المقدمة
لقد ثـار جدل كبير بين الباحثين والكتاب حول التسمية الحقيقية للدين الذي بشر به (زرادشت)، هل هو الدين المجوسي، كما ذكرته الآية القرآنية: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالمجوس وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}، (سورة الحج، الاية 17)، والحديث النبوي الذي رواه (أبو داود) في سننه: حدثنا موسى بن إسمعيل حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم قال حدثني بِمِنىً عن أبيه عن ابن عمر عن النبـي (صلى الله عليه وسلم): ((القدرية مجوس هذه الأمة))، أو عبدة النار والشمس – كما ورد في الإنجيل (= العهد الجديد)، وغيره من المصادر والكتابات النصرانية، لا سيما وأن رجال الدين النصارى تعرضوا إلى حملة دموية شرسة لتغيير معتقدهم النصراني والسجود للشمس في العصر الساساني، وخاصة في عهد الملك شابور الثاني( 309 – 379م) الذي اضطهدهم وقتلهم بتحريض ودفع كبيرين من لدن رجال الدين الزرادشتي، على أساس أنهم أي المسيحيون النساطرة قد أصبحوا بمثابة الرتل الخامس للدولة البيزنطية المسيحية. بينما يطلق عليها الكتاب الايرانيون تسمية (المزديسنية)، أو(الزرادشتية) وفق كتابات المستشرقين الأوروبيين والباحثين الكرد.
وعلى أية حال سنحاول بقدر الإمكان الخروج من هذه الإشكالية؛ التي في حقيقة الأمر تخص التسمية أو الشكل وليس المضمون، فمضمون الديانة المجوسية، أوالمزديسنية، أوالزرادشتية، واحد لا غير، وهو: الإيمان بقوتين أو إلهين. واختلف الباحثون في هذا المضمون في اعتبار هذه الديانة ديانة توحيد، أو شبه توحيد، أو ثنوية تؤمن بإلهين اثنين (= آهورا مزدا، وآهريمن)، ويحاول (البارسيون) (= الزرادشتيون الجدد) المتواجدون في مدينة (بومباي) في (الهند)، اعتبار أنفسهم من الموحدين، رغم أن النصوص المبثوثة في (الآفستا) لا تؤيدهم في هذا المجال. ومهما يكن من أمر فإن المسلمين الفاتحين، عندما فتحوا الهضبة الإيرانية، سنّوا بهم سنة أهل الكتاب، أي اعتبروهم من أهل الكتاب من غير مؤاكلتهم، أو التزوج من نسائهم، أي أنهم من أهل الكتاب مع الصابئة المندائيين، من طبقة أدنى من أهل الكتاب الأصليين: اليهود والنصارى.
والمجوس معرّب كلمة (ماكوسي (Magucia البهلويّة، وهي في الفارسيّة القديمة، لغة الأخمينيّين: (مكوش (Magush، وفي اللغة الآفستائيّة: (ماكاو (Magaw، وتُعرف اليوم في الفارسيّة الحديثة باسم (مغ (Magh وهي مادة اشتقاق (مغان)، و(مغ) لقبٌ كان يُلقّب به رجال الدين القديم في الهضبة الإيرانيّة قبل ظهور زرادشت، وقد تسرّب الكثير من عقائدهم إلى الزرادشتيّة، كتقديس العناصر الأربعة (النار، التراب، الماء، الهواء)، وقد اشتهروا بالسحر والإتيان بغرائب الأمور، وهذه الشهرة هي السبب في أنّ كلمة (مغ) اقترنت في اليونانيّة بالسحر والشعوذة، ومنها أتت (Magic) و(Magicien) في اللغات الأوربيّة الحيّة.
وقد عُرف أتباع هذا الدين، في المصادر النصرانيّة، باسم: عبدة النار، أوعبدة الشمس، وجاء ذكرهم في المصادر الإسلامية، وتحديداً القرآن الكريم، باسم (المجوس): {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالمجوس وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}.
