وعلى الصعيد نفسه يذكر الصحفي يونان هرمز المترجم للصحفيين الأجانب القادمين الى مناطق قيادة الحركة الكردية في أيام ثورة ايلول 1961 – 1975م، بقيادة الزعيم الكردي ملا مصطفى البارزاني، ما نصه:” … أتذكر أني كنت مرة مع كاك محسن دزه يي وخال عزيز عقراوي(= قياديين في الحزب الديمقراطي الكردستاني العراقي في تلك الحقبة) وهما محملان برواتب البيشمه ركه ومعي الصحفي الانكليزي (ديرك كينان ) مراسل جريدة الاوبزرفر البريطانية، ترافقنا مفرزة من البيشمه ركه ونحن في طريقنا الى هيزي سه فين وده شتى هه ولير، إننا اضطررنا بسبب حلول الظلام وهطول المطر الغزيز الى اللجوء الى مضاربهم (= الكوجر- البدو الكُرد القادمين من مرابع الزورزان في كردستان تركيا)، وهم معلقون بين السماء والارض على سفح الجبل الذي يقع فوق بيتواته (= كيوه ره ش المطل على قضاء رانية الواقعة شمال غرب مدينة السليمانية)، فنحرو لنا الذبائح وأضرموا لنا النيران لتجفيف ثيابنا. لقد غمرونا بكرمهم الحاتمي، فأمضينا ليلتنا في ضيافتهم. ولما وصلنا مقر هيز(= لواء) سه فين في هيران (= ناحية تقع شرقي شقلاوة وتابعة لها) ونازنين، أخذ (الخال عزيز) يطلعنا على ملف ضخم يضم بين دفتيه أوراقاً وقصاصات لمعجمه الكردي الانكليزي الذي كان بصدد تأليفه، فأعجبت باهتماماته الثقافية واللغوية وهو رجل عسكري. ومن خلال مناقشتي معه تبين لي أنه لا يتردد في المجاهرة بالفلسفة الزرادشتية التي كان لها بعض الاتباع في كلاله (= مقر قيادة الحركة الكردية، قريبة من الحدود الايرانية)، يتزعمهم (علي زرادشتي) بطريقة تذكرك بطرائق الفلاسفة الاغريق”. ينظر، يونان هرمز، أيامي في ثورة كردستان، اربيل ، دار ئاراس، الطبعة الثانية، 2001م، ص93 – 94.
كما تجب الإشارة إلى أن غالبية الجيل الأول من الرعيل السياسي الكردي الذين تثقفوا على أبجديات الليبرالية كانوا يضمرون نوعاً من الجفاء تجاه الإسلام كنظام حياة، أما الذين تربوا على الأفكار الماركسية اللينينية التي وردتهم عن طريق أدبيات الحزب الشيوعي السوفياتي وعن طريق الماركسيين العرب من السوريين واللبنانين، فإنهم كانوا يضمرون العداء تجاه الإسلام كدين ونظام حياة في آنٍ واحد، وهذا ما انعكس بدوره على أطروحات الجيل الثاني والثالث من هؤلاء المثقفين والسياسيين الكرد
لذا فإن الأفكار العلمانية قد غزت المجتمع الكردي مثله في ذلك مثل بقية المجتمعات الإسلامية المحيطة به، لأسباب عديدة قد لا يكون المجتمع الكردي بدعاً في هذا المجال، فضلاً عن ذلك أن الأحزاب الكردية العلمانية بشتى أصنافها من قومية ويسارية (اشتراكية وماركسية) كان لها دور كبير في تعزيز القيم المناوئة للإسلام ديناً ونظام حياة، خاصة بعد سيطرتها على مقاليد الأمور في كردستان العراق اعتباراً من سنة 1992م وحتى كتابة هذه الأسطر، ويبدو واضحاً أن الحزبين الرئيسين الديمقراطي الكردستاني (حدك) والاتحاد الوطني الكردستاني (آوك)، وبعيداً عن صراعهما على السلطة، كانا منهمكين في مواجهة الإسلاميين في نضال خفي حول التوجه الذي يجب أن تتخذه الحركة القومية الكردية، وكذلك حول تحديد هوية وتوجه حكومة إقليم كردستان العراق، فالقيادة الكردية كانت تتباهى دائماً بتزعمها حركة قومية علمانية ديمقراطية. وبالفعل كما يوضح أحد الباحثين العراقيين الماركسيين (فالح عبد الجبار) :” فإن الفكر القومي الكردي كان يتميز بصبغة إثنية علمانية تتناقض تناقضاً صارخاً مع الفكر الإسلامي الذي انتشر في العالم العربي… وأصبحت مقاتلة الإسلاميين المتشددين مشروعاً مشتركاً لـ(حدك) و(آوك) للفوز بدعم الكرد من ذوي الفكر العلماني، والنجاح في الوقت نفسه في تحسين صورة الكرد في أعين الولايات المتحدة وتوحيد الصفوف معها عشية حرب العراق”.
