كما لا يمكن نسيان مساهمات المستشرق الفرنسي اليهودي جيمس دارمشتاتر الرئيسية في ترجمة الآفستا الى اللغة الإنكليزية التي أعدت بالتعاون مع إل إتش ميلز، وبتحرير المستشرق واللغوي الأنكلو- ألماني ماكس مولر(1823-1900م)، وتم نشرها في سلسلة الكتب المقدسة للشرق (المجلد 4 ، 23 ، 31 ، 1883-1887م). وفي التعليق التاريخي لهذه الترجمة لـ Avesta الى الإنكليزية أقتنع دارمشتاترأن هذه الكتب المقدسة – كونها في الواقع كتاب صلاة، ومجموعة من الطقوس – لا يمكن فهمها إلا من خلال دراسة الدين الذي لا يزال يمارس من خلاله طقوسهم؛ لذلك وفي فبراير/ شباط عام1886م، فورانتخابه لرئاسة قسم اللغات الإيرانية في الكولج دي فرانس، غادر باريس متوجهاً إلى مدينة بومباي في الهند، مقر جماعة البارسيين الهنود، وشكلت الأشهر الثلاثة عشر التي قضاها في الهند، في كثير من النواحي، أهم فترة في حياته، ففي بومباي تعرَّف على حكماء طائفة الزرادشتية، وقرأ مخطوطات لا تقدر بثمن مع رجل الدين البارسي الزرادشتي (تحموراز الموقر)؛ وناقش إشكالية الطقوس الزرادشتية وعرضها بصورة تتلائم مع اليقظة والعقلية الحديثة مع رجل الدين البارسي الزرادشتي (يفانجى مودي)؛ ووضع هناك الأساس لترجمة (الآفيستا) التي تعد حقبة تاريخية، وهناك أيضًا توصل إلى استنتاج مفاده أن آثار الأفيستا قد بولغ فيها إلى حد كبير من قبل العلماء الإيرانيين؛ وأن الكتاب المقدس الزرادشتي يحمل آثارًا ليس فقط للبوذية، ولكن أيضًا للكتاب المقدس اليهودي(= العهد القديم)، ولا سيما الفلسفة الأفلاطونية الحديثة، أعتقد دار مشتاتر أن القسم الأول من المخطوطات الباقية من الأفيستا يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، في حين أن الأقسام التالية ستكون قد ظهرت بعد قرنين من الزمان. ينظر: كتاب الفنديداد أهم الكتب التي تتألف منها الابستاه، نقله من الفرنسية: الدكتور داود الجلبي(1885 – 1961م)، قدم له: جرجيس فتح الله، أربيل، دار ئاراس،2001م، ص16 – 17، نقلاً عن عن معجم السيرالفرنسية.
والمستشرق الآخر الذي كان له اسهام كبير في الدراسات الايرانية الخاصة بالافستا وزرادشت، هو أبراهام ويليامز جاكسون A.v.WILLIAM JACSON ، وُلد في مدينة نيويورك في 9 فبراير/شباط 1862م، وتوفي في 8 آب/ اغسطس عام 1937م، تخرج من جامعة كولومبيا عام 1883م. وكان زميلًا في الآداب هناك من عام 1883 إلى عام 1886م، ومدرساً للغة الانكليزية واللغات الإيرانية من عام 1887 إلى عام 1890م. بعد الدراسة في جامعة هاله من عام 1887 إلى عام 1889م، أصبح أستاذاً مساعداً للغة الإنكليزية وآدابها. في عام 1895م تم تعيينه محاضرًا عامًا، وعُين أيضًا في منصب أستاذ اللغات الهندو- إيرانية الذي تأسس حديثًا في جامعة كولومبيا، حيث ظل فيها حتى عام 1935م، وفي عام 1901م زار الهند وسيلان، وتلقى اهتمامًا خاصًا من إحدى عائلات بارسيي الهند المشهورة، الذين أهدوا الى جامعة كولومبيا مجموعة قيمة من المخطوطات الزرادشتية تقديراً للجهود والمساهمات التي قدمها جاكسون لهم في التعريف بنصوصهم القديمة. وفي عام 1903م قام برحلة ثانية إلى الشرق، وهذه المرة زار إيران أيضاً، كما زار آسيا الوسطى في وقت ما قبل عام 1918م.
