27 ديسمبر، 2024 10:05 ص

دراسات في تاريخ الزرادشتية وعقائدها/ج21

دراسات في تاريخ الزرادشتية وعقائدها/ج21

ولكن المستشرق الدومنيكي الفرنسي توما (= توماس ) بوا (ت1975م) ينتقد هؤلاء الكتاب القوميين حول تشبثهم باليزيدية كبقايا من الدين الزرادشتي، بالقول:” ولكن أولئك الكتاب جميعاً قوميون من الكرد، يعتقدون أن اليزيديين هم بقايا سلالة الدين الزرادشتي والذي جميع الكرد يؤمنون به قديماً، ونتيجةً لذلك فلا علاقة لهم بالاسلام. وهي موضوعة من الصعب تأييدها في أيامنا هذه”. ينظر: توما بوا، اليزيديون وأصولهم الدينية ومعابدهم والاديرة المسيحية في كردستان العراق، ، السليمانية، مؤسسة زين، ص20.
ويدعم وجهة نظره بهذا الصدد في الفقرة التي دونها في أحد كتبه بعنوان (الاكراد الهاربون من الاسلام)، حيث يقول ما نصه:” هذه الانحرافات للتطبيقات وللافكار الصوفية هي أساس بعض المذاهب المنحرفة التي تنتهي بتهربها من الاسلام، من نفس النقطة التي يمكن التردد فيها بشأن هيأتهم الحقيقية وارتباطهم الصحيح. أكثر هذه المذاهب المتناقضة أصلاً هي مذهب اليزيدية أو (عبدة الشيطان) كما يسمونهم أحياناً، الذين أغلبهم من الاكراد… وبما أن المذهب سري فقد تراكمت عليه كافة أنواع الحدس والتخمين: عبدة الشمس، الثنائية الزردشتية، الوثنية الكردية الاصلية، فرع من المذاهب المسيحية، والميثرائية ( Mithraism) حوله”. ينظر: توما بوا، مع الاكراد، ترجمة آواز زنكنه، بغداد، مديرية الثقافة الكردية، 1395هـ – 1975م، ص114؛ توماس بوا، معرفة الاكراد، ترجمة: بافي آرام، بيروت، منشورات آسو، ص104 – 105.
ويحاول المستشرق توما بوا التأكيد على أن اليزيدية فرقة صوفية خرجت من الاسلام بقوله:” وفي الحقيقة فقد خرج اليزيديون من الاسلام لاجل اثباته، إذ يكفي تأمل السلوك الخارجي لليزيدية، قبل التوغل في أفكارهم الدينية. ويظهر المحيط الاسلامي في مبحث أسماء العلم، والتاريخ ، وعدم رسم صورة بشرية، والختان…الخ. ونضيف إليها التضحية بالحيوانات وعبادة القديسين مع صور للحج الى مكة المكرمة عند قبر الشيخ عدي، حيث توجد الطقوس الإسلامية للحجاج واصطلاحات عربية غريبة جداً عند الاكراد. فالجو كله صوفي: القديسون المكرمون هم من الصوفيين المعروفين، والمراتب الدينية هي صوفية، الصلاة والنصوص الدينية الاخرى لها صلة قوية بمفرداتها وفكرها مع الصوفية الغامضة” مع الاكراد، المرجع السابق، ص114 – 115.
وبشأن التطور الذي حدث في اليزيدية وانفصالها التام عن الاسلام، يقول بالنص:” ولكن كيف وصل اليزيديون الى ضَلال اليوم ابتداء بقديس مسلم صحيح كالشيخ عدي (1073 – 1162)..؟ لقد حدث التطور تدريجياً، إذ فتح شمس الدين حسام (1197 – 1246) الطريق لبدعة دينية. ثم بعد ذلك تجزأ المشايعون الى فرعين: الاول هاجر الى سورية ومصر ( Qarafa) واستقر هناك لمدة طويلة بإيمان قويم تحت أسم ((عدوية)). أما الفرع الثاني فقد ظل في بلاد ما بين النهرين في شرق دجلة، ولم يقطع كل اتصال عقلي مع أتباع محمد (صلى الله عليه وسلم) فحسب، بل وأبعد نفسه من وجهة العقيدة، ليصبح خصمه نهائياً”. المرجع نفسه، ص115.
