18 ديسمبر، 2024 10:18 م

حسن الخلق في فكر الشهيد محمد الصدر

حسن الخلق في فكر الشهيد محمد الصدر

لا أريد الحديث عن حُسن الخُلق الذي كان يتحلى به السيد الشهيد محمد الصدر(قدس)!!! بل يمكنني القول بأن التغيير العظيم الذي حصل في المجتمع وإخراج الناس من الظلمات الى النور هو أحد تجليات حُسن الخُلق الذي كان يتحلى به السيد محمد الصدر(قدس)..

 

والكلام هنا عن حُسن الخُلق من منظور السيد محمد الصدر(قدس)..

 

من  المعلوم لدى المتتبع لفكر الشهيد محمد الصدر(قدس) أن السيد الصدر(قدس) يعرض الأفكار بمناسبات متعددة ومقامات مختلفة …

 

فهو لم يقتصر في عرض أفكاره على مؤلفاته بل تعداها الى أساليب أخرى كخطب الجمعة ودروسه ومواعظه وحواراته الصوتية فإذا أراد الباحث أن يستقصي موضوع ما في فكر الشهيد محمد الصدر(قدس) فعليه أن لا يقتصر فقط على مؤلفاته فحسب بل لابد من مراعاة كل ما صدر منه وهذا ما يساعد الباحث في فهم مراد السيد محمد الصدر(قدس) بشكل واضح وكذلك يتعلّم الباحث كيفية طرح هذه الأفكار بناءاً على ان لكل مقام مقال والتي تندرج تحت عنوان مداراة الناس  وتكليمهم على قدر عقولهم..

 

وحديثنا عن حُسن الخُلق أيضا مشمول لهذا المنهج..!!

 

كثيرةٌ هي المناسبات التي تحدّث عنها السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) عن حُسن الخُلق.. أهمها كتاب فقه الاخلاق وموسوعة ما وراء الفقه والكثير من مؤلفاته وكذلك لم تخلُ خطب الجمعة من الحديث عن حُسن الخُلق وكذلك الأمر بالنسبة للدروس والمواعظ وهنا ينبغي الإعتذار للقارئ الكريم عن الإحاطة التامة بها كماً ونوعاً ولكن أقتصر على ما تيسّر لي بمقدار فهمي الفاتر وعقلي القاصر كل أملي هو إثارة الباحث في الخوض بهذا الموضوع وغيره من الموضوعات التي تناولتها سابقاً….

 

فقد ذكرَ السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) تعريفاً لحُسن الخُلق كَشَفَ من خلاله عن الغموض الذي كان يكتنف تعاريف علماء الأخلاق حيث كانوا يعتمدون على التعريف بالحمل الشائع يعني تعريف الشئ من  خلال مصاديقه!!!!

 

أما منهج الشهيد محمد الصدر(قدس) فهو يحدّد مفهوم الشيء المُراد تعريفه ثم يتعرض الى بيان مصاديقه وتطبيقاته وهذا موافق للعقلِ والمنطقِ حيث جاء في الجمعة السابعة والثلاثين ما نصه:

 

]وتحسين الخُلق وإن كان يعني عرفاً مجرد المجاملة مع الآخرين, وهو لا شك من مصاديقها وتطبيقاتها, إلا أن المسالة أوسع من ذلك بطبيعة الحال, فإنه بحسب فهمي يعني وضع الشيء, أو التصرف في موضعه المناسب له وهذا هو العدل أو العدالة, فحُسن الخُلق مساوق للعدالة أو مساوق مع العدالة , والعدالة وإن شملت الآخرين بطبيعة الحال من أصدقاء, وأعداء وأسرة وأخوة وغير ذلك فإن المفروض في الفرد المؤمن أن يكون عادلاً في علاقاته مع أي شخص ويطبّق رضا الله سبحانه وتعالى وتعاليم شريعته في كل مجتمع,إلا أننا ينبغي أن نلتفت الى أن العدل غير خاص بهذا المورد, بل له موارد أخرى, بل لعلها هي الموارد الأهم والأعظم وهي العدل في علاقتك بنفسك, والعدل في علاقتك بربك والعدل في علاقتك بأوليائك (عليهم افضل الصلاة والسلام).

