تسمية زرادشت
ولـ(زرادشت) تسميات عديدة حسب اللغات الآفستيّة والفارسيّة القديمة، والبهلوية الوسطى؛ فهو “زردشت، زرادشت، زرتشت، زرتشتر، زرتشترا، زرادهشت، زردهشت، زرتوشترا، زردشتر، زرين شتر، زرين هوش…”، وهو ابن بورشَب، من أسرة سَبتيمان في (أذربيجان)، في بلدة قريبة من مدينة أورمية – أرومية، وقد سمّيت في العهد البهلوي باسم (رضائيّة)، تيمّناً باسم شاه إيران (رضا بهلوي)، وينتمي والد (زرادشت) إلى إقليم أذربيجان، وتحديداً من مدينة (الري)، بناءً على ما ذكره الشهرستاني في كتابه (الملل والنحل).
أمّا كتاب (زرادشت) الديني، فيُعرف باسم (آفستا- آوستا Avesta)، و(آفستا) مجموعة مؤلفة من خمسة أجزاء مستقلة، أو خمسة كتب، اختلف في تاريخ تدوينها، وأقدم قسمٍ منها يرجع إلى عصر (زرادشت) نفسه. وهو يشتمل على أقواله وتعاليمه، التي جمعها من بعده تلاميذه وأتباعه الأوّلون، ودوّنوها، ثم أضاف إليها رجال الدين (المجوس) القدامى من “الأحكام والتقاليد الدينية”، وهكذا استكمل بالتدريج أقسامه الخمسة، وظهر بشكل كتاب ديني موحّد، كان ولا يزال معوّل القوم في عبادتهم وأحكام دينهم.
وتذكر المصادر الإسلامية أنّ (الآفستا) دوّنت في عهد الملك كشتاسب (= ويشتاسب)، في المصادر اليونانيّة ( (Hystasp، على جلد اثنتي عشر ألف بقرة، وبنسختين، احتفظ الملك بنسخة منها، وأرسل الأخرى إلى مدينة (برسيبوليس) (= اصطخر) عاصمة الإمبراطوريّة الأخمينيّة الفارسيّة.
وعندما قضى (الإسكندر المقدوني) على الإمبراطوريّة الأخمينيّة سنة330ق.م، وأحرق العاصمة (برسيبوليس)، في نشوة فرح أثناء شربه الخمر مع جنوده، التهمت النيران أجزاءً كبيرة من (الآفستا)، ولم يسلم منها إلا الربع أو الثلث.
وفي عهد الدولة البرثيّة الإشكانيّة (= ملوك الطوائف في المصادر الإسلامية)، أمر الملك ولغاش الأول (51-78م) بجمع كلّ أجزاء الآفستا المتفرقة، المكتوبة منها أو الباقية في صدور رجال الدين (المجوس) عن طريق التواتر، فأعيد كتابتها باللغة البهلويّة (= الفارسيّة الوسطى).
وبعد مجيء الساسانيّين إلى الحكم، أمر مؤسس الدولة أردشير الأول بن بابك بن ساسان (224-241م)، بجعل الزرادشتيّة الدين الرسمي للدولة الساسانيّة، وأمر أحد كبار رجال الدين، وهو الهربدان هربد (تنسر) بجمع النصوص المبعثرة من الآفستا البرثيّة، وكتابتها باللغة الساسانيّة (= البهلويّة الساسانيّة)، فقام (تنسر) بعمله، وبعد أن أتمّه عرض النص على بقية كبار رجال الدين من (الهربدان) و(الموبذان) في الدولة الساسانية، وإثر موافقتهم عليه، أجيز من قبل الملك أردشير الاول.
وعندما جاء إبنه الملك شابورالأول (241-272م)، أمر بشرح نصوص الآفستا، وزيادة نصوص أخرى عليها، لم تكن تتعلق بالدين فقط، بل كانت تبحث في علوم الطب والنجوم والميتافيزيقيا (= الغيب)، والتي كانت بحوزة بلاد الهند واليونان وغيرها من البلدان، وقد سمّيت تلك الشروح وما زيد على الآفستا البرثيّة باسم (زند آفستا)، أي: (شرح آفستا)، ووضع الملك نسخة من (الآفستا) و(الزند) في معبد نار (آذر كُشَناسب)، الواقع في مدينة (شيز) الواقعة جنوب بحيرة أورمية.
