خمسون عاما وذكريات ذاك الشتاء البغدادي لاتفارقني، ربع قرن ولازال الطفل الذي بداخلي ينظر إلى السماء كل مساء ويبتهل الى العلي القدير أن يلطف باباه .
نعم سماء بغداد ملبدة بالغيوم وبرد ليلها قارص، اعادني الزمن إلى يناير /ك٢ من عام ١٩٦٩ كنت وقتها قد انهيت دراستي الابتدائية في مدرسة مناحيم دانيال لالتحق بمتوسطة فرنك عيني (المدرسة النظامية اليوم). استيقظت في ال ٢٧ من ك٢ على نحيب والدتي تبكي اعدام ١٣ يهوديا في بغداد والبصرة لقد كانت تبكي من ازهقوا أرواحهم وعلقوا جثثهم على اعواد المشانق في ساحة التحرير ببغداد والبروم في البصرة ولكنها في الوقت نفسه كانت تتوجس مصير والدي الذي اعتقلته أجهزة مخابرات نظام البعث قبل أيام ضمن حملة مسعورة قادها ازلام النظام البعثي الذي استحوذوا على السلطة عام ١٩٦٨ وضيقوا فيها الخناق على ٤٠٠٠ عراقي يهودي فحرمونا من الهواتف ومنعونا من التوظيف في مؤسسات الحكومية وشددوا من تحركاتنا داخل وخارج العراق.
لأسابيع عدة حاولنا عبثا تقفي اثار ابي الذي “اختطف” في بغداد ، عرفنا بعدها أنه معتقل في البصرة ( بعد دفع رشاوى ضخمة) . كان يومنا تعيسا اجر فيها اقدامي لاذهب صباحا الى مدرستي واعود ظهرا لنوصد بابنا علينا انا ووالدتي واختي الصغيرة حتى صباح الغد.
كنت اجلس في الليالي أمام التلفاز اتابع فيها “نشرة الاعدام” كان المذيع في ختام نشرة الأخبار يتلو على المشاهدين قائمة بأسماء من سيعدموا فجر اليوم التالي!! كانت تلك فترة مظلمة حالكة السواد ابحث في سماءها عن معين يفك اسر ابي . وقد استجاب الله تعالى لدعاء الطفل اليافع وعاد ابي هزيلا شاحبا لم ينبص فيها كلمة واحدة عن ما مر عليه من فنون التعذيب ولكن الفرحة لم تكتمل فلم تمضي أيام معدودة حتى طرق بابنا جهاز مخابرات اخر ، وليس هناك أكثر من أجهزة وفروع المخابرات في الزمن الغابر، ليعتقلوا والدي مرة أخرى ولكن قبل أن يذهب معهم انتفضت اختي ، وكان عمرها ٦ اعوام، في وجه غربان النظام وصرخت في وجههم لن تأخذوا ابي مني فهو لي وهو بري. هذه الصورة لن تفارقني ما حييت.
رحم الله من اغتالته يد الغدر وأعدم بغير ذنب فقط لكونه يهوديا وجعل مثواهم الجنة