 

أما علاقتك بنفسك فالنفس متكونة من عقل وقلب وشهوات ونحو ذلك ولكل من هذه الملكات نظامها العادل الإلهي الذي يجب إتباعه والسير على نظامه وإتباع التكامل الحقيقي النوراني له حتى يصبح الفرد المؤمن ممن يحبه الله ويحبونه ويكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر وأما علاقتك بربك فهي الأهم على الاطلاق وإنما كل العلاقات الأخرى مبنية عليها ومتجهة إليها ولولاها لما كان لها أي معنى وأي مبنى وهذه العلاقة المقدسة لها مراتب بطبيعة الحال

 

أولها مجرد الإعتقاد بوجود الله وتوحيده.

 

والثانية محاولة إطاعته في الجملة فيكون الفرد عندئذ ممن عمل عملاً صالحاً وآخر سيئاً.

 

والثالثة محاولة طاعته بالإلتزام بالإتيان بجميع الواجبات والكف عن جميع المحرمات ومن هنا ينفتح باب الخيرات والرحمة الإلهية لأن الفرد عندها يكون من المحسنين والله تعالى يقول ((إن رحمة الله قريب من المحسنين)).

 

ومن هنا نسمعه يقول كما في الرواية في نتائج ذلك ((من حسّن في هذا الشهر خُلقه كان له جواز على الصراط يوم تزل فيهه الأقدام)) فإن الجواز على الصراط يعني الذهاب الى الجنة والى رضاء الله سبحانه وتعالى وزلل القدم يعني السقوط في هاوية جهنم أو هاوية الرذائل أياً كانت.

 

ومن الطبيعي والمعقول جداً أن من كانت علاقته عادلة بينه وبين ربه وبينه وبين نفسه وبينه وبين الآخرين إذن فهذا هو بعينه ثبات القدم على الصراط والجواز عليه الى الجنة فإن هذا الفرد لا شك أنه يكون أهلٌ لذلك بخلاف الآخرين الذين تنقص عدالتهم أو تنتفي في المرة أو يتورطون في مختلف أنواع الزلل والفجور ” والعياذ بالله”[ انتهى.

 

إن السيد محمد الصدر(قدس) يبيّن لنا من خلال هذه الخطبة مفهوم الأخلاق الذي هو بنفسه(حُسن الخُلق) وهذا المفهوم الواسع والشامل والدقيق للأخلاق لم يتطرق له علماء الأخلاق مع أنه ليس بمستطاعهم إنكاره!!!!

 

إن فكر السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) يتميّز بالسعة والدقة والعمق والإلتفات على مستوى المفهوم والفكرة وعلى مستوى المصاديق والتطبيقات..

 

إن السيد محمد الصدر(قدس) برهن على أن الأخلاق شاملة للعقائد والفقه وأن مفهوم الأخلاق يشمل السلطات الثلاث للدولة (القضائية والتشريعية والتنفيذية)  فكل هذه السلطات تستهدف العدل والعدالة كما لا يخفى!!!!!..

 

إن مفهوم الأخلاق الذي يتبناه السيد محمد الصدر(قدس) إنعكس على شخصيته في كل أبعادها وكل مستوياتها بما فيها مستوى التفكير والسلوك ولو حاولنا إستقصاء البُعد الأخلاقي بمفهومه الذي حدده السيد محمد الصدر(قدس) فهذا الأمر يتطلب جهداً جهيداً..

 

وسأحاول تسليط الضوء على بعض التجليات الفكرية والعملية..