من جانب آخر فإن محاولة بعض المثقفين الكرد الملحدين والعلمانيين من ماركسيين ويساريين وليبراليين تخليص زرادشت من ايرانيته وفارسيته وإعادة انتاجه كنبي كردي؟، لا يقع خارج الصراع الحزبي والمناطقي في كردستان العراق، بالاضافة الى التدخلات الاقليمية، وتم الدعاية لهذا الغرض من خلال طبع إحدى أقسام الآفستا (=الكاثا – الكاتا – الاناشيد) باللغة الكردية – اللهجة السورانية، مع كتب أخرى تخص الزرادشتية على حساب مركز الفردوسي في لندن. ومن المعلوم أن الفردوسي هو صاحب كتاب (الشاهنامة) الذي يعده المثقفون الفرس (قرآن الفرس)، فما هي علاقة الكرد بالشاعر الفارسي الفردوسي المدفون في مدينة ( طوس القديمة ( مشهد الحالية) الواقعة على الحدود الايرانية – الافغانية؟.
ومن الجدير ذكره أنه تم ادراج صورة العلم الفارسي الساساني (درفيش كاويان- راية كاوه) في مقدمة أحد أقسام الآفستا المترجمة الى الكردية؛ كدليل على تضامن هؤلاء مع الفرس الساسانيين ضد العرب المسلمين، في إشارة الى معركة القادسية التي استطاع الصحابي (ضرار بن الخطاب الفهري) من قتل حامل راية (درفيش كاويان)، ولذلك منحه الصحابي القائد (سعد بن ابي وقاص) جائزة كبيرة تقديراً لشجاعته.
إن الدعاية للزرادشتية التي قد بلغت اليوم أوجها وأصبحت شعاراً لدغدغة العواطف القومية!، ليست في الحقيقة إلا ستاراً لنشاطٍ سياسيٍ مدروسٍ ومخططٍ له حدوده وأبعاده من قبل ايران وأنصارها من بعض الاحزاب الكردية اليسارية وبعض المثقفين الكُرد المعادين للاسلام، الذين يحاولون تسويق الأيديولوجيات الوهمية لملء الفراغ النفسي الذي يعانونه، بدل بناء مجتمعهم على أسسٍ قويمة تعتمد على الاصالة النابعة من القيم الاسلامية الاصلية ومن المعاصرة المطلوبة لدخول العصر؛ بعد أن فشلت محاولاتهم البهلوانية للفصل بين الاسلام والكرد، أوعلى اقل تقدير محاولات زعزعته، بالادعاء أن الاسلام دين العرب؟، وأن الزرادشتية الدين القومي للكرد؟، وأن عليهم الرجوع الى أسلافهم، وقد لاقت هذه الفكرة بعض الرواج بعد الهجمات العنيفة التي شنها تنظيم داعش الارهابي على كردستان في شهر آب/ اغسطس عام2014م، حيث تم الاعتراف بالزرادشتية مباشرةً بعد حوالي سبعة أشهر كديانة رسمية في الإقليم وتحديداً في 19/3/2015م، وقال مدير العلاقات والإعلام في وزارة الاوقاف والشؤون الدينية في إقليم كردستان (مريوان النقشبندي)، في بيان له في 1/12/2015م:” إن أتباع الديانة الزرادشتية ظهروا من جديد في كردستان، وقدموا طلبا رسميا ليكون لهم ممثل في الوزارة، وأن يتم افتتاح معابدهم الخاصة، وأن الأشهر الأخيرة شهدت عودة هؤلاء في الأوساط الجماهيرية والثقافية الكردستانية بشكل محسوس، وهو ما يشير إلى هجرة الكرد المسلمين لديانتهم والتوجه إلى دينهم القديم؟” وفق قوله.
