو آراء معنوية مجسمّة. ويظهر أنه كانت هناك، قبل انفصال الهنود والإيرانيين بعضهم من بعض، تفرقة بين (ديْواَ)، التي يعتبر أخصّ ممثليها: ربّ الحرب (إندرا)، وبين (آسورا) (= آهورا الإيرانية)، آلهة العهد والقانون، التي كان على رأسها (وارونا) و(ميثرا). ويتّفق معظم العلماء على أن (مزدا) (= الحكيم) عند الإيرانيين، الآهورا الأكبر هو (وارونا) القديم، ولم يحفظ الإيرانيون القدماء اسمه الأصلي. والآهورات، وعلى رأسهم (مزدا)، كان لهم طابع يتميّز بالدعوة إلى الأخلاق والعمران، بعكس الشياطين التي تعبدها القبائل الرُحَّل والمحاربون واللصوص. وفي الوقت الذي دخل فيه الإيرانيون العصـر التاريخي، كان (مزدا) (مزدا آهورا أو آهرامزدا) الإله الأعلى للقبائل المستقرّة والمتمدّنة، في الشـرق والغرب.
والديانة المزدية أقدم عهداً من الديانة الزرادشتية، وليس (مزدا) إلهاً لقبيلة أو لشعب، بل هو إله العالم والناس جميعاً. وعلى هذا كانت الصلات بين الناس والقوى السماوية أكثر صفاءً في الديانة المزدية منها في ديانات آسيا الوسطى (= البوذية والشامانية وغيرها). ويبدو باعث الأخلاق بصفائه التام في هذا الدين. وبهذين الوصفين، العموم والصفاء، بدأ المذهب الإيراني تأثيره على الأفكار الدينية في الشـرق الأدنى.
وبهذا الصدد يذكر المستشرق الدانمركي آرثر كريستنسن (المتوفى سنة 1945م) القول: “الظاهر أن زرادشت ادّعى النبوّة نبيّاً لمذهب مزدي معدّل في الشـرق، ربّما كان في الإقليم الذي به أفغانستان الحديثة، وذلك في القرن السابع ق.م”. ايران في عهد الساسانيين، ترجمة: يحيى الخشاب، راجعه: عبدالوهاب عزام (بيروت: دار النهضة العربية، د،ت)، ص19-20.
وفي هذا الإقليم الذي سكنته قبائل زراعية مستقرة أو شبه رحّل، لها مدنية على جانب من الأهمية، والتي كانت مهدّدة دائماً بهجمات المغيرين من القبائل الرحّل، وفي هذا الإقليم انتقلت العداوة من الميدان السياسي إلى ميدان الدين. فعند (زرادشت) تعتبر الديوات شياطين مؤذية؛ ولِمَا كان بين الفريقين من الآلهة من تفاوت، نمت عنده فكرة الصراع بين الروحين، اللذين وجدا منذ خلق العالم، ألا وهما: روح الخير، وهي نوع من تجلي مزدا، وروح الشـر، أو أنرامينو في الإشارات العادية من أجزاء الآفستا الأكثر حداثةً. وهناك ستة آلهة من بين مساعدي مزدا، وهم الذين سمّوا في عهد متأخّر التسمية العامّة: (أمشاسبنتا) (= القوى الخالدة)، وهم: (وهو منه) (= الفكر الطيب)، (أشاوهيشتا)(= خير الحقائق)، (خشتريا ويريا) (= التسلّط المطلوب)، (آرمايتي) (= الخضوع)، (هَوروَتات) (= الكمال أو الصحة)، (أميرتات) (= الخلود)، ويضاف إليهم سابعهم (سبنتامينو) نفسه.
وقد يكون مستتراً وراء هذه الأسماء المعنوية أسماء آلهة قديمة للطبيعة والعناصـر، فمثلاً (آرميتي) هي من غير شك آلهة الأرض في الأصل. ومن آلهة دين زرادشت: (سروشا) (= الطاعة). أمّا الآلهة الشعبية، فما لم تكن مستعملة في الطريقة الجديدة تحت أسماء معنوية، فإن زرادشت يعدّها بين الشياطين، أو يهملها. وأخبث الشياطين التي تساعد روح الشـر: (ائشما)، وهو تمثيل لقسوة الرُحَّل المغيرين.