 

والآن فلنسمع أو  نقرأ ما كتبه السيد محمد الصدر(قدس) في مقدمة كتابه العظيم فقه الأخلاق ما نصه:

 

((المستوى الاول: إن الفقه يمثل الشريعة, والشريعة تمثل العدل الإلهي إذن فالفقه يمثل العدل الإلهي وبتعبير آخر: إن التعاليم الفقهيه إنما شُرّعت لأجل إيجاد النظام العادل على الفرد والمجتمع, لا طبقاً لشهوة أحد, وإنما طبقاً للعدل الإلهي الذي إقتضى الأمر ببعض الأمور والنهي عن البعض الآخر, فكان أن وجد الفقه بمظهره المعروف ومن الواضح عند أهل الفن: إن (العدل) جزء من (الاخلاق), لأن القضية الرئيسية والكبرى في هذا العلم هو إدراك حُسن العدل وقُبح الظلم ومعه, فسيكون  الفقه كله ناشئا من منشأ أخلاقي, وهو العدل. مضافاً الى إنطباق هذا المفهوم على كل مسألة من مسائله, وكل تطبيق  من تطبيقاته  بحيث يكون كل حكم فيه هو عادلاً, للعدالة الإلهية التي أقتضته. وهذا أحد الأساليب لفهم ما قلناه من الأخلاق تشمل كل مسائل الفقه وليس بعضها.

 

المستوى الثاني: إننا إن فهمنا من الأخلاق التربية العُليا والسلوك الأمثل, في مقابل ما للعامة من تكاليف, أمكننا القول بأن التكاليف العامة في الفقه هي الواجبات والمحرمات, والتكاليف المعمّقة هي المستحبات والمكروهات, وهي التي تربي الفرد في خطوة أعلى من مجرد الإلتزام بما هو إلزامي في الشريعة, فتكون المستحبات والمكروهات الفقهية هي أحكام أخلاقية بطبيعتها.

 

ومن المعلوم أن هذا الجانب, أعني المستحبات والمكروهات, تستوعب أغلب الفقه من الناحية العملية سواء بالنسبة الى الأخبار الواردة فيها, أو الكتب المؤلفة والسلوك الذي تقتضيه وهذا المستوى يبرهن على أن أكثر أحكام الفقه هي أحكام أخلاقية.

 

المستوى الثالث: إن المستوى الأخلاقي المعمّق يبدأ من الصفر, أو المستوى الضحل للفرد, ثم يصعد به تدريجياً الى الكمال, فماذا سوف يكون المطلوب من الفرد الإعتيادي, إذا أراد أن يسير في هذا الطريق لأول مرة؟

 

هناك عدة أجوبة على ذلك, إلا أن أصحها حقيقة, وأقربها الى الفهم العام للكتاب والسنة هو إن الخطوة الرئيسية والأهم في هذا الصدد,  هو الإلتزام بالشريعة الظاهرية أو التعاليم الفقهية, حتى ما إذا حصل ذلك بالإخلاص, كان الفرد مستحقاً للخطوة الثانية في طريق الكمال.

 

إذن, فالفقه مقدمة للمستوى الأخلاقي المتكامل ومقدمة الشيء ليس غريبة عنه, بل هي منه بالحقيقة, إذ مع تغاير الجانبين وتباينهما, يتعذر أو يستحيل حصوله مثل هذه المقدمية.

 

المستوى الرابع: إننا في أول هذا البحث عرّفنا الفقه بأنه علم التشريع, وعرّفنا الأخلاق بإنها علم السلوك, فهل يمكن أن يكون بين التشريع والسلوك تباين وتغاير؟ طبعاً لا, فإن التشريع إنما وجد لأجل السلوك على طبقه, أو قل بأن التشريع العادل أُوجد لأجل إيجاد السلوك الصالح. كما إن السلوك إنما ينشأ طبقاً بتشريعات مسبقة يدركها السالك.

 

إذن فلو قصدنا من السلوك: السلوك الأخلاقي الظاهري أو العام, وهو حُسن معاملة الآخرين ونحوها, فهو من صميم الفقه, ولا يحتاج الجزم بذلك إلا الى إلقاء نظرة على التعاليم الفقهية.

 

وإن قصدنا من السلوك: السلوك الأخلاقي المعمّق, وهو أيضا ناشيء طبعا عن تعاليم, بإعتبار أن من الأفضل إتخاذ هذا السلوك دون ذلك, على إختلاف حاجات السالك وحالاته وأهدافه, وهذه التعاليم أيضا من نوع التشريع أو الفقه, إلا أنها ليست فقهاً عاماً, لأنها مما لايتحمله العامة, بل يخص البعض دون البعض لا محالة.

