23 ديسمبر، 2024 3:07 ص

خلاف طهران والصدر يؤجج عدم الاستقرار في العراق

خلاف طهران والصدر يؤجج عدم الاستقرار في العراق

(تقرير رويترز الخاص عن العراق – الجزء الأول)
جون دافيسون وأحمد رشيد
ترجمة: عباس منعثر
في الثامن من شباط، التقى رجلان قويان – أحدهما رجل دين والآخر قائد عسكري وكلاهما شيعي، لمناقشة مستقبل العراق السياسي وكان الدور المهيمن لإيران. لكن الأمور لم تسر على ما يرام. قام قآني بزيارة بيّت مقتدى الصدر الذي لديه ملايين من المؤيدين المخلصين في جميع أنحاء العراق، وبعضهم لديه ميليشيا مسلحة، وهو ذو تأثير ساحق في هذا البلد ذي الأغلبية الشيعية. أما قاآني قائد فيلق القدس، وهو الفرع العسكري والاستخباراتي الخارجي للحرس الثوري الإيراني، والذي يستخدمه الشيعة في طهران لإبراز قوتهم في الخارج. انه مكلّف من قبل طهران بالحفاظ على نفوذها في العراق سليماً.
وبحسب مسؤولين عراقيين وإيرانيين اطلعوا على المقابلة التي امتدت لنصف ساعة في مدينة النجف الأشرف، استقبل الصدرُ الجنرالَ بجفاء، وكان يرتدي الزي العربي- وهو مظهر شعبي منتشر بين الناس، على النقيض من الملابس الدينية التي يرتديها غالباً في الأماكن العامة.
لقد تم تأويل هذ الزي على أنه رسالة سياسية قومية مفادها: العراق، دولة عربية ذات سيادة، وسيشق طريقه الخاص، دون تدخل جاره الفارسي، على الرغم من العلاقات الطائفية بين الدولتين نتيجة الأغلبية الشيعية في كليهما.
قال الصدر لقاآني: ((ما هو شأنكم بالسياسة العراقية؟))، وأكمل بنبرة تحدٍ، بحسب أحد المسؤولين: ((لا نريدكم أن تتدخلوا)).
حينما طلبنا تعليقاً من الحكومة الإيرانية لم تتم الاستجابة لطلبنا من قبل وزارة خارجيتها او بعثتها في الأمم المتحدة وكذلك لم يجب مكتب الصدر على أسئلتنا أيضاً.
أضاف المسؤولون إن الصدر كان يشعر بالإنتعاش جرّاء مجموعة من المكاسب السياسية المتتالية لتحالفه العراقي الناشئ (انقاذ وطن) ضد إيران وحلفائها العراقيين (الشيعة الاخرون الذين يرون أن طهران أفضل حليف لهم للمحافظة على السلطة و النفوذ). وعلى الرغم من أن الصدر يسعى للبقاء فوق صراع التجزئة (retail politics) وعلى الرغم من رفضه المنصب لنفسه، غير أنه كان قوة حاسمة في العراق طوال عقدين من الزمن منذ أطاحت الولايات المتحدة بصدام حسين ابان غزوها للعراق. وبالإضافة إلى نجاحه في الانتخابات من خلال فيلق من الناخبين الصدريين، قام الصدر بمناورة لكسب عدد كبير من اتباعه في الوظائف الحكومية، لكي يضمن سيطرته على جزء كبير من الدولة العراقية. في عام 2019، شارك أنصاره في احتجاجات مضادة للفساد نجحت بالاطاحة بالحكومة المدعومة من الأحزاب الموالية لإيران. وفي تشرين الأول الماضي، نجح اتباعه في التفوق على تلك الأحزاب في الانتخابات البرلمانية، مما أعطاه فرصةً لتشكيل حكومة يمكن أن تُخرِج العراق بالكامل من فلك إيران.
ومن هنا جاءت زيارة قاني.
