19 ديسمبر، 2024 4:34 م

قبل عودتي من الدراسة الجامعية في البصرة العام 1994 الى الناصرية كانت جامعة البصرة – قسم اللغة الانكليزية منهل معرفتي وتفتح رؤيتي على عوالم لم تخطر لي على بال. تشبعت بدراسة الادب الانكليزي خاصة شكسبير والمسرح المعاصر، والمدارس الادبية وعلم اللغة العام والنحو التحويلي والرواية الحديثة والقصة القصيرة. وكانت تقديم مسرحية باللغة الانكليزية العام 1993 احدى اهم التجارب التي جعلتني اقول: (هذا هو العالم الذي اود الانتماء اليه: عالم المسرح)..
بعد عودتي الى الناصرية، فاتحت الصديق حيدر عودة أن اعمل معه كممثل ونقدم عملا مسرحيا باللغة الانكليزية هو (لعبة حديقة الحيوان)؛ لكنه اعتذر لسبب او لآخر. ثم التقيت بالصديق فلاح نوري وأردت منه أن يقدمني الى المسرحيين في ذي قار. كانت هناك فرقة تسمى (جماعة الناصرية للتمثيل) تفرق مؤسسوها لأسباب لم اكن على علم بها. لكنني سمعت عن مشاكل في داخلها سببها تفرد رئيس الفرقة بالرأي واعلانه عن تأسيسها دون استشارة باقي الاعضاء. التقيت بالفرقة وكانوا ينوون تقديم مسرحية (موزارت وساليري) ثم عدلوا الى (في اعالي البحر)، اشتركت في العمل وأخذت الدور الرئيسي دون انتماء الى الفرقة. بعد ذلك قدموا عملا آخر (الواقعة)؛ أدى بي الى عدم التعاون معهم في اي عمل آخر.
تجربتي مع الاخوة في (جامعة الناصرية للتمثيل) لم تتعد اشهرا من الود المفقود، وسلسلة طويلة من عدم الانسجام. كانت اجواء التمرينات غير صحية للغاية، ليس لها علاقة برقة الفن الانساني للبشر والاشياء والافكار.
من جانب آخر، كانت تجربتي مع حيدر عودة عندما اخرج مسرحية من تأليفي (وداعا مؤقتا) هي نقطة انطلاقي الحقيقية في عالم المسرح اذ مكنتني أن أرى كائناتي وهي تتحول الى اجساد وحركات وضوء، ومن هنا وضعت قدمي في ساحة التأليف. وجاءت تجربة الاخراج المشترك مع حيدر مكي لتنقلني خطوة ابعد في فضاء الاخراج.
مناسبة هذه الكلمات هي سلسلة الادعاءات التي يكررها دون كلل او ملل الأخ ياسر البراك، وبعض المنافقين، من أن معظم فناني محافظة ذي قار المسرحيين قد خرجوا من عباءة (جماعة الناصرية للتمثيل).. ولو تمثلوا بمعطف كوكول المتواضع الحقيقي الذي ينتمي اليه متفاخرا ديستيوفسكي وتولستوي، لتركوا للاخرين مهمة قول الحقيقة.. لكن، وبما أن الكذب يصبح حقيقة من كثرة ترداده وعدم وجود من يعيد ما لقيصر لقيصر وما لله لله، فإنني أعلن: لم اكن ضمن المنتمين الى (جماعة الناصرية للتمثيل) ولم ارد ان انتمي اليها، ولا تحمل ذاكرتي من تلك الايام اية معرفة او قيمة تذكر. وكل من يحاول ان يضيف اسمي اليهم فهو إما واهم او ينفعه الوهم.
بالنسبة لي، أرى الموضوع كله عبارة امراض تضخم الذات المجوفة والتي تثبت ان الفاشل يحاول ان يتعلق بغيره ويختبئ خلف التاريخ المزيف كي يثبت حضوره. فلو كان من يدعي اكتشاف المبدعين مبدعا بحق لخلف لنا ما يخلد في الذاكرة خارج ثرثرة المقاهي. لقد عملنا مع كثيرين وتأثرنا بهم وأثرنا فيهم، لقد اشعلنا قناديل في الدروب ونحن صامتون، لقد أوحينا ونصحنا وتمت سرقتنا وتسامحنا بروح نبيلة.. لكننا ما ادعينا يوما الابوية ولا الريادة وبتواضع انزوينا دائما عن كل ضوء. لقد ابتعدنا عن التكالب المادي ولم نتمسح (بقيادة الفرع) أيام النظام البائد، ولا رقصنا في (أعياد ميلاد الريس)؛ لم نركض مصفقين نصفق للــ(جلبي) ولم نتسول على مكاتب (أياد علاوي)، ولا رقصنا على كل منبر؛ ولا صلينا خلف أصحاب العمائم ثم نهشنا لحمهم ولا بعنا ماء وجهنا في مكاتبهم.
نحن ببساطة، نبحث عن الحقيقة. نحاول ايجادها، وليس البحث عن المجد الاعلامي، او الحضور الاجتماعي او الزهو الذاتي. نحن نبحث في خبايانا عن بقايا من جمال نضيفه الى العالم وفي خضم البحث ننسى ان قراداً يتغذى على دمائنا، وأن الزيف والكذب والادعاء يتحول الى حقيقة. لكن أقصى ما يمكن أن نفعله ونحن نستذكر بوذا أن نبتعد عن العواء منكرين صلتنا به.

أحدث المقالات

أحدث المقالات