ولا تزال نظرية جاكسون حول تاريخ زرادشت، وتاريخ الآفستا اللغة المستخدمة في الأسفار الزرادشتية المقدسة، تعد العمل الأساسي في هذا الموضوع ولها الريادة، وكان جاكسون أحد مديري الجمعية الشرقية الأمريكية، نشرعدة كتب مهمة، منها: ترنيمة زرادشت عام1888م وهو كتاب نحوي مقارن بين لغة الافستا واللغة السنسكريتية، وكتاب الآفستا Avesta عام1893م، وكتاب نبي إيران القديمة عام1898م، بلاد فارس الماضي والحاضر عام1900م، والكتالوك الوصفي للمخطوطات الفارسية عام1906م، في متحف متروبوليتان للفنون في عام1913م، من القسطنطينية إلى منزل عمر الخيام عام1911م، مسرد (= فهرس) وصفي للمخطوطات الفارسية قدمه إلى متحف المتروبوليتان للفنون أ.س.كوكران في نيويورك عام1914م، وبالاشتراك مع أ. يوهانان، نشرالأدب الفارسي المبكرعام1920م، كما قدم العديد من المساهمات في مجلة الجمعية الشرقية الأمريكية، و قام بتحرير سلسلة جامعة كولومبيا الهندية الإيرانية في (13 ) مجلدًا، صدرت في نيويورك ما بين الاعوام 1901-1932م.
وكان البارسيون الهنود في تلك الحقبة قد ساهموا مساهمة كبيرة في دراسة ديانتهم الزرادشتية، وبالاخص في مجال إصدار ونشر النصوص البهلوية، ولكن كان هناك نواقص في تطور البحوث اللاهوتية، عندئذٍ قررت مجموعة من الإصلاحيين الزرادشتيين بقيادة (خورشيدى كاما) أن يرسلو كاهناً شاباً من ( بانت بهاكاري) وهو: (مانكجي دهالا) الى نيويورك للدراسة على يد المستشرق الامريكي (وليم جاكسون) المختص في علم اللغات الايرانية والسنسكريتية. بعدها أعلن (دهالا) في مذكراته بأنه” ترك الهند مؤمناً زرادشتياً مخلصاً، ولكن بعد أن قضى ثلاث سنوات ونصف في الخارج بات يقارن بين عقائده التقليدية وبين المفاهيم العلمية الغربية، فكانت النتيجة بأنه أهمل طقوسه الدينية…”ماري بويس، تاريخ الزرادشتية من بداياتها حتى القرن العشرين، ترجمة خليل عبدالرحمن، السليمانية، منشورات مركز الدراسات الكوردية (كوردولوجي)، 2010م، ص238. أي بعبارة أخرى فإنه ترك الزرادشتية التقليدية (= الارثوذكسية)، وأصبح زرادشتياً إصلاحياً وفق النمط الغربي.
وقد توصل المستشرق الأمريكي وليامز جاكسون إلى نتائج عن اللغة الأفيستائية بعد إجراء أبحاث عن زرادشت وديانته نجملها فيما يلي :
أن زرادشت شخصية تاريخية، وأنه من طائفة المغ إحدى طوائف الماديين الستة، الذين يسمون بالمجوس .
أنه عاش تقريباً في أواسط القرن السابع قبل الميلاد، أي قبل ظهورالماديين، وتوفي سنة 583 ق.م، وله من العمر 77 عاماً .
أن زرادشت من غرب إيران، إما من ” أتروباتن ” ATROPATEN ماد الصغرى وحالياً آذربيجان) أو ماد، وأول انتصاراته كانت في مدينة بلخ عندما اعتنق مذهبه الملك ويشتاسب (= كشتاسب).
تعتبر الجاثات، وهي أقدم أجزاء الأفستا، جوهر مواعظه التي قالها في بلخ، حيث تنعكس فيها الأمانة والصدق .
إن عقيدة زرادشت انتشرت أولاً في بلخ (= افغانستان الحالية)، وأن اللغة الأفستائية كانت مستخدمة في بلخ القديمة (باكتريا )، وأن اللغة الباكتيرية كانت لغة تعاليمه، ولم يكتب بها سوى كتاب الأفستا . أما الأهازيج القديمة المسماه بالجاثات فإنها نظمت بلهجة أخرى، وأن اللغة الأفستائية لها حروف خاصة بها مستخرجة من الخط البهلوي، واللغة الأفستائية لها مزايا عدة.
ويلاحظ أيضاً أنه ذكر مدينة (هكمتانا – همدان) التي كانت عاصمة إيران في القرن السابع قيل الميلاد، وكانت تعتبر من المدن الشهيرة في العالم القديم حتى قبل الميلاد، حتى قبل أن تكون عاصمة الماديين، كذلك أشارت الأفستا إلى مدينة بابل بصورة مؤولة على شكل ( بواراى Bawray ) أي بابليون، أما الشعب الذي تحدث عنه كتاب الأفيستا فمذكورأنه شعب بسيط للغاية، وله نفس صفات الحياة البدائية للآريين القدماء .