يقول المطلّعون على الزيارة إن الجنرال كان قلقاً. كان قد سعى الى الالتقاء بالصدر لعدة أشهر، فقد زار العراق بشكل متكرر، وصلّى علانيةً في مرقد والد الصدر. حسب قاآني، إذا قام الصدر بضمّ حلفاء طهران إلى ائتلاف ما، فسيتم الاعتراف بالصدر من قبل ايران على اعتباره الزعيم السياسي الشيعي الرئيسي في العراق، وهذه التفاتة ليست هيّنة بين القيادة المتشرذمة المتحاربة في المجتمع الديني. لم يتضح على الصدر القبول او الرفض، لكنه شدد في تغريدة جاءت عقب اللقاء على التزامه بحكومة خالية من التدخل الأجنبي: قال في الرسالة المكتوبة بخط اليد والمنشورة على تويتر: ((لا شرقية ولا غربية/ حكومة أغلبية وطنية))
كانت معاملة الصدر الخشنة لقاآني أكثر بكثير من كونها مجرد اجتماع فاشل.
في الأشهر اللاحقة، لم ينجح الصدر وحلفاؤه ولا الاحزاب الموالية لإيران من تشكيل ائتلاف لخلافة الإدارة المؤقتة لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي. وكانت التوترات بين الميليشيات الموالية لإيران والصدر قد أدّت إلى عمليات قتل مستهدفة لخمسة أشخاص على الأقل بين هذين المعسكرين على مدى أسبوعين في فبراير. وقد دفعت جهود الصدر للتغلب على طهران هذه الأخيرة ووكلاءها إلى القيام بهجوم مضاد سياسياً وعسكرياً، بما في ذلك الضربات الصاروخية ضد حلفاء الصدر المحتملين، في الوقت الذي كان الصدر يغازل الكرد في شمال العراق والمسؤولين في الإمارات العربية المتحدة.
لقد كان الصدر محبطاً للغاية بسبب المأزق والضغط الإيراني لدرجة أنه في حزيران أمر نوابه والبالغ عددهم 73 نائباً، أي ما يقارب من ربع أعضاء البرلمان، بالاستقالة. وفي شهريّ يوليو وأغسطس، قاد الآلاف من أنصاره إلى اعتصام طويل في قاعة البرلمان. وقال الصدر في بيان عام: ((يجب معاقبة الفاسدين حالاً))، ((خاصة الشيعة)).
تُنذر حدّة مقتدى الصدر الكثيرين من أن التوترات الحالية قد تؤجج مزيداً من عدم الاستقرار، وأخيراً، المزيد من العنف داخل العراق وعبر الشرق الأوسط. تقول بلاسخارت: ((إذا كنا نريد الاستقرار في الشرق الأوسط، فإن ذلك لن ينجح حينما يكون هنالك الكثير من الاضطرابات العامة والتقاتل على السلطة في العراق، والذي سيصبح بعد ذلك ساحة حين تتداخل المصالح والمنافسات الإقليمية)).
في داخل العراق، تُخيف احتمالية تجدد إراقة الدماء الكثيرين من الناس. فما زال غزو أمريكا للعراق وحربها الطويلة مع ايران واضحة في ذاكرة الجماهير. انطلاقاً من ذلك، يقول أحد قادة الميليشيات الموالية لإيران في جنوب العراق، حيث اندلع قتال بين الفصائل في وقت قريب من اجتماع فبراير: ((ربما يقودنا الصدر إلى حربٍ شيعية شيعية)).
ولفهم حالة عدم الاستقرار التي تجتاح العراق بشكل أفضل، فقد تحدثت رويترز مع أكثر من 40 مسؤولاً عراقياً وإيرانياً وكذلك الى سياسيين ودبلوماسيين أجانب والى سكان محليين أيضاً. وتحدث بعض المسؤولين، بمن فيهم أولئك الذين وصفوا لنا لقاء الصدر بقاآني، بشرط عدم الكشف عن هويتهم. كما راجعنا عشرات الوثائق الحكومية التي توضح بالتفصيل القرارات القضائية والإنفاق الحكومي وتحقيقات الفساد، وسافرنا الى جنوب البلاد حيث الوضع يرثى له، وحيث يقطن معظم الشيعة والى أماكن في البلاد يصرّح سكانها إن الجمود الحالي يؤدي إلى تفاقم المشاكل التاريخية مع الكسب غير المشروع والإهمال المؤسسي.