 

وهذا معناه أن الفقه ليس فقط مقدمة للأخلاق العُليا, كما قلنا في بعض المستويات السابقة, بل هو يبقى مرافقاً للفرد والسالك في مدارج الكمال, مهما كان مرتفعاً)) انتهى.

 

يتضح من خلال هذه الكلمات أن الفقه والاخلاق والكمال كلها من مصاديق العدالة.. إذ لا يمكن للإنسان السير نحو الكمال إلا بتطبيق العدالة في كل علاقاته وهذا يعني العقائد والاخلاق والفقه.

 

وليس من السهل إستقصاء هذه الأفكار الخلاقة للسيد محمد الصدر(قدس) ولكن الذي يهوّن علينا الأمر هو المحاولة وإليك ايها القارئ الكريم هذه الكلمات التي كتبها السيد محمد الصدر (قدس) في كتاب ما وراء الفقه الجزء الأول القسم الأول فصل العدالة حيث قال ما نصه ((ومن هنا كان لا بد لنا في تمييز العدالة الى الإلتفات الى أحد الامرين:

 

الامر الاول: ما عرفناه من ان العدل هو وضع الشيء في موضعه مع التحويل في ذلك على الواقع الموضوعي الذي يعلمه الله عز وجل فإن كان الفرد قد وضع سلوكه أو أي أمر في موضعه الواقعي كان عادلاً وإلا فلا.

 

الأمر الثاني: الشريعة فإن كان سلوك الفرد مطابقاً لها كان عادلاً وإلا فلا.

 

أما الأمر الأول فهو متعذر الإدراك وحده بوضوح تعذر الإطّلاع على الواقع الموضوعي مباشرة أو عن طريق علم الله عز وعلا وإنما هناك طريقان لإدراك هذا الواقع: أحدهما:

 

العقل الذي عرفناه قصوره والآخر هو الشريعة ومن هنا نعرف أنه لا تنافي بين التعريف العدل: بانه وضع الشيء في موضعه المناسب له وبين تعريفه: بأنه موافقة العقل العملي أو أنه موافقة الشريعة لأن هذين الامرين الآخرين: أعني العقل والشريعة: إنما يدلان على أن الفرد قد وضع الشيء في موضعه المناسب له.

 

غير أن العقل لمّا كان ضيقاً, كان المرجع الرئيسي في تمييز ذلك هو الشريعة.

 

كما لا تنافي بين حكم العقل والشرع, لأننا إن بنينا على القاعدة القائلة: ما حكم به العقل حكم به الشرع. فالأمر يكون واضحاً, لأن الشرع بنفسه يكون محتوياً على كل أحكام العقل وزيادة, وهذه الزيادات تخص الموارد التي عجز العقل عن إدراكها. وإذا لم نبنِ على تلك القاعدة أمكننا الإلتفات الى قاعدة أخرى متسالم على صحتها بين علماء المسلمين بمختلف مذاهبهم, وهي قولهم: ما من واقعة إلا ولها حكم. إذ ينتج منها: إن حكم الشرع شامل لكل موارد حكم العقل سواء وافقه فيها أو خالفه. غير ان الوجدان الضروري قاضٍ: بأننا لم نجد اي إختلاف بين حكم العقل والشرع.

 

وحتى لو فرضت  المخالفة فإن مولانا الذي يجب علينا إطاعته هو  الشريعة أو قل: صاحب الشريعة, فليس مولانا هو العقل… إذن, فالمهم في تمييز  العدل إنما هي الشريعة بالذات.

 

وهذا هو الذي يفسّر قول اللغويين في تعريف العدل: بأنه الحكم بالحق. يعني بالشريعة وحيث أننا متاخرون عن صدر الاسلام وغير معاصرين لصاحب الشريعة, فإنما تكون الشريعة بالنسبة إلينا ما قامت عليه الحجة من التكاليف والأحكام. كل ما في الأمر أن الطرق المثبتة لهذه الحجة ذات اشكال ومستويات مختلفة لا حاجة الآن الى تعدادها.