ولكن ظهر الخلاف فيما بعد بين بعض رجال الدين الزرادشتي حول تلك الزيادات، وبعض النصوص الأخرى، فأمر الملك شابور الثاني (309-379م) بعقد (مجمع – مؤتمر ديني) لوضع حد للخلافات بين رجال الدين، برئاسة الموبان موبد (آذر بد مهر سبندان)، الذي حدد نهائياً نص (الآفستا)، وقسّمها إلى واحد وعشرين نسكاً (سفراً- قسماً)، على عدد كلمات الصلاة المقدسة (يتا آهرو ئيريو)، ولإثبات قداسة هذا النص أدى الموبدان موبد(آذر بو مهر) الابتهال بالنار، بصبّ المعدن المذاب على صدره، على طريقة زرادشت.
تعاليـــم الزرادشــــتيّة:
أهم خصائص دين (زرادشت)، من خلال ما ذكر في كتابه، هي: التثنية، أي الاعتقاد بوجود قوتين تسيطران على هذا العالم: قوة الخير وقوة الشر، أو إله الخير، والشيطان. وقد نادى بعض أعلام الباحثين، في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، بأنّ دين زرادشت دين توحيدٍ ناقص، وأوّل من قال بذلك المستشرق الألماني مارتين هاوك Haug(1827-1876م)، الذي يؤكد بأنّ دراسة الكاثات (= الأناشيد)، وهي الجزء الوحيد من الآفستا الذي يمكن أن يُنسب إلى زرادشت؛ تقنعنا بأنّ زرادشت لم يجعل الشيطان ندّاً لله، كما يُفهم من النصوص المتأخرة من الآفستا.
وكما تعلم (هاوك) من (الكاثات)، فإنّ الله واحدٌ لا شريك له في إيمان (زرادشت)، وأنّ (سبنتامنيو SpentMainyu الروح الطيب)، و(أنكرامينيو AnkraMainyu ) الشيطان، ليسا إلا (صفتين) مزعومتين من صفات الله، يخلق بها الأضداد من خيرٍ وشرٍ، ونورٍوظلام، وصحةٍ ومرض، ونصرةٍ وذبول، وما إلى ذلك. وقد تحمّس (البارسيّون المحدثون)، وهم أتباع زرادشت المقيمين بغرب الهند في الوقت الحاضر، وتحديداً في مدينة (بومباي)، تحمّس هؤلاء لهذه النظرية، وعملوا على ترويجها؛ منادين بأنّ دينهم دين توحيد.. واتخذوا من هذه الدعوى سلاحاً يواجهون به نشاط المبشرين المسيحيين، الذي كانوا يصفون الدين الزرادشتي بأنّه دين شرك ثنوي يدعو إلى الاعتقاد بوجود إلهين: آهورامزدا، وأهريمن.
غير أنّ هذه النظريّة لم تلاق قبولاً من جميع الباحثين، الذين يرى القسم الأكبر منهم أنّ التثنية هي أهم خصائص دين زرادشت؛ فالمعلوم من تعاليمهم أنّ العالم منقسم إلى قسمين كبيرين بينها هوّة واسعة، وعلى جانبـي هذه الهوة تقوم مملكة النور ومملكة الظلام، أي عالم الخير وعالم الشر، والله هو في ذلك النور اللانهائي، كما يظنّون، وهو نور السموات والأرض، وفي الظلام اللانهائي يقيم الشيطان.
وفي هذا الصدد يقول المستشرق البريطاني (كيريشمان) المتخصص في معرفة إيران:
“إنّ دين زرادشت لم يكن مبنيّاً على أساس التوحيد، إلا أنّه في العهد الساساني تقبّل التوحيد تأثراً بنفوذ الأديان الكبرى كالمسيحيّة”. ينظر: إيران أز أغاز تا إسلام. إيران إلى الغزو الإسلامي، ص 264، والمعلوم أنّ الدين الذي بشّر به المسيح عليه السلام كان قد داخله الشرك والتثليث عدا ما آمن به الآريسيّون، أتباع آريوس. فهل أنّ زرادشت آمن بالله إلهاً واحداً، وأنّ من خلفه، أو حرّف أو غلا في دينه، كانوا وراء تعظيم الشر، والتخويف منه، لحدّ جعله إلهاً، وجعل شريكٍ لله “ملكاً” سمّوه قوة خير، أو الشيطان، ذلك ما يراه أحد الكتاّب الذي يرى أنّ الزرادشتيّة إختلط فيها الحق بالباطل.
