18 ديسمبر، 2024 8:51 م

الوقت: الثانية من بعد ظهر يوم تموزي لاهب.

والمشهد: رجل سبعيني يحاول الركض ليلحق بالباص المسرع بصعوبة ، جسده ضئيل وعرقه يتصبب منه كشلال عراقي طويل كطول معاناته.

استجمع كل قواه فصعد ليجلس إلى جانبي، استعاد أنفاسه المفقودة، ومسح جبينه بقطعة قماش متهرئة، وأغمض عينيه متنهداً ودمعة تغالب الزمن كي لا تسقط… لكنها سقطت !!

وكأن جبلاً سقط عليّ وقتها.. لماذا؟!

لأنني رأيت في أحداق الرجل وقتها صورة أبي وعمي وخالي، لأنني رأيت كيف يكون شكل الإباء حين يذوي، والكرامة حين تمتهن، والعمر حين يتحول إلى عبء كحقيبة ثقيلة مملوءة بأحجار ضخمة كالتي بنيت منها آثار بابل وبغداد!! .

هي الأخرى دمعتي سقطت، فمسحتها بمنديلي المعطر وضحكت للمفارقة، والعينين مملوءة بمياه الأسى، غالبت النفس وكل الأرقام والحسابات وقلت له خيراً أيها العم، الوالد، هل ثمة مشكلة؟ وهل هناك مساعدة أستطيع أن أقدمها لك؟!

نظر إلى بعينين تنبئ أن صاحبها كان يوماً ذو شأن، وابتسم ابتسامة الجريح ليقول لي: هي الدنيا يا ولدي!! تأبي إلا وأن تذيقنا كأس الذل، وكأن الواحد منا ليس من حقه وهو يحزم حقائب الرحيل أن يرتاح ولو للحظة؟!! .

حفزتني الإجابات، وأثارني الوجه الحنون لأعرف، فقلت له يا عم ما هي حكايتك؟ وهل أستطيع أن أشارك الهموم علني استطيع تخفيفها.

قال: حكايتي طويلة يا ولدي، وتمتد بتفرعاتها كتعرجات جبل عراقي مضت عليه آلاف السنين وهو صامد.. صابر!!

فلما أدركت كم يعاني في هذه البرهة قررت ألا أمعن في إثارة الأوجاع، مع تصميم أن أنفذ عزماً قد عقدته، وهو أن أعيش الحكاية من أولها إلى نهايتها مع الرجل، في مسكنه، حيث تتكون عناصرها وتمتزج تحت سقف لا أدرى إلى اللحظة ما هو كنهه، ولذا بعد سكوت أخفى صراعاتي الداخلية طلبت منه برفق أن أزوره في منزله؟!

فأومأ قابلاً العرض وحرك يديه في استسلام من لم تعد القرارات ملكهما.. وحدد لي موعداً ليس بالبعيد .

رن هاتفي، وجاء صوت (أبو عراق) وهذا هو اسم الرجل ليقول له إنه ينتظرني عند نقطة دالة.. التقيته، تصافحنا، صعدنا الباص الذي انطلق بنا ليشق الطريق إلى المكان الذي اختصر الزمن والوطن، إلى عراقي .. كان يوماً ذا شأن؟!! .

ومضت بنا السيارة، ثم انتقلنا إلى أخرى، وبعد النزول من الثالثة، أخبرني أن علينا قطع ما تبقى من طريق مشياً على الأٌقدم كون طرق المنطقة التي يقطن بها غير معبدة ولا يمكن لأي مركبة أن تدخلها بسهولة.

وبين متعرجات الطرق، ونصائح الرجل وتحذيراته لئلا أسقط في إحدى الحفر التي كانت تفاجئني بينما خبرها هو، وصلنا إلى ما أسماه بيتاً!! أمتار قليلة لا تكاد تكفي للملمة أفراد عائلته الخمسة، نظر إلى قائلاً: هل ما زلت مصراً بعد كل الذي رأيته على سماع الحكاية ؟!! فأجبت بثقة نعم!

استقر بنا المقام في غرفة صغيرة قال عنها أنها ذات استخدام مزدوج، ففيها الجلوس، والمنام، وتناول الطعام!!

