22 ديسمبر، 2024 10:45 م

حكم الازلام وتعهير مفهوم العروبة

حكم الازلام وتعهير مفهوم العروبة

عرفت الدولة العثمانية في عصر انحطاطها في اواخر القرن التاسع عشر واوائل القرن العشرين بأسم (رجل اوروبا المريض). وكانت اسباب انحطاطها عديدة، فقد نخر الفساد السياسي والاداري فيها واثقلت كاهلها الديون، ونبذها التاريخ لانها ادارت ظهرها له باصرارها على احباط تطلعات شعوبها الى الحرية والتطور.. فاحاطت بها الدول الطموحة كالحيوانات الكاسرة تنتظر وقوعها لتفرسها.
ومع اهمية الفوارق التي تميز امتنا العربية عن الامبراطورية العثمانية والتي تميز عصرنا عن عصرها، الا ان العالم اصبح ينظر اليها نظرة مماثلة، وبات يعتبرها (رجل العالم المريض) وراح يتعامل معها على هذا الاساس. فاعداء العرب يعتبرونهم فريسة مستباحة وهم ينهشون وطننا العربي من اطرافه، ويجدون في قلبه حلفاء يناصرونهم. فسوريا تناصر ايران في كل عدواناتها وتدخلاتها السافرة، وتجد اسرائيل فئة بعد فئة تتنافس على خدمة مآربها في لبنان وسوريا ومصر والخليج . وفي وطننا العربي تكاد تنعدم الحريات، وتجد الديمقراطية نفسها غريبة في عصر حكم الشعب، وتهدر الموارد، وتتجذر المصالح الاقليمية، وتنتشر التبعية وتتعمق، وتترسخ شهرة امتنا العربية ككائن استهلاكي طفيلي على الحضارة العالمية.
لا شك ان في هذه النظرة الى الزمن العربي المعاصر كثيراً من التجني. فقد انجب هذا الجيل العربي قادة تجرأوا على التحدي، وانجب مفكرين قادرين على قول كلمة حق وجماهير ترضى بالعطاء والتضحية عندما يتاح لها المجال. لكن الموضوعية تقتضي الاقرار بأن هذا الزمن العربي ايضاً انجب زعامات تفترس شعوبها، وانجب عقولاً مأجورة وحاشيات مرتزقة.
والموضوعية ايضاً تقتضي الاقرار بأن هؤلاء هم الذين فرضوا في الغالب اسلوبهم على البيئة العربية المعاصرة فاعطوها طابعهم، واصبح وطننا العربي مستباحاً للطامعين به وفريسة سهلة لهم، وكثر مصاصوا الدماء العربية وصار وطننا العربي حقلاً بلا حارس.
وتراجع مفهوم العروبة من وحدة تُؤاخي بين العرب الى مؤتمر قمة ينسق بين حكامهم. وحتى هذا التعهر لمفهوم العروبة عزَّ على الامة العربية. وابرزت اصوات تقول ان العروبة اسطورة، وتستشهد بتصلب الحدود، وتغلب المصالح القطرية، وتستنتج من ذلك، ان الوفاق العربي هو ارقى مظاهر العروبة وانجح ممارساتها الممكنة في هذا العصر، وأخطر ما في الأمر هو انتشار القبول بهذا التنازل الفكري عن الواجب والحق القومي بالوحدة العربية وتصويرها وكأنها صنف من المراهقة الفكرية.
اننا حقاً نجتاز عصر الردة العربية.
من المهم جداً، الادراك بأن التراجع في مفهوم العروبة يعني اكثر من التنازل عن مطلب الوحدة الذي هو اسمى تعابير القومية العربية. فهو ايضاً يعني الاصرار على تجاوز القيادات السياسية التي تلتزم بالفكر القومي والاقرار بجواز اضفاء الشرعية على حكم الازلام في الوطن العربي. وحكم الازلام هو بالضرورة حكم يستند الى اضيق الولاءات واصغر الاحلام، وبالضرورة يستعيض (بالمختارية) عن القيادة، وحكم الازلام هو حكم الطوائف والفئات، ولا يمكن ان يرتقي باشخاصه وأساليبه ومؤسساته واهدافه الى حكم الشعوب.