ومن جانب آخر فبين (الآفِستا)، التي تسمّى (الآفستا القديمة)، والتي تكون الكاتات – الكاثات لباً لها، و(الآفستا الحديثة) اختلاف بيّن في تعدّد الآلهة، وفي الأفكار الدينية. ولم يكن ممكناً أن تلغى الآلهة الشعبية على مرّ الزمان، واضطرّ المغان من الزرادشتيين إلى الاعتراف بهذه الآلهة، بجانب الآلهة المذكورين في (الكاتا). وقد وجد في الدين المزدي، في إقليم بكتريا (= خوارزم في العهد الإسلامي) في إيران الشـرقية، قبل إصلاح زرادشت، يشتات (= جمع يشت) أو أدعية موجهة للآلهة الشعبيين، لـ(ميثرا)، إله الميثاق أو العقود، وفي الوقت نفسه رب النور، وللآلهة (أردوى سورا)، الملقبة بـ(أناهيتا)، إلهة الماء والخَصب (وتسمى عشتار في العراق القديم، وأفروديت عند اليونانيين القدماء، وفينوس عند الرومان). وللنجم (تشتريا) (= عطارد)، الذي تبيّن أنه سيريوس، و(لوثرغنا)، إله الحرب (= الهجومية) والنصـر، ولـ(خوارنة) الذي به مجد وإقبال الملوك الآريين، وللملائكة فروشات (= جمع فروش)، حماة المؤمنين.
وقد أدخلت هذه اليشتات في المذهب الزرادشتي، كما ألّف موابذة المذهب المعدّل يشتات زرادشتية بحتة، أضافوها إليها. واليشتات القديمة، التي تحتوي على إشارات قيّمة للتاريخ الخرافي للإيرانيين، ولتاريخ إيران الشـرقية قبل زرادشت، تكون أقدم أجزاء الآفستا الحديثة، والحقيقة أن هذا النوع الأدبي أقدم من الكاتات . آرثر كريستنسن، ايران في عهد الساسانيين، ص20.
وقد ظلّت الزرادشتية مدّة قرون كأنها غريبة في وسط المزدية الإيرانية القديمة، المزدية التي كانت تتطوّر، مع تفاوت ضئيل في أقاليم إيران المختلفة. فمثلاً كان هناك بعض التفاوت بين المزدية، التي يدين بها الفرس الأخمينيون، وبين عقيدة المجوس في منطقة ميديا. ولكن في الوقت الذي وصف المؤرخ اليوناني (هيرودوت) عقائد الفرس والميديين ونِحَلِهم، لم يكن اصطلاح الزرادشتية قد تغلغل في الغرب بعد؛ فإنا لا نجد المزدية الزرادشتية عند مجوس ميديا إلا منذ القرن الرابع ق.م، وهي تختلف في بعض المسائل عمّا جاء في مزدية الكاتات، وفي الآفستا الحديثة. ويتبيّن من إحدى العقائد الإيرانية القديمة للغاية، التي تركت آثاراً غامضة في الكاتات، أن إلهي الخير والشـرّ كانا أخوين، أو توأمين، وهما ولدا زِرُوان الزمان اللامتناهي. وقد خرجت عبادة ميثرا مختلفة عن المزدية، ومتأثّرة كثيراً بعلم النجم الكلداني، الذي ترعرع عند مجوس آسيا الصغرى، وهي العبادة التي تعتبر ميثرا إله الشمس، وقد انتشرت في الإمبراطورية الرومانية. وقد اعتنق (زروان) عبادة ميثرا، وكذلك أتباع سائر الفرق المذهبية، الذين كان بعضهم يمارس عبادة الشياطين، ويعبد (أنكرامينو).
وقد ألّف في أول عهد البرث الأشكانيين (250ق.م – 224م) الكتاب الأفستي: ونديداد – فنديداد – وى ديوداد – (الشـريعة المضادة للشياطين)، أو شـريعة مقاومة الشياطين، وهو يتضمن القانون الديني للزرادشتية. وكانت اللغة الأوستية حينذاك لغة ميّتة، يجد رجال الدين عناءً (= صعوبةً) في المحافظة عليها. وهذا الكتاب (= وندياد – فندياد) يحوي مجموعة من القواعد والمراسيم، تختلف قليلاً فيما بينها، باختلاف الأقاليم، لأنّا نجد هنا وهناك متناقضات واضحة. آرثر كريستنسن، ايران في عهد الساسانيين، ص23-24. ولذا تهتم جماعة البارسيين (= الزرادشتيين) التي تعيش في الهند، بهذا القسم اهتماماً كبيراً ). ينظر: محمد العريبي، الديانات الوضعية المنقرضة (بيروت: دار الفكر اللبناني، 1995م)، ص215.
