23 ديسمبر، 2024 6:02 ص

حُسن الخُلق في فكر الشهيد محمد الصدر(٤)

حُسن الخُلق في فكر الشهيد محمد الصدر(٤)

إن مفهوم حُسن الخُلق الذي حدّده السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر(قدس سره) يشمل كما قلت سابقاً حتى مفهوم الدولة بجميع سلطاتها الثلاثة وعليه فإن مفهوم السياسة في الإسلام يختلف عن المفهوم السائد والمسيطر على البلدان والشعوب! ذاك المفهوم الذي يرتكز على السياسة التي لا قلب لها وبالتالي لا أخلاق ولا عدل وهذا المفهوم اللاأخلاقي كلّف البشرية ثمناً باهظاً من الظلم والدمار والقتل والحرمات والمآسي وغيرها مما يعجز القلم عن وصفها..
ولكن مفهوم السياسة في الأسلام يمثل مصداقا صارخاً لحُسن الخُلق والعدل وإليك عزيزي القارئ ما قاله الشهيد محمد الصدر(قدس سره) في الجمعة الحادية عشر الخطبة الثانية ما نصه:
((من جملة البراهين الممكن إقامتها على قدرة الله وحسن تدبيره النظام العادل الكامل, الذي جاء به النبي (ص) فإن معجزته الخالدة مع القران الكريم..
طرق سمعك وسمعي أن المعجزة الخالدة للنبي وللإسلام هو القرآن الكريم وهذا صحيح, لكننا في الإمكان أن نضيف معجزة خالدة أخرى, وهو نظام الإسلام-العدل الاسلامي- الذي بشّر به النبي(ص) وجاء به النبي(ص) و((حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرام محمد حرام الى يوم القيامة)) فإن المعجزات الوقتية وإن كانت صحيحة كتسبيح الحصى, وشق القمر, وغير ذلك من الأمور, ألا انها تزول في وقتها ولا تبقى منها إلا الرواية والنقل, بخلاف المعاجز الخالدة ومعنى خلودها كونها معجزة على كل الأجيال وعلى كل الأديان وعلى كل الطبقات وعلى كل المستويات وعلى كل القرون الى يوم القيامة ويمكن الإستدلال على عدالة ودين محمد بن عبدالله الذي هو دين الاسلام, بعدة أدلة أذكر ما هو ممكن منها:
أولا: أن البديل الذي يمكن أن يكون بديلاً عن الإسلام, وعن نظام الإسلام, أحد أمرين لا ثالث لهما:
إما عدم النظام في المجتمع إطلاقاً وإما القانون الوضعي, الذي يسنّه البشر, بغض النظر عن الرسالات الالهية, أو كما يعّبر بعضهم بغض النظر عن الإتصال بالسماء وإله السماء كلا المطلبين محل اشكال, ليسا صحيين فإذا تم إسقاطهما, تعين أن نظام الإسلام هو العادل الكامل.
البديل الاول: الذي هو عدم وجود نظام إطلاقا في المجتمع, فهو طبعاً واضح جداً, أنه ساقط في نفسه ولا يريده اي شخص من البشر للمجتمع, وعبارة بعضهم(( أنه يصبح المجتمع جحيماً لا يُطاق)) وعبارة بعضهم ((أنه يصبح المجتمع الإنساني تحكمه شريعة الغاب)) ونحو ذلك من الأمور ولذا أوجب علماء الكلام على الله سبحانه وتعالى -بحسب حكم العقل- أنه خلق الخلق وهو كفيل مصالحهم ونظامهم ووجود العدل فيهم, لا أنه يخلق الخلق ويتركهم هملاً, يقتل بعضهم بعضاً, ويسرق بعضهم بعضاً هذا خلاف اللطف الإلهي خلاف قاعدة اللطف وهذا البديل ليس بصحيح.