وحكم الازلام هو ايضاً بالضرورة حكم التناحر بين الاقطار وحكم القمع والكبت داخلها، وبين المفهوم القومي ومتطلباته وبين حكم الازلام في الاقطار المتعددة علاقة عكسية لا يجوز تجاهلها. والقائلون بامكانية الارتقاء بالحياة العربية في ظل (بلقنة) الامة العربية يتعامون عن هذه الصلة، والداعون الى الامن العربي والحرية والتقدم في ظل (البلقنة) القائمة ينفخون في رماد.
لا يصح الدفاع عن ظاهرة التدجين السائدة في الوطن العربي بالاختباء وراء مقولة (القهر والقمع اللذين تمارسهما الانظمة العربية الحاكمة)، والكل يعرف من قراءة التاريخ، ان القهر هو حافز على الثورة وليس تفسيراً لغيابها. ومن يتستر بحجة القهر يقول بأن الثورة غير ممكنة في ظل القهر وغير ضرورية عند زواله، وهو بذلك يثبت فكراً يدعو الى القبول بما هو كائن مهما كان.
لقد عمل اعداء الامة العربية على محاصرتها ومطاردتها واستنزافها أملاً في ايصالها الى مرحلة من الارهاق يرغمها على الحد من طموحاتها. فعملوا على تحريف الانتماء القومي من رصيد وسند ومصدر قوة الى عبء ثقيل مكلف ينبغي التهرب منه ويستحسن الملص من التزاماته.
وفي العقد الاخير بدأ يطفو على سطح الساحة العربية ازلام حملوا هذه الراية بلا حياء ورفعوا شعار الأمن والرفاه القطري عبر اسقاط (العبء القومي). وقاد انور السادات هذا التيار عندما وعد شعب مصر العربي بالسعادة ان هو ألقى عن كاهله (عبء فلسطين). وتبعه آخرون عملاً ان لم يكن قولاً حتى اصبحت جماهيرهم قادرة على الوقوف متفرجة وشباب فلسطين ولبنان والعراق تغرق الارض العربية بدمائها.
اما في الغرب، فقد وجد اعداء الامة العربية في هذه الظاهرة فرصة لتبرير عدائهم للقضايا العربية، وراحوا يبررون ذلك العداء وكأنه استجابة للارادة العربية، فما من حق عربي وقضوا في وجهه الا وجدوا فريقاً عربياً يستشهدون به لتبرير موقفهم.
في هذا الوقت الذي تتكاثر فيه الهجوم العربية وتتناقل فيه اعباء الانتماء القومي تزداد الحاجة الى الالتزام به والنضال من اجل اهدافه. وما التهرب من ذلك الاستسلام لارادة اعداء الامة العربية. فاعداؤها في الخارج يمهدون لذلك لأن غاياتهم تدعو الى ايصال الامة العربية الى مرتبة (رجل العالم المريض) طمعاً في ارثها. اما اعداؤها في الداخل فغاياتهم تدعو الى تكريس عصر الدويلات لانهم يعرفون انهم اقزام يجيدون حكم القبائل والطوائف ويعجزون عن قيادة الامة.
لا شك ان امتنا العربية تمر في عهد تطاولت فيه اتجاهات القطرية على القومية العربية. وحتى القطرية اصبحت تهددها جرثومة الطائفية البغيضة. ومع تعزيم المفهوم القومي داهمتنا مضاعفات ذلك فندرة بانهاء الحلم وبتبديد الفرصة. ومستقبل الشعوب لا تحكمه مشاكلها بل طريقة تعاملها معها. وأضمن وسيلة لتدمير المستقبل هي التأقلم مع امراض الحاضر. ولهذا السبب تتضاعف ضرورة التصدي لعوامل الانحطاط التي ترمي بثقلها على هذا الجيل العربي، فهي ضرورية لانقاذ هذا الجيل كما هي ضرورية لحفظ الفرصة للاجيال المقبلة.
ان امتنا العربية بحاجة لمن يسبحون ضد التيار، ومع ان ذلك مرهق الا انه ايضاً سبيل النجاة. وتدل تجارب الشعوب في مختلف الازمنة على ان السباحة ضد التيار مسؤولية المفكرين قبل غيرهم. وعلى المفكر العربي مسؤولية اعادة الشعبية للفكر القومي واسترداد الفخر بالانتماء القومي. فبدون ذلك ليس لهم امل بالخلاص من سجن الطوائف ومن حكم الازلام.

[email protected]