وهذا الكتاب يتناول الأنواع المختلفة من النجاسات والآثام، ووسائل الطُهر والتَوبة. ثمّ يبحث في العدوان، وقتل الكائنات الآهورية (= الرجال والكلاب وكلاب الماء)، ويحفل بالجثث التي ينبغي وضعها فوق الداخمات المشيّدة من الآجر (وهي أبراج الصمت، كما تسمّى أحياناً في أيامنا)، وذلك كي تنهشها جوارح الطير، فقد حُرِمَ تحريماً باتاً تلويث العناصـر(= الماء والتراب والهواء والنار) بالدفن، وحرق الجثث. وكذلك يبيّن الكتاب النجاسة التي تلحق من يلمس جثة آدمي، أو حيوان ميت، أو من يلمس إمرأة حائضاً، وما أشبه ذلك. ويذكر (الفندياد) أسماء فردية لجماعة من الديدان، أو الشياطين، والدروغات، أو الشيطانات، والبيريكسات أو الساحرات. وهؤلاء أعوان إله الشـر، أمثال الشياطين: إندرا، وسوروا، ونائون هاى ثي، وهي آلهة قديمة هندية – إيرانية، ومنها: آبا أوشا، العدو الخاص للإله تيشتريا، وبوشياشتا الشيطانة الموكّلة بالنوم، وناسو شيطان الجثث والمواد الميّتة، وأمثالها.
وفي التاريخ البارسي (= الفارسي) أن نصّاً من الكتب المقدسة الزرادشتية قد دوّن بأمر ملك برثي – أشكاني اسمه (بلاش)، يحتمل أن يكون بلاش- ولغاش الأوّل (51 -77/78م). وبمجيء الساسانيين، اتحدوا مع رجال الدين الزرادشتيين، وقد استمرت هذه الصلات طيلة العهد الساساني. وقد أمر الملك الساساني أردشير الأوّل (241-272م)، كما تقول الروايات الفارسية، بعد أن ولى عرش إيران الهربدان هربد (تنسـر)، بجمع النصوص المبعثرة من الآفستا البرثية – الأشكانية، وبكتابة نصّ واحد منها، ثم أجيز هذا النصّ، واعتبر كتاباً مقدّساً. ثم جاء الملك شابور الأوّل ابن أردشير الأوّل، وخليفته، فأدخل في هذه المجموعة من الكتب المقدّسة النصوص التي لا تتعلّق بالدين، والتي تبحث في الطب والنجوم وما وراء الطبيعة، والتي كانت موجودة في الهند واليونان وغيرها من البلاد. يحيى الخشاب، فصل في إسلام الفرس، في كتاب، تراث فارس، أشرف على نشره: أ.ج. أربري، نقله الى العربية: محمد كفافي وزملائه (جامعة القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، 1959م)، ص5.
ولكن الكتابة العائدة إلى الملك الساساني شابور الأوّل، المنقوشة في معبد النار في نقش رستم، لا تشير إلى أن الآفستا قد دوّنت في عهده، بل يرجّح الباحثون أن الخط المدوّنة به يرجع إلى القرن الرابع، أو لعله السادس للميلاد. طه باقر وزملائه، تاريخ ايران القديم (رئاسة جامعة بغداد: مطبعة جامعة بغداد،1980م)، ص105.
وقد أمر شابور الأوّل (272-241م) بوضع نسخة من الآفستا، التي حرّرها الهربدان تنسـر، في بيت نار آذر كشنسب، الواقع في مدينة (جنزك)، في إقليم (شيز) بمنطقة آذربيجان، وأضيفت إليها الزيادات الجديدة. ولكن الخلافات الدينية ظلّت مستمرة. فأمر شابور الثاني(379-309م)، لكي يضع لهذه الخلافات حدّاً، بعقد مجمع مقدّس يرأسه الموبدان موبد (آذربد مهر سبندان)، الذي حدّد نهائياً نصّ الآفستا، وقسّمها إلى واحد وعشرين كتاباً (= نسكاً)، على عدد الكلمات المقدّسة (يتا آهورا ويرو). وتقول الرواية إن (آذربد) أثبت قداسة النصّ، فيما يحكى بأنه أدّى الابتهال بالنار (وهو صبّ المعدن المذاب على صدره). آرثر كريستنسن، ايران في عهد الساسانيين، ص131.

 

أحدث المقالات