وبخصوص المذابح التي ارتكبت بحقهم ابتداءً من القرن السابع عشر الميلادي، يقول:” وفي القرن السابع عشر، لم تفد المذابح المكررة إلا في تعمق اليزيديين في ممارسات واعتقادات أكثر غرابة وأكثر سرية، بحيث أنَّ اليزيديين لم يعودوا مسلمين، ولكنه من الصعب انكار كونهم مسلمين في الأصل”. مع الاكراد، المرجع السابق، ص115 ؛ معرفة الاكراد، المرجع السابق، ص105 – 106.
ويذكر المستشرق توما (= توماس ) بوا في الاخير بقوله:” إن كان اليزيديون ينحدرون من الصوفيين السنيين أنصار الخليفة يزيد الاول 680 – 683م، فإن طائفة كردية أخرى هي (( أهل الحق)) قد دفعت بالدعوات الشيعية الى أقصى حد. وقد ولدت هذه الطائفة في لورستان ودخلت في منطقة شهرزور هورامان حوالي القرن الحادي عشر…” معرفة الاكراد، المرجع السابق، ص106؛ مع الاكراد، المرجع السابق، ص115 – 116.
ومن جانب آخر يذكر باحث أوروبي آخر:” إن الاطروحة الأحدث والأعمق عملياً، حول الأصول التاريخية لليزيديين هي أطروحة المستشرق الإيطالي ميكلنجلو جويدي (1886-1940م). التي نشر بخصوصها بحثين: الاول بعنوان ( نشأة اليزيدية)، والثاني بعنوان: أبحاث جديدة عن اليزيدية، نشرها في مجلة الدراسات الشرقية RSO ، ج13 عام1932م، ص286- 300، ثم ص377- 427. وحسب هذه الاطروحة فإن اليزيدية نشأت كرد فعل سياسية دينية موالية للأمويين، شبيهة بالحركة الموالية لعلي التي هي أساس الشيعية. انتقل اليزيديون الى سنجار، ثم أبعد الى الشمال بعد ذلك، وتركزت اليزيدية وابتعدت عن الإسلام الأرثوذكسي (= أهل السنة)، الى درجة فقدت معها أي قرب منه، لذلك اعتبرت اليزيدية كوثنية تدعي الإسلام، وذلك استفزاز حقيقي سبب فعلاً هجمات نارية من العلماء المسلمين السنة والشيعة، ما برر طويلاً القمع الذي عانى منه اليزيديون على يد العثمانيين والقبائل الكردية. وهذا ما يفسر الحظر المتبادل منذ بداية القرن العشرين، بين الكرد اليزيديين والكرد المسلمين. ينظر: جوردي غورغاس، الحركة الكردية التركية في المنفى، ص247 ، الهامش (2)؛ عبدالرحمن بدوي، موسوعة المستشرقين، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الرابعة،2003م، ص220.
وعندما رأى هولاء المثقفون العلمانيون أن توجيهاتهم وأفكارهم لا تستطيع النفاذ والتسرب الى المجتمع الكردي في تلك الحقبة؛ لكون الغالبية الساحقة منهم مسلمون ومن أتباع مذهب أهل السنة والجماعة، ولأن هذه الافكار لا تتناسب تلك المرحلة، حيث لم تكن الاحزاب الكردية العلمانية بشقيها الليبرالي واليساري قد تشكلت بعد، حيث يشير المستشرق الهولندي بروينسن الى هذه النقطة بالتحديد:” ولكن هؤلاء القوميون يشكلون أقلية صغيرة، وأتباع الطوائف المهرطقة (= المبتدعة) تتكون فقط من نسبة صغيرة من الكرد، لكن الغالبية الساحقة من الكرد مسلمون والكثيرين منهم يأخذون الدين على محمل الجد، لقد اكتشف محررو مجلة هاوار بأنه ينبغي عليهم أن يغيروا من نبرتها إذا ما أرادوا أن يجدوا حلقة أكبر من القراء؛ لذلك وبدءاً من سنة 1941م فصاعداً كان كل عدد يُفتتح بترجمة كردية للقرآن والأحاديث النبوية، والكثير من الكرد العلمانيين الآخرين، قبل ذلك وبعده، اكتشفوا الشيء ذاته لكي يُحدثوا التأثير بين الكرد، وكان ينبغي عليهم أن يكيّفوا أنفسهم مع الإسلام. ولكن ذلك ليس بالأمر السهل إذ كان معظم هؤلاء القوميين يعتبرون الإسلام كأحد القوى الرئيسية التي تضطهد شعبهم”. ينظر: مارتن فان بروينسن، الكرد والاسلام (2)، الترجمة عن الإنكليزية : راج آل محمد، موقع مدارات كرد، في1/5/2013م.