 

فالمهم في العدل, هو تطبيق الحكم الشرعي الذي  قامت الحجة على صحته. وهذا هو الفهم الذي حامت الروايات حوله))انتهى.

 

إن مفهوم حُسن الخُلق الذي حدّده السيد الشهيد محمد  محمد صادق الصدر(قدس) يشمل كما قلت سابقاً حتى مفهوم الدولة بجميع سلطاتها الثلات وعليه فإن مفهوم السياسة في الإسلام يختلف عن المفهوم السائد والمسيطر على البلدان والشعوب ذاك المفهوم الذي يرتكز على السياسة التي لا قلب لها وبالتالي لا أخلاق ولا عدل وهذا المفهوم اللا أخلاقي كلّف البشرية ثمناً باهظاً من الظلم والدمار والقتل والحرمات والمآسي وغيرها مما يعجز القلم عن وصفها..

 

إن مفهوم السياسة إسلامياً يمثل مصداقا صارخاً لحُسن الخُلق والعدل وإليك عزيزي القارئ ما قاله الشهيد محمد الصدر(قدس) في الجمعة الحادي عشر الخطبة الثانية ما نصه ((من جملة البراهين الممكن إقامتها قدرة الله وحسن تدبيره النظام العادل الكامل, الذي جاء به النبي (ص) فإن معجزته الخالدة مع القران الكريم طرق سمعك وسمعي أن المعجزة الخالدة للنبي وللإسلام هو القرآن الكريم وهذا صحيح, لكننا في الإمكان أن نضيف معجزة خالدة أخرى, وهو نظام الإسلام-العدل الاسلامي- الذي بشّر به النبي(ص) وجاء به النبي(ص) و((حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرام محمد حرام الى يوم القيامة)) فإن المعجزات الوقتية وإن كانت صحيحة كتسبيح الحصى, وشق القمر, وغير ذلك من الأمور, ألا انها تزول في وقتها ولا تبقى منها إلا الرواية والنقل, بخلاف المعاجز الخالدة ومعنى خلودها كونها معجزة على كل الأجيال وعلى كل الأديان وعلى كل الطبقات وعلى كل المستويات وعلى كل القرون الى يوم القيامة ويمكن الإستدلال على عدالة ودين محمد بن عبدالله الذي هو دين الاسلام, بعدة أدلة أذكر ما هو ممكن منها:

 

أولا: أن البديل الذي يمكن أن يكون بديلاً عن الإسلام, وعن نظام الإسلام, أحد أمرين لا ثالث لهما:

 

إما عدم النظام في المجتمع إطلاقاً وإما القانون الوضعي, الذي يسنّه  البشر, بغض النظر عن الرسالات الالهية, أو كما يعّبر بعضهم بغض النظر عن الإتصال بالسماء وإله السماء كلا المطلبين محل اشكال, ليسا صحيين فإذا تم إسقاطهما, تعين أن نظام الإسلام هو العادل الكامل.

 

البديل الاول: الذي هو عدم وجود نظام إطلاقا في المجتمع, فهو طبعاً واضح جداً, أنه ساقط في نفسه ولا يريده اي شخص من البشر للمجتمع, وعبارة بعضهم(( أنه يصبح المجتمع جحيماً لا يُطاق)) وعبارة بعضهم ((أنه يصبح المجتمع الإنساني تحكمه شريعة الغاب)) ونحو ذلك من الأمور ولذا أوجب علماء الكلام على الله سبحانه وتعالى -بحسب حكم العقل- أنه خلق الخلق وهو كفيل مصالحهم ونظامهم ووجود العدل فيهم, لا أنه يخلق الخلق ويتركهم هملاً, يقتل بعضهم بعضاً, ويسرق بعضهم بعضاً هذا خلاف اللطف الإلهي خلاف قاعدة اللطف وهذا البديل ليس بصحيح.