و(المغان) أو (المجوس) في الأصل قبيلة ميديّة، أو طبقة خاصّة من الميديّين، وكان لهم امتياز الرئاسة الروحيّة في الدين المزديسني أو المزديّ، الذي سبق الدين الزرادشتي، وعندما تغلّبت الزرادشتيّة، أو بالأحرى أصبحت الدين الرسمي في الدولة الفارسيّة الساسانيّة، في عهد الملك أردشير الأول (224-241)، أصبح (المغان) السادة الروحانيون للدين الجديد. وقد استمر (المغان) أو (المجوس) يحسبون أنفسهم طبقة من الناس نشأت من قبيلة واحدة هي (ماكنا الميديّة)، جُبلوا على خدمة آلهة “كذا”، وهذا ما حدا بالمستشرق الدانمركي (آرثر كريستنسن) إلى مقارنتهم بالسادة عند (الشيعة). وقد وردت كلمة (مغ) في (الآفستا)، وهذه الجملة: “وما استقاها مغان از مجوس” هي جملة من جمل (الآفستا)، في الجزء الذي يطلق عليه (أليسنا).
العلاقة بين المجوسية والزرادشتية
اختلف علماء الملل والنحل القدامى، ومؤرّخي الأديان المحدثين، في الربط بين المجوسية والزرادشتية، هل هما تسميتان بمعنى واحد، أم مختلفتان؟ فذهب مؤرّخو الأديان المسلمين إلى أن المجوسية هي التسمية الأصلية، لا سيّما بعد أن أصابها التحريف، وبعد أن غالى أتباعها في تقديس النار، ومن ثم عبادتها . ينظر بهذا الصدد: أبو زيد أحمد بن سهل، البلخي: كتاب البدء والتاريخ، وضع حواشيه: خليل عمران المنصور، دار الكتب العلمية، بيروت، 1417هـ/1997م)،ج1، ص328. واستناداً إلى ما ورد في الآية 17 من (سورة الحج) {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالمجوس وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}. ولمزيد من المعلومات ينظر بهذا الصدد: عبد القاهر طاهر بن محمد، البغدادي، الفَرق بين الفِرق، الطبعة الثالثة، 1426هـ/2005م، دار الكتب العلمية، بيروت، ص276. ولم يرد في المصادر الإسلامية القديمة ذكر الزرادشتية كديانة،عدا ما ذكره البلخي(=المقدسي) من أن الزرادشتية إحدى فرق المجوسية، بقوله: “… ومنهم الزردشتية؛ يقرّون بنبوّة زردشت، وثلاثة أنبياء يكونون بعده، ويقرؤون كتابه الأبسطا(= الآفستا)، ويعظّمون النّار قربةً إلى الله – عزّ وجلّ – لأنها أعظم الأسطقسات. [والأسطقسات: لفظة يونانية تعني الأصل، وتسمّى العناصر الأربعة، التي هي: الماء، والأرض، والهواء، والنار، أسطقسات، لأنها أصول المركّبات، التي هي: الحيوانات، والنباتات، والمعادن. ينظر: الجرجاني: التعريفات، تحقيق: أحمد مطلوب، دار الشؤون الثقافية، بغداد: د.ت، ص14؛ محمد علي التهانوي، كشاف اصطلاح الفنون والعلوم، مكتبة لبنان، بيروت، 2000م، ج1، ص176].
ثم يزعم بعضهم أن النار من نور الله -عزّ وجل-، ويزعم آخرون: أنها بعض من الله عز وجل…” . البلخي، كتاب البدء والتاريخ، ج1 ، ص 328. وإنّما تطرّقوا في الكلام عن زرادشت كنبيّ للمجوس. يقول (مؤلف مجهول)، في تعريفه لمدينة (بركدر)، الواقعة في إقليم خراسان: “تقع على شاطئ نهر مرو… وبها مجوس، ويدعون البهافريدية”. ينظر: حدود العالم من المشرق إلى المغرب، تحقيق: يسف الهادي، الدار الثقافية للنشـر، القاهرة، 1999م، ص75. بينما يقول المسعودي: “والأشهر من نسبه: أنّه زرادشت بن اسبيمان، وهو نبيّ المجوس، الذي أتاهم بالكتاب، المعروف بالزمزمة، عند عوام النّاس، واسمه عند المجوس: بستاه (= الآفستا)”. مروج الذهب ومعادن الجوهر، شـرحه وقدم له: مفيد محمد قميحة، دار الكتب العلمية، بيروت، 1986م، ج1، ص 236.
