استرتيجية الصقل و إعادة البناء للنص السردي
بمنظور ذرائعي
أبدى الفلاسفة والمنظرون والمفكرون الغرب و العرب الإعجاب الشديد حد الانبهار بفلسفة التفكيك وكسر قشرة النص والدخول نحو المضمون المشبع بالإفك، من تناقضات ونواقص وشروخ كما جاء على لسان (داريدا) نفسه صاحب التفكيك، والكل صفق لهذا الرأي، وخصوصاً المفكرون ورواد النقد العرب, وترجموا كتبه جميعاً ودرسوا فلسفة الحضور والغياب وجميع أفكاره وكتاباته، وليس لنا أو لأحد مثقف اعتراض على ذلك، هذا فكر ومعرفة، فلكل رأيه الحر الذي يرفد فيه عربة المعرفة العالمية، لكن ما أ ود قوله وبخصوص النص، والنص العربي تحديداً، الذي بني بهندسة فائقة الدقة، و بعلمية جمالية تفوق الوصف من شكل ومضمون وحبك, واشتركت في بنائه علوم ومذاهب أدبية شتى، ومثال على ذلك النصوص القرآنية، فخضوع تلك النصوص للتفكيك سيفسد هندسة بناءها تحت حقيقة لا شيء يفكك وتهشم قشرته الخارجية بأي الشكل، ويعود كما كان، وسوف أورد قول صاحب التفكيك (داريدا) بهذا الأمر نصاً :
“([1]) وقد أوجدت التفكيكية تيارًا عرف باسم (ما بعد البنيوية) لأنها كانت ثورة ضد البنيوية التي استكانت