 

البديل الثاني: هو القانون الوضعي من أين أتى؟

 

له مصدران أساسيان إما العقل وإما النفس أما أن المقنن يحكّم عقله في إدراك المطالب ويكتب قانونه وهذا على أحس التقادير, وأما انه يحكّم نفسه, وشهواته, ومصالحه الخاصة وكلا الأمرين ساقطان وسيئان أما إذا حكّم المقنن شهواته ومصالحه الخاصة فهذا فاسد من أصله وهذا غير قابل للنقاش, وإنما يحتج أهل القانون على إننا نحكّم عقولنا في هذا المطلب فمن هذه الناحية يأتي القانون صافياً وصحيحاً, ومعه ما الحاجة الى الشريعة الإلهية؟ هذا الذي طرق سمعنا من أن العقل البشري مدرك لشيء من الصواب ولشيء من العدل, له باب وجواب صحيح يقول العدل حسن والظلم قبيح والصدق حسن والكذب قبيح على العين والرأس الى آخر قائمة موجودة بحكم العقل اكيداً ولكن لنخطو خطوة ثانية هل أن العقل يدرك  ذلك في كل شيء؟ جملة من الأشياء نسأل أنفسنا نشك أنها هل هي حسنة أم هي قبيحة؟ الله العالم نحن لا نعلم كذلك عندنا ما يسمى بالمزاحمة تتعارض في ذهنك الأشياء هذا أهم أو هذا أهم, هل يدرك العقل شيء من هذا القبيل, أن هذا بالتعيين أهم؟ طبعاً لا يوجد مثل هذا الشيء فالإنسان في عقله موجود إدراك بإذن الله سبحانه وتعالى للخير والشر ولكنه ضيّق لا يشمل جميع مناحي الحياة بجميع حقول المعرفة بكل تأكيد, ضيق ربما واحد بالمائة الى خمسة بالمائة, وإلا الباقي كله مشكوك عقلياً, وهذا وجداني إسأل نفسك اي شيء تريد, حينئذ ماذا يصير؟ يصير أن المقنن يأتي ويجلس ويكتب قانونه بأي عقل؟ بهذه الخمسة بالمائة؟ والباقي مشكوكات, يجعل المشكوكات على شكل يقينيات؟ ويحمل الناس مسؤليتها؟ هو هذا الخطأ, فمن هذه الناحية, العقل قاصر عن إدراك الواقعيات التي يعلمها الله سبحانه وتعالى, قاصر عن إدراك الواقعيات التي يعلمها المعصومون(سلام الله عليهم), فإذا عطفنا على ذلك أن العقل البشري مادي, يعني يعيش في بوتقة المكان والزمان والمجتمع والمصالح الفردية والمصالح الأسرية وغير ذلك, المقنن ليس بمعصوم طبعاً, ولا يدّعي أحد عصمته  لا من الأولين ولا من الآخرين, المقنن بشري وليس معصوم أكيداً وهو رهين كما أن كل واحد منا رهين المكان والزمان والدنيا والمصلحة والمال, فلولا اللطف الالهي عرفنا الآخرة؟ عرفنا الحساب؟ عرفنا الثواب؟ عرفنا العقاب؟ عرفنا مثلاً المدارج العُليا؟ الملائكة؟ حملة العرش؟ لا نعرف طبعاً والمفروض أن المقنن من هذه الناحية يخرج عن ذهنه كل هذه الأمور سواء عرفها أو لم يعرفها, وإنما يتبع الدنيا المحضة والمجتمع الذي بين يديه فقط, كما يقول ذاك((فو الذي يقسم  به أبو سفيان لا جنة ولا نار)) هو ايضاً يقول لا جنة ولا نار ويجلس ليكتب القانون, وصار أنه أهمل المصالح الرئيسية للبشرية, التي هي حساب يوم القيامة والجنة والنار, لأنه نحن لم نخلق لهذه وإنما خُلقنا للآخرة, وهو يقول نحن خلقنا لهذه الدنيا, ولم نخلق للاخرة:

 

إن كنت لا تدري فتلك مصيبة

 

أو كنت تدري فالمصيبة أعظم

 

إذن فالعقل البشري لا يستطيع أن يضع قانوناً, فاذا فسّر كلا الإحتمالين, لا بلا نظام يصير ولا يصير بنظام عقلي وضعي هذا أيضا فاسد, إذن يتعين النظام الإلهي. إن الله تعالى تُتبّع شريعته صغيرة وكبيرة, مهمة وقليلة كلها باذن الله سبحانه وتعالى والله تعالى غير مقصّر أعطانا العدل الصحيح الكامل وإنما يصدّ عن ذلك شهواتنا ومصالحنا وطرقنا الفاسدة والملتوية, ليس أكثر من ذلك…)) انتهى.