وكان قد أعلن في أربيل في التاسع عشر من شهر آذار/مارس عام2015م، عن تشكيل المجلس الأعلى للزرادشتيين في كردستان العراق، والذي سيتولى الترويج للديانة الزرادشتية ونبيّها زرادشت!، وفقا لما أعلنه ( لقمان حاجی كریم) رئيس المجلس آنذاك ورئيس منظمة زند، في مؤتمر صحافي أقيم بالمناسبة وسط أربيل.
وقال رئيس المجلس الأعلى للديانة الزرادشتية في كردستان العراق (لقمان حاجي كريم ) أن غياب هذه الديانة كان سبباً في عدم امتلاك الأكراد دولة مستقلة، في حين أعتبرعلماء دين مسلمون أن إحياء الزرادشتية هو قضية ذات أبعاد سياسية لا غير، وأشار إلى أن أعدادهم في ازدياد مستمر، ما دفعهم إلى فتح أول معبد لهم في نهاية أغسطس/آب عام2015م في مدينة السليمانية بكردستان العراق. ويؤكد أن المجلس سيؤسس معابد أخرى في الإقليم بعد الحصول على الموافقات الرسمية من وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وبالفعل تم افتتاح مقر لهم في مدينة دهوك تحت أسم (منظمة زرادشت) في 2/9/2020م، وبعدها في 7/9/2020م تم افتتاح مقر آخر لهم في مدينة أربيل العاصمة.
وللمرة الأولى منذ أكثر من 1000 سنة، قام السكّان المحليون في منطقة ريفية من محافظة السليمانية بمراسم قديمة في شهر أيار/مايو من عام2015م؛ حيث يضع الأتباع حزامًا خاصًا يدل على أنهم مستعدون لخدمة الدين واحترام معتقداته، إنّه أمر يشبه المعمودية في المسيحية.
وتعمل وزارة الأوقاف في كردستان العراق حسب قانونها الصادر من برلمان الإقليم على “ضمان حق العبادة وحرية الدين واعتناق الديانات والمذاهب والمعتقدات لجميع المواطنين”.
وكان مدير العلاقات والإعلام في الوزارة (مريوان النقشبندي)، قد ذكر في بيان له في 1/12/2015م، قائلاً: ” إن أتباع الديانة الزرادشتية ظهروا من جديد في كردستان، وقدموا طلبا رسميا ليكون لهم ممثل في الوزارة، وأن يتم افتتاح معابدهم الخاصة، وأن الأشهر الأخيرة شهدت عودة هؤلاء في الأوساط الجماهيرية والثقافية الكردستانية بشكل محسوس، وهو ما يشير إلى هجرة الكرد المسلمين لديانتهم والتوجه إلى دينهم القديم؟” وفق قوله.
وتابع النقشبندي أنه ” لا ينظر إلى ظهور الزرداشتيين وقبلهم البهائيين بمنظار المؤامرة، وأن تكون وراء ذلك أيادٍ خارجية أميركية وإسرائيلية أو ما يسمى بالماسونية العالمية، أو الادعاءات الأخرى التي يحاول البعض من خلالها أن يتهرب من وقائع الأحداث الجارية الآن”.
وفي هذا الصدد صرح أحد كبار المسؤولين الاتراك في 2 أيار/مايو 2015م، في كلمة ألقاها خلال مراسم افتتاح مجموعة من المشاريع التنموية، بولاية بطمان في إشارة إلى معسكرات حزب العمال الكردستاني: ” نملك وثائق تؤكّد قيام القائمين على تلك المعسكرات بتعليم مبادئ الديانة الزرادشتية لعناصرهم، علينا إدراك ذلك بشكل جيد وشرحه لأخوتنا الأكراد…”.