بينما يقول في موضع آخر: “… ولثلاثين سنة خلت من ملكه، أتاه زرادشت بن بورشسب بن أسبيمان بدين المجوسية، فقبلها، وحمل أهل مملكته عليها…”. التنبيه والإشـراف، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1981م، ص 95.
وفيما يخصّ الفرق المنسوبة للمجوس، فقد ذكر الشهرستاني عدّة فرق، منها: الكيومرتية، والزروانية، والسيسانية (البهافريدية)، والثنوية، والمانية، والمزدكيّة، والديصانية، والكينوية(= المرقيونية)، والصيامية، وغيرها. بينما جاءت تسمية الزرادشتية في المراجع الأوروبية لقد عرفت أوروبا، لأوّل مرّة، الكتاب المقدّس للمجوس الاوستا- الآفستا، وذلك أن عالماً فرنسياً اسمه (دوبرون DuPerron) كان في زيارة عالم مستشرق، عام 1754م، فشاهد على منضدته صحائف مخطوطة، لفت إليها نظره، العجيب من خطّ كتبت به. وقيل له إنها نسخة من مخطوطة مرسلة من الهند، عجز المستشرقون في أوروبا عن قراءة خطّها، الذي لم يكن لهم عهد بمثله. وجرى قضاء الله بأن يكون ما وقعت عليه عين هذا العالم الفرنسي، فاتحة للتحوّل في حياته، فقد عقد العزم على كشف سـرّ هذه المخطوطة، وبذل كلّ طاقته في كشف ما يكتمن من مغاليق أسرارها، فسافر إلى الهند، وبلغها بعد سفر طال به ثمانية أشهر. وفي مدينة (سرات)، القريبة من (بومباي)، وهي المركز الرئيسـي لطائفة المجوس الهنود(البارسيين)، المعروفين بعبدة النّار، عقد صداقة مع اثنين من رجال الدين البارسيين، كانا مختصّين بلغتي الاوستا – الآفستا والبهلوية – الفهلوية، فتدرّب على أيديهما، إلى أن أخذ عنهما العلم بلغتين، ما كان أحد في أوربا عليم بهما من قبل. وعاد إلى أوروبا عام 1760م، يحمل معه مائة وثمانين مخطوطاً. وفي عام 1771م أخرج لأوّل مرّة ترجمة فرنسية لكتاب أوستا، في ثلاثة مجلّدات. ينظر: باول هورن، الأدب الفارسي القديم، نقله عن الألمانية وقدّم له وعلّق عليه: حسين مجيب المصـري، الدار الثقافية للنشر، القاهرة، 1419هـ/1999م، ص 67 ، هامش(1)؛ ماري بويس، تاريخ الزرادشتية من بداياتها حتى القرن العشـرين، ترجمة: خليل عبد الرحمن، مركز كوردولوجي، السليمانية، 2011م، ص 187 وما بعدها، وبعد أن تمكّنوا من الحصول على مخطوطات تخصّ مجوس الهند(البارسيين)، بأنها التسمية الصحيحة، على أساس ربط اسم الدين بنبيّ ومؤسس الدين؛ كالمسيحية، والمانوية، وغيرها، كما هي العادة عندهم. بينما كانت تسمية الزرادشتية أو المزدائية – المزداسنية، هي المفضّلة لدى المؤرّخين والباحثين الإيرانيين. ينظر: محمد حمدي، الترجمة والنقل عن الفارسية في القرون الإسلامية الأولى، منشورات قسم اللغة الفارسية وآدابه في الجامعة اللبنانية، بيروت، 1964م.