 

والله أنه بحق كلامٌ عادلٌ من رجلِ العدالة والنور…

 

هناك جدلية بين المفكرين الإسلامين تتعلق بالدولة الإسلامية من حيث أسبقيتها وتسبيبها ومن المفكرين من تبنى هذه النظرية التي تقول بإن إقامة الدولة العادلة (الإسلامية) أولاً ومن ثم المجتمع الإسلامي العادل.. إلا أن الشهيد محمد الصدر(قدس سره) يرى عكس ذلك بإن المجتمع الإسلامي العادل هو الذي تنبثق منه دولة العدل الإسلامية وإلا فمصيرها الفشل وهذا ما نجده واضحاً وجلياً في موسوعة الإمام المهدي(ع) حيث إن طول الغيبة يؤدي الى تمحيص وتكامل المجتمع فكرياً وعاطفياً..

 

وقد أشار السيد محمد الصدر(قدس سره) في الجزء الأول من الموسوعة تأريخ الغيبة الصغرى من خلال حياة الامام حسن العسكري (ع) وبالتحديد حينما تعرض لموقف الخليفة المهتدي الذي أراد أن يسلك مسلكاً مشابهاً لمسلك عمر بن عبد العزيز في الإهتمام بالعدل والمظالم وإليك أخي القارئ بقية الكلام في نفس المصدر حيث ذكر السيد محمد الصدر(قدس) ما نصه((وأما بالنسبة للمهتدي العباسي, فما قد يلاحظه التأريخ كونه متحنثاً متديناً, يتشبه بعمر بن عبد العزيز, وكان يواصل الصيام وكان يركع ويسجد الى أن يدركه الصبح }المروج ج 4{

 

وإنه بنى قبة للمظالم جلس فيها للعام وللخاص وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وحرّم الشراب ونهى عن القيان وأظهر العدل }المروج جزء 4 ص 96{ … وهذا وإن كان تقدماً نحو الحق بالنسبة الى أسلافه وتخلصاً عن كثير من العثرات والإنحرافات التي وقعوا فيها إلا أنه على اي حال حق بمقدار فهمه وإدراكه.. حق مبتور ناقص.. لا يمكن أن يكون هو التطبيق الصحيح للإسلام.. ومن ثم وقف الناس منه موقف الرافض المستنكر وذلك إنطلاقاً من إحدى وجهتي نظر وجهة النظر الأولى:

 

وجهة من يجعل إلهه هواه, ويستصعب الحق والعدل ويستكين الى اللهو واللعب الذي عوّدهم عليه الخلفاء السابقون. فكان مسلك هذا الرجل ضيقاً عليه وإحراجاً لموقفه. يمثل هذه الوجهة أكثر الشعب وأكثر القواد والوزراء والمنتفعين. يقول المسعودي! فثقلت وطأته على العامة والخاصة, فأستطالوا خلافته وسئموا أيامه وعملوا الحيلة عليه حتى قتلوه }المروج ج 4 ص 96{.

 

وجهة النظر الثانية

 

وجهة نظرالإمام عليه السلام الواعية لحقيقة المشكلة الإجتماعية من ناحية وللعدل الإسلامي من ناحيةأاخرى. فليست المشكلة الأساسية في المجتمع, ما أدركه المهتدي من سوء القضاء أو إنصراف الخليفة عن مصالح الناس أو كثرة البذخ في البلاط أو زيادة في مكتسبات القواد ورواتبهم.. فإن كل ذلك وإن كان ظالماً خارجاً على حكم الاسلام.. إلا إن ذلك كله فرع الحقيقة الكبرى للمشكلة, وهو إنحراف المجتمع أساساً عن العدل الإسلامي وعدم وعيه له وعدم إستعداده لتطبيقه والتضحية في سبيله. والحل لا بد  من محاولة إيجاد الوعي وتثقيف الناس, حتى يخضعوا للحكم العادل ويكون طيباً على نفوسهم)) انتهى.