يقول وليد دهامات، وهو مدرس في بلدة العمارة الجنوبية الفقيرة وشقيق ناشط محلي قتل على يد مسلحين مجهولين في عام 2019 (يقصد أمجد الدهامات): ((هناك معركة سياسية في بغداد، ونحن عالقون في المنتصف)).
أدى الاقتتال الداخلي بين الشيعة، والتوتر حول الدور الذي ينبغي أن تلعبه إيران في بلد يبلغ عدد سكانه 40 مليون نسمة، الى أطول فترة اانسداد سياسي بدون حكومة مستقرة منذ الإطاحة بصدام. كما أن ذلك قد شل مؤسسات الدولة وأعاد تأزم الخلافات حول النفط (الذي يمثل أكثر من 40٪ من اقتصاد البلاد و 85٪ من ميزانية الحكومة).
يقول السكان المحليون والمراقبون الأجانب إن الحصول على الثروة النفطية للبلاد، هو أكثر أهمية عند الساسة غالباً من الحكم الفعلي (أي إدارة المؤسسات النافعة للمواطن). بهذا المعنى، تقول بلاسخارت: ((يركز القادة على السيطرة على الموارد والسلطة والمصالح الخاصة بدلاً من احتياجات الشعب العراقي)).
أما إيران فلديها الكثير مما يقع على المحك، حيث تعتمد على العراق كبوابتين: أحدهما كحاجز عازل، والأخرى كبوابة تجارية تطلّ على العالم العربي. ثمة عقوبات دولية تعاني منها طهران وضغوط لإحياء الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة، ويقع على ايران مسألة إعادة تنظيم التحالفات في الشرق الأوسط. لكن بدون عراق خاضع لنفوذها، قد تفقد طهران الكثير من القوة في منطقةٍ أقام فيها بعض جيرانها الإسلاميين، في السنوات الأخيرة، الإمارات العربية المتحدة وغيرها، علاقات قوية مع أمريكا وإسرائيل، خصومها التقليديين.
أما بالنسبة الى الغرب، فقد يكون الصدرُ أفضل أملٍ لانتزاع العراق من الهيمنة الإيرانية. يقول أندرو بيك، المتخصص السابق في شؤون العراق في وزارة الخارجية الأمريكية: ((ان مصالح الولايات المتحدة متداخلة مع مصالح تحالف الصدر))، وإن انفصال الصدر عن طهران هو ((أكبر تهديد للنفوذ الإيراني في العراق، حين يكون تحدياً فعلياً لهذا النفوذ)).
ملك العراق
إنّ الصدر، البالغ من العمر الآن 48 عامًا، قد ظهر لأول مرة باعتباره ابناً لمحمد صادق الصدر، تلك الشخصية التاريخية في العراق والتي ساعدت في قيادة المقاومة الشيعية ضد ديكتاتور العراق صدام. ثمّ توفي رجل الدين البارز واثنان من أبنائه برصاص في كمين نصب لهم عام 1999 ويعتقد أن حكومة صدام قد دبرت العملية، وقد ورث مقتدى الصدر، حينما كان رجل دين شاباً بارزاً في ذلك الوقت، ولاءَ العديد من أتباع والده.
بعد الغزو الأمريكي في عام 2003، عمل شيعة العراق على الخروج من الهيمنة السنية لدكتاتورية صدام. أصبح الصدر مريحاً بالنسبة الى إيران. وبمساعدة من طهران، وفقًا لمستشارين ودبلوماسيين سابقين، نجح جعل نفسه مقاتلاً شعبوياً لطرد الغُزاة الغربيين. يرى الآلاف من المتمردين، الذين لا يزال الكثير منهم يشكلون الميليشيا الصدرية المعروفة باسم سرايا السلام، أنه زعيمهم.
