مر العراق منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة في عشرينيات القرن العشرين، بثلاث تجارب سياسية كان لها نفوذ في جسد المجتمع العراقي.
“الحزب الشيوعي العراقي”،الذي نجح في إذابة الهويات الفرعية في هوية الوطن،بيد انه ارتكب خطأ فادحاً،عندما حاول إقصاء الدين عن المجتمع العراقي ذو الغالبية المسلمة، بلغت ذروة ذلك عندما رفع شعار(بعد شهر ماكو مهر)!،فجاء الرد مدوياً من الرأي العام العراقي،ورجال الدين تمثلت بفتوى زعيم الطائفة الشيعية الإمام الراحل “السيد محسن الحكيم قدس “(الشيوعية كفر والحاد)،ليسدل الستار عن تجربة اجتماعية سياسية شغفت قلوب الكثيرين بسبب عقدة الدين.
(حزب البعث العربي الاشتراكي)،الذي مثل محاولة تهدئة الشارع العراقي،ومسايرة النظام العالمي آنذاك المتجه نحو بروز الأنظمة العلمانية،والاستفادة من خطأ الشيوعية تجاه الدين،حيث قنن (ميشيل عفلق) نظرية (الاعتكاف والعودة)للمفكر الانكليزي (جون فلبي)،التي ترتكز على أن غالبية المصلحين على مر التاريخ عاشوا مراحل اعتكاف ثم خرجوا بمشاريع إصلاحية قدمت خدمات كبيرة للبشرية.
أهمهم النبي محمد (ص)،الذي أنتج اعتكافه بـ “غار حراء”،بعث أهم مشروع “الإسلام”،فكانت محاولة عفلق بعث الأمة من جديد،لكنه أقصى مكون عراقي كبير ومهم،المكون “الكردي” الذي يمثل( 19 % ) من تركيبة المجتمع العراقي،إذ حصر الانتماء للعرب دون الكرد (حزب البعث العربي الاشتراكي)!،فكانت عقدته القومية،وحكم القرية،الذي حول العراق إلى بندقية مأجورة يقاتل بالنيابة عن حروب العرب الاستباقية خشية من” الغزو الوهمي”!،سرعان ما ارتد على أشقائه العرب،تمثل بـغزو الشقيقة (الكويت)،لتنتهي حقبة سوداء أشبه بكابوس،جعلت العراق خارج نطاق التغطية أربعة عقود!.
(حزب الدعوة)الذي أسسه المفكر الإسلامي الكبير (محمد باقر الصدر)،في خمسينيات القرن العشرين،كردة فعل لمحاولة الأحزاب العلمانية بالعراق إقصاء الدين الإسلامي داخل المجتمع العراقي،حيث استقطب النخب الإسلامية الشيعية الواعية وفي مقدمتها طلبة الجامعات وحملة الشهادات،سرعان ما تم ضربه من قبل السلطة الحاكمة بداعي الطائفية المرتبطة بالخارج،فتم إعدام الآلاف من خيرة الشباب العراقي وتشريد مثلهم في بلدان الشتات.
هناك في غربة الشتات،كان السيد “محمد باقر الحكيم”،الذي هرب على خلفية علاقته بالشهيد محمد باقر الصدر إلى إيران،يعيش محنة الشعب العراقي الذي يرزح تحت حكم البعث.
عام (1982 ) وضع الحكيم ثلاث اهداف مركزية،لانقاد الشعب العراقي بمختلف أطيافه،بحضور العشرات من المعارضة العراقية
ـ إسقاط نظام صدام.
ـ كسر المعادلة الطائفية التي حكمت العراق (80 سنة) الأقلية تحكم الأكثرية.
ـ الإدارة اللامركزية (الفدرالية).
فكانت تلك الأهداف الخارطة التي رسمت لقوى المعارضة العراقية الطريق،لإسقاط اعتي نظام دكتاتوري همجي عرفه التاريخ الحديث قتل الملايين من أبناءه وشردهم وصادر حرياتهم وكراماتهم.
تحقق الهدف الأول والثاني،فيما اصطدم الهدف الثالث،بمعارضة شيعية في بداية الأمر تحت ذرائع مختلفة،بعضه يحمل سوء فهم،وآخر بإطار التنافس الحزبي السياسي،وبمعارضة سنية بداعي تبعية العراق وتهديد استقلاله،ثم ما انفك العرب السنة يطالبون بأقلمة المناطق السنية،لأنهم وجدوا نجاح تلك التجربة التي تتيح لهم أدارة مناطقهم دون تعقيدات المركز.
لم تكن الفدرالية التي طرحها الحكيم،بثمانينيات القرن الماضي ترفاً فكرياً،بل كانت دراسة واقعية للتنوع العراقي،وحلاً جذرياً لمشاكل بلد تمتد لألف عام كما كشفها الملك فيصل الأول فقال (لم أجد شعباً، بل وجدت كتل بشرية متناحرة،ولائها للقبيلة،وليس الوطن)!.
لقد خسر العراق قائد وتجربة،لم نحسن استغلالها،فنزفنا الكثير من دماء أبنائنا وثرواتنا،وسنخسر الكثير، ما لم نسعى لتحقيق الفدرالية،التي غابت عن أبجديات متبنيها بذريعة (فن الممكن)!.