ولما كان العلم أو الراية من أهم خصوصيات الأقوام والأمم، فهو يرمز الى الطابع المقدس للامة، ويحظى باجلال المواطنين الامناء، ويرفع في المناسبات الاحتفالية، ويختصر العلم القومي على طريقته في التاريخ المجيد أو الاليم للوطن. ويقوم بالنسبة للافراد الذين يعتبرونه، يصهرهم في الحاضر، وأيضاً في التاريخ، لأنه ينتسب الى أولئك الذين دافعوا عنه ومجدوه، يحدث بذلك حلفاً مقدساً بين الأحياء، وبين الوجوه البارزة في الماضي، وفي المستقبل. ويشكل علم كردستان، مثله مثل خريطة ( كردستان اكبرى) جواباً رمزياً على منطق تقسيم كردستان، وعلاجاً مؤقتاً في غياب دولة ذات حدود مرسومة معترف بها في المجتمع الدولي. يرمز العلم الى وحدة الكرد رغم الانقسامات الداخلية. جوردي غورغاس، الحركة الكردية التركية في المنفى، ص240.
ويضيف أحد الباحثين الأوروبيين أن إضافة الشمس الى العلم الكردي ماهو إلا تعبير عن الهروب من الرموز المتمثلة للاسلام كالهلال:” إن اضافة الشمس في الحالة الكردية، يمكن أن يكون تعبيراً عن الرغية في إدخال رمز ديني، فبدلاً من اعتماد الهلال المرتبط بالاسلام، فضل القوميون الكرد، على ما يبدو، رمزاً لديانات سابقة على الاسلام مثل الزرادشتية، فالشمس على غرار ألوان العلم، تُقَرِب كذلك الكُرد من الشعوب الإيرانية مع إبعادهم أيضاً، عن الترك والعرب”. جوردي غورغاس، الحركة الكردية التركية في المنفى، ص241.
ومن جانب فإن الشاعر القومي الكردي جَگَرْخويْن (1903-1984م) والذي كان ينتمي إلى الحلقة المحيطة بـ مجلة (هاوار)، فضلاً عن عضويته في جمعية خويبون (= الاستقلال) التي تأسست عام1927م في مصيف بحمدون في لبنان، كان يعبر عن خيبة أمله الى نهاية حياته؛ لتمسك الكرد الدائم بالإسلام، جگرخوين نفسه كان في شبابه قد قام بالدراسة الدينية التقليدية في المدارس في أجزاء مختلفة من كردستان، فيما بعد أفسح تقواه الإسلامي المجال تدريجياً لشعور قومي قوي للأمة الكردية واهتماماً زائداً بالزرادشتية. يحتوي المجلد الأول من كتابه (تاريخ كردستان) الذي نشر بعد وفاته والذي يتطرق إلى فترة الجاهلية (ما قبل الإسلام) على فصل قصير عن دين الكٌرد في الوقت الحاضر(= الاسلام). فيما يخصص صفحات طويلة عن الزرادشتية وانقساماتها. وبدلاً من الملاحظة الدالة على الرضا التي أبداها بعضاً من بني جلدته قبل نصف قرن من أن الكرد مسلمون فقط بمقارنتهم مع الكفار، فإن جگرخوين يصورّ الأكراد كمسلمين أتقياء ولكنهم جهلاء ويتم استغلالهم من قبل الملالي والشيوخ الجشعين. وله عدة دواوين شعرية، اسم إحداها: ديوان ( زند آفستا)، كدليل على اعتزازه بهذه الديانة، حيث يقول بهذا الصدد:” … وحسب هذا الرأي فإن زرادشت هو من أكراد ميديا ولد في منطقة أذربيجان ( أتروباتين) الحالية بالقرب من بحيرة أورمية…”، ويكرر القول مرة أخرى بالقول:”فإن زرادشت هو كردي من ميديا على أساس أنه يعد زرادشت كردياً من إقليم ميديا ينظر: جكر خوين، تاريخ كردستان، ترجمة: خالد مسور، بيروت، مطبعة أميرال، 1996م، ص28 – 30، 39.