لقد تولى الشيعة السلطة في بغداد ابتداء من عام 2005، وفازوا بأغلبية في أول انتخابات برلمانية تحت الاحتلال الأمريكي. ومع ذلك، ازدادت سيطرة الأحزاب الشيعية في الانتخابات اللاحقة، ومع ذلك، كان العديد من العراقيين يستمرون بالنظر إلى إداراتهم على أنها فاسدة، إذ انهم ركزوا على السيطرة على الثروة النفطية فقط وما يمكن ان تنتجه الثروة من محسوبية وسلطة. في ذلك، يقول الناشط محمد ياسر ((لقد فشل هذا النظام السياسي))، لأنهم ((لم يقدموا شيئاً)).
ولأن معظم تلك الحكومات كانت حليفة لإيران، فقد نأى الصدرُ بنفسه تدريجياً عن طهران. وفي حميةِ حرصه على تصوير حركته على أنها غير مشتركة بالفساد، حفّزَ مؤيديه على تنظيم مظاهرات حاشدة، مقدماً أولئك الذين أطاحوا بالتحالف الشيعي الأخير في عام 2019. كما بدأ أيضاً في التودد إلى حكومات الشرق الأوسط التي كانت على خلاف تقليدي مع إيران، حتى القوى التي يقودها السنة.
في عام 2017، فاجأ الصدرُ العديدَ في المنطقة من خلال اجتماعه مع كبار المسؤولين في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، أي دول الخليج الفارسي المجاورة بقيادة العائلات المتحالفة مع الولايات المتحدة. وللتغلب على الخلاف التاريخي بين الأنظمة التي تحكمها إدارات سنية وشيعية، حاول الصدر بدلاً من ذلك أن يلعب على الروابط العرقية، إذا قال لهم: ((نحن أيضاً عرب))، حسب ما ذكره أحد كبار التيار الصدري المطلّع على الزيارات.
من زاوية أخرى، وجّه الصدر أولَ انتقاد علني لإيران في ذلك العام، فقد اتهم طهران في بيانه بتأجيج الصراع الطائفي في سوريا والعراق وجميع أنحاء المنطقة، كما زاد من انتقاداته لمناهضيه المحليين بسبب النفوذ الشيعي، بمن فيهم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وهو حليف قوي لإيران.
يقول مستشار سابق لرويترز: ((مقتدى يريد أن يكون الزعيم الشيعي الأول. ملك العراق)).
وفي عام 2020، أدى حدثان إلى تغيير المشهد الذي سيعمل عليه الصدر. أولاً، قامت الولايات المتحدة بقتل قاسم سليماني، سلف قااني كرئيس لفيلق القدس الإيراني ولاعب رئيسي في العراق. كان لسليماني علاقة قوية بالصدر، على الرغم من انتقادات رجل الدين لطهران. بعد ذلك، أقامت الإمارات علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، مما عزّز التحول في بعض الدول العربية نحو الغرب. وصارت هذه التطورات في مصلحة الصدر. فقد أدى تواصله مع جيرانه الخليجيين، على سبيل المثال، إلى المساعدة العاجلة بعد الانتخابات في التودد إلى السنة العراقيين. توضيحاً لذلك، قال مسؤولون عراقيون مطلعون على المسألة لرويترز إن مبعوثين إماراتيين حثوا الأحزاب السنية على العمل على اتفاق مع الصدريين. يقول يزن الجبوري: ((بالنسبة لدول الخليج، كان الصدر أفضل فرصة لتحدي القوة الإيرانية)). وحينما طلبنا من وزارة الخارجية الإماراتية أن ترد على طلبات رويترز للتعليقن رفضت.
على الشاكلة نفسها، كان الصدر يتودد أيضا إلى الكرد. وبعد فترة وجيزة من الانتخابات، صرّح التيار الصدري والحزب الديمقراطي الكردستاني لوسائل إعلام محلية إنهما سيشكلان فريقاً في تشكيل الحكومة الجديدة. هذا التحالف مثّل لإيران نكسة مزدوجة، خاصة وأن الحزب الكردي الحاكم لديه أيضاً علاقات ودية مع إسرائيل.