البديل الثاني: هو القانون الوضعي من أين أتى؟
له مصدران أساسيان إما العقل وإما النفس أما أن المقنن يحكّم عقله في إدراك المطالب ويكتب قانونه وهذا على أحس التقادير, وأما انه يحكّم نفسه, وشهواته, ومصالحه الخاصة وكلا الأمرين ساقطان وسيئان أما إذا حكّم المقنن شهواته ومصالحه الخاصة فهذا فاسد من أصله وهذا غير قابل للنقاش, وإنما يحتج أهل القانون على إننا نحكّم عقولنا في هذا المطلب فمن هذه الناحية يأتي القانون صافياً وصحيحاً, ومعه ما الحاجة الى الشريعة الإلهية؟ هذا الذي طرق سمعنا من أن العقل البشري مدرك لشيء من الصواب ولشيء من العدل, له باب وجواب صحيح يقول العدل حسن والظلم قبيح والصدق حسن والكذب قبيح على العين والرأس الى آخر قائمة موجودة بحكم العقل اكيداً ولكن لنخطو خطوة ثانية هل أن العقل يدرك ذلك في كل شيء؟ جملة من الأشياء نسأل أنفسنا نشك أنها هل هي حسنة أم هي قبيحة؟ الله العالم نحن لا نعلم كذلك عندنا ما يسمى بالمزاحمة تتعارض في ذهنك الأشياء هذا أهم أو هذا أهم, هل يدرك العقل شيء من هذا القبيل, أن هذا بالتعيين أهم؟ طبعاً لا يوجد مثل هذا الشيء فالإنسان في عقله موجود إدراك بإذن الله سبحانه وتعالى للخير والشر ولكنه ضيّق لا يشمل جميع مناحي الحياة بجميع حقول المعرفة بكل تأكيد, ضيق ربما واحد بالمائة الى خمسة بالمائة, وإلا الباقي كله مشكوك عقلياً, وهذا وجداني إسأل نفسك اي شيء تريد, حينئذ ماذا يصير؟ يصير أن المقنن يأتي ويجلس ويكتب قانونه بأي عقل؟ بهذه الخمسة بالمائة؟ والباقي مشكوكات, يجعل المشكوكات على شكل يقينيات؟ ويحمل الناس مسؤليتها؟ هو هذا الخطأ, فمن هذه الناحية, العقل قاصر عن إدراك الواقعيات التي يعلمها الله سبحانه وتعالى, قاصر عن إدراك الواقعيات التي يعلمها المعصومين(سلام الله عليهم), فإذا عطفنا على ذلك أن العقل البشري مادي, يعني يعيش في بوتقة المكان والزمان والمجتمع والمصالح الفردية والمصالح الأسرية وغير ذلك, المقنن ليس بمعصوم طبعاً, ولا يدّعي أحد عصمته لا من الأولين ولا من الآخرين, المقنن بشري وليس معصوم أكيداً وهو رهين كما أن كل واحد منا رهين المكان والزمان والدنيا والمصلحة والمال, فلولا اللطف الالهي عرفنا الآخرة؟ عرفنا الحساب؟ عرفنا الثواب؟ عرفنا العقاب؟ عرفنا مثلاً المدارج العُليا؟ الملائكة؟ حملة العرش؟ لا نعرف طبعاً والمفروض أن المقنن من هذه الناحية يخرج عن ذهنه كل هذه الأمور سواء عرفها أو لم يعرفها, وإنما يتبع الدنيا المحضة والمجتمع الذي بين يديه فقط, كما يقول ذاك((فو الذي يقسم به أبو سفيان لا جنة ولا نار)) هو ايضاً يقول لا جنة ولا نار ويجلس ليكتب القانون, وصار أنه أهمل المصالح الرئيسية للبشرية, التي هي حساب يوم القيامة والجنة والنار, لأنه نحن لم نخلق لهذه وإنما خُلقنا للآخرة, وهو يقول نحن خلقنا لهذه الدنيا, ولم نخلق للاخرة:
إن كنت لا تدري فتلك مصيبة
أو كنت تدري فالمصيبة أعظم
إذن فالعقل البشري لا يستطيع أن يضع قانوناً, فاذا فسّر كلا الإحتمالين, لا بلا نظام يصير ولا يصير بنظام عقلي وضعي هذا أيضا فاسد, إذن يتعين النظام الإلهي. إن الله تعالى تُتبّع شريعته صغيرة وكبيرة, مهمة وقليلة كلها باذن الله سبحانه وتعالى والله تعالى غير مقصّر أعطانا العدل الصحيح الكامل وإنما يصدّ عن ذلك شهواتنا ومصالحنا وطرقنا الفاسدة والملتوية, ليس أكثر من ذلك…)) انتهى.
والله أنه بحق كلامٌ عادلٌ من رجلِ العدالة والنور…
هناك جدلية بين المفكرين الإسلامين تتعلق بالدولة الإسلامية من حيث أسبقيتها وتسبيبها ومن المفكرين من تبنى هذه النظرية التي تقول بإن إقامة الدولة العادلة (الإسلامية) أولاً ومن ثم المجتمع الإسلامي العادل.. إلا أن الشهيد محمد الصدر(قدس سره) يرى عكس ذلك بإن المجتمع الإسلامي العادل هو الذي تنبثق منه دولة العدل وإلا فمصيرها الفشل وهذا ما نجده واضحاً وجلياً في موسوعة الإمام المهدي(ع) حيث إن طول الغيبة يؤدي الى تمحيص المجتمع وتكامله فكرياً وعاطفياً..
أنتهى القسم الرابع ويليه إن شاء الله القسم الخامس والأخير..