ويرى بعضهم أنّ الفصل في هذا الأمر حول توحيديّة إيمان زرادشت أو ثنويّته يكون بالعلم بما كان يراه من قوله في الخالق الذي سمّاه “آهورا مزدا” هل هو خلق الشيطان الذي سمّاه الأهريمان؟ أم أنّه يقول بأنّ الشيطان لم يُخلق؟ وكما يُقصّ عنه فهو كان يرى أنّ آهورا مزدا أو (سبنت ميئينو) أعظم من أن يخلق الشر؛ وأنّ أساس الإيمان بإله واحد لا يثبت على هذا الأسلوب من التفكير، سواءً كان آهورا مزدا خلق أهريمن أو لم يخلق.. فإذا ثبت أنّه ذهب إلى القول الأول فقد تم المطلوب، وثبت أنّ دين زرادشت دين توحيدي… ومع ذلك يبقى الشكّ يحوم على ما إختلط بهذا الدين من تحريف وزيادة. لكنّ بعض الآثار ومنها ((الكاثات)) الأناشيد الواردة في الآفستا يُعلم منها: أنّ الشر كان يشغل بال زرادشت كثيراً، تماماً كسائر القدماء الآخرين، وأنّه كان يقول: إنّ هذا العالم ليس على وفق التقدير المعقول الذي يقتضي أن يكون عليه؛ لوجود الشر فيه، سواءً كان آهورا مزدا خلق أهريمن “الشيطان”، أو لم يخلقه… ؟!. أنظر: مرتضى مطهري: الإسلام وإيران.. عطاء وإسهام، دار الحق، بيروت، 1993م -1414هـ، ص176.
ويتساءل ذلك البعص عن (أنكرامي نيوش) أو الشيطان، ما دوره؟ هل يخلق شيئاً، كما ذكر في الآفستا؟ أو أنّه يعملً بإرادة الله الذي يسمّى آهورا مزدا؟ فإن زعم أنّه يخلق فقد إتخذوا لآهورا مزدا شريكاً في الخلق، وهذا هو الشرك بحد ذاته، وان لم يكن له خلقٌ بنفسه، فلا أثر مستقلاً له، ولا داعي أن نظنّ أنّ الله يرضى بالشر.. والحقّ أنّ الله يبلونا بالشر والخير، والزرادشتيّة قد حُرّفت، وتمييز تحريفها غير ممكن، والأفضل تحكيم القرآن والرضا بالإسلام ديناً كما رضي به آباء هذه الشعوب. وحينذاك يتبيّن للجميع أنّ الله خلق كلّ شيء، ومنه إبليس الذي لم يكن قد عصى ربّه بعد، كما خلق الملائكة لتدبير أمر الخير الذي جعل لهم، فالله بيده الخير، والشر من عمل العامل أيّاً كان. وتقديس النار، وجعلها رمزاً ومطافاً، أثرٌ من التحريف، والغلو، والضلال.
إنّ جذور الثنويّة تنشأ من تصور البشر أنّ الأشياء على نوعين: خيرٌ وشر، لكنّ ذلك لا يقتضي وجود مبدأين للخير وللشر، والأسماء الحسنى لا يضيرها ما نراه في الحياة من شر لأنّ ذلك قد أبتلي به الإنسان. فلم يُفترض مبدأً آخر للشر، فإنكار الإنسان إمكان وجود شر في العالم – والله لا يرضى بعمل الشر – هو الذي جره إلى إفتراض مبدأ آخر للشر يقتضي أن يُتقى، سواءٌ ظنوه مخلوقاً، أو زعموه شريكاً في الملك، أو الخلق، أو ما سواه من أسماء الله.. والحق أنّ هذا الأسلوب من الفكر يحار في مسألة الخير والشر، ليس من شأن نبي ولا فيلسوف، وإنّما هو من شأن متفلسف ناقص في الفلسفة والفكر والبرهان . مرتضى مطهري، المرجع نفسه، ص176-177.
وعلى هذا يمكن القول أنّ دين زرادشت ليس ديناً توحيديّاً ناقصاً كما يقول الباحث الدانماركي المتخصص في الإيرانيّات آرثر كريستنسن، وقد يكون فلسفة ناقصة. إيران في عهد الساسانيّين، ص5، إذ هو أشبه بحال متفلسف ناقص في الفلسفة. مرتضى مطهّري: المرجع السابق، ص177- 178.