 

المصدر “تأريخ الغيبة الصغرى ص(171-172)”

 

يا له من كلام عظيم ينمُ عن وعي وإدراك منقطع النظير إن هذه الكلمات طبعت سنة 1970 ميلادي وبالتالي فإن هذا الرأي قبل ذلك التأريخ على أقل تقدير في فترة الستينيات.. حيث أشار السيد محمد الصدر(قدس) الى عدة امور:

 

1.   إنحراف المجتمع أساساً عن العدل الإسلامي.

 

2.   عدم وعي المجتمع للعدل الإسلامي.

 

3.   عدم إستعداد المجتمع لتطبيق العدل والتضحية في سبيله.

 

هذه الأمور الثلاثة تمثل المشكلة الإجتماعية الكبرى وقد أشار السيد محمد الصدر(قدس) أن سببها هو إتخاذ الهوى إلهاً فيكون الهوى صنماً يُعبد من قبل صاحبه!!!..

 

وأيضا ذكر السيد الشهيد محمد الصدر(قدس) الحل والعلاج لأصل المشكلة!!! وهنا تكمن عبقرية هذا الإنسان وإبداعات العالم الناطق المخلص… إن الحل هو محاولة إيجاد الوعي وتثقيف الناس حتى يخضعوا للحكم العادل ويكون طيباً على نفوسهم….

 

إن هذا الفكرة التي ذكرها السيد محمد الصدر(قدس) قبل أكثر من عشرين عام من تصديه لقيادة المجتمع العراقي لاحظ أنه يقول أن الحل هو المحاولة.. وهذا ما كان يردده كثيراً على المرء أن يسعى بمقدار جهده وليس عليه أن يكون موفقاً..

 

وهذه المحاولة تستهدف إيجاد الوعي عند الناس وتثقيفهم..

 

وعلى هذا الأساس قسّم السيد محمد الصدر(قدس) الحوزة الشريفة الى ناطقة وساكتة إعتماداً على محاولة إيجاد الوعي والتثقيف في المجتمع فالسيد محمد الصدر (قدس) يرى أن الحوزة مسؤولة ومكلّفة في إيجاد هذا الوعي..

 

أما الحوزة الساكتة ترى أنه ليس من الواجب دقُ باب المجتمع وعلى هذا الأساس بنت الحوزة الساكتة فلسفتها الإجتماعية..

 

إن محاولة السيد محمد الصدر(قدس) إيجاد الوعي الإسلامي تمثل أهم حدث تأريخي في عصر الغيبة الكبرى حيث إستطاع أن يحطّم ملايين الأصنام التي كانت تعيش في نفوس الملايين من أبناء المجتمع وهي آلهة الهوى التي كانت سبب للغفلة والنومة الطويلة وعدم الشعور والوعي لأهمية العدل.. كانت محاولة السيد محمد الصدر(قدس) تستهدف الجانب العاطفي والوجداني من جهة وتستهدف أيضا الجانب العلمي والثقافي وقد نجح بفضل الله في كلا الجانبين ولا زالت آثار تلك المحاولة التربوية حية تعيش في وجدان المؤمنين.. قلنا فيما سبق أن السيد  محمد الصدر(قدس) أحيا وظائف دينية كثيرة أهمها وظيفة التبليغ ووظيفة الهداية(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) وصلاة الجمعة التي كانت تمثل المغتسل الروحي لنفوس المؤمنين وليس غريباً أن يتوفق السيد محمد الصدر(قدس) في ذلك أولاً لإخلاصه الذي لم يشهد له نظير وثانياً لوعيه وثالثاً لعدله وعدالته ورابعاً لحبه وعطفه وحنانه على  الناس أجمعين.