فلما طلبت منه الحديث، أغمض عينيه قائلاً:

أنا يا بني مدرس متقاعد، أفنيت عمري في تعليم الطلبة ماهية الاقتصاد، ونظرياته!! عاصرت الأحداث الجسام التي مرت على البلد، عشت لحظات الانقلابات، وقفت على الدكتاتورية حين صنعت بهدوء، تابعت المعارضين وهم يتوزعون بين المقابر والمنافي، ذقت طعام الحصار غير الصالح للاستهلاك البشري.

طبخت على نار الألم بوقود الحرمان!! وسجنت وأهلي بين أسوار السنين الشاهقات، ووضعت مرغماً كل أحلامي وطموحاتي في صندوق أسود رميت به في نهر دجلة يوم كان يفيض بالمياه!!

وحين حانت اللحظة التي يسمونها التقاعد وجدت نفسي مستغنىً عن خدماتي بشكل فج، عدت إلى بيتي القديم حاملاً معي سنوات الكفاح الطويلة، وجسد متقاعد هو الآخر، وراتب قليل لا يسد الرمق، وعشرة عيون تتطلع فيَّ تنظر من خلالي إلى مستقبلها المجهول!!

فلا تسأل بعدها كيف عشنا؟!! وبماذا اقتتنا!! وكم بعنا من أغراض، حتى الذكريات عرضناها في سوق الزمن العتيق!!

رآني الرجل وأنا أتابع كلامه وأتصبب عرقاً، فالغرفة الصغيرة ــ منعدمة الأثاث ــ كانت سجناً بلا كهرباء، قال: القصة طويلة أعاننا الله وأعانك، ويزيد من قسوتها انعدام الكهرباء كما ترى، ولكن ماذا نفعل لهذه الأزمة في بلد يدر الملايين كل عام، هم لو أرادوا لفعلوا! ولكن كيف والفساد ينخر مؤسساتنا، ويغدو مرضاً مزمناً لا شفاء منه؟!

سآتيك حالاً..

كان ذهاب صاحبي فرصة لتأمل المكان.. اللامكان ..

اعتذر لي بلطف عن تواضع الطعام، وتابع: يا أخي أنهكتنا الأيام! فاليوم يحتاج الواحد منا مبلغاً طائلاً حتى يؤمن ما تحتاجه عائلته من خضار وفاكهة.. وأي خضار؟ فكأنك تتبضع بخارطة العالم وليس أكياساً، فالطماطم سورية، والبطاطا أردنية، والتفاح إيراني، والبرتقال جنوب أفريقي، والبطيخ صيني، وحتى أفقر البلاد تأبي إلا وأن تساهم ببضاعة باهتة الشكل واللون والطعم، وليس هناك من شيء عراقي إلا المستهلك!!

وبينما (أبو عراق) يتحدث ويسترسل بكلامه بخبرة الاقتصادي، وقع نظري على الماء المقدم لي، كان لونه غريباً مغبراً، والكائنات الغريبة تغدو وتروح فيه، فلما رآني منتبهاً ابتسم وقال ببساطة: اشرب فكل شيء ناله التلوث حتى نفوسنا!! فلما ألح علي اضطررت أن أشرب.. أغمضت عيني وأقفلت كل حواسي الخمس.. وشربت !!

ولما وجدت الشمس بدأت تغيب شيئاً فشيئاً لتملأ المكان وحشة، حانت لحظة الوداع، حينها قال لي صاحبي: لقد أتعبتك وربما ملأتك كآبة، ولكنها كانت رغبتك!!

فضحكت وأنا احتضنه قائلاً: على العكس يا أيها العراق! فأنت أريتني الوجه الآخر للملايين ممن نلقاهم صباح مساء ولا نعلم كيف يعيشون وإلى أين هم يمضون!!

ودعته وموجات الغبار الكثيف المتصاعد كانت تملأ الجو وقتها، ولا غرابة ــ فبحسب أبو عراق ــ حتى غبار الجو اليوم يحاصرنا ..

خرجت.. حاملاً تلك الصخور الثقيلة على ظهري حتى تكاد تكسره!!

وأنا متيقن بأن فجر العراق المنتظر لن يحين إلا حين نقرأ أن مصنعاً قد أفتتح، وحقلاً قد أنتج، ومحلاً يمتلأ ببضاعة بلدي، وحزاماً اخضر يصد موجات الغبار الخانق.. فالحل يكمن في تحريك المياه الراكدة، وقطع لأفعى الفساد، وتطهير للحياة كي تغدو بنقاء دجلة والفرات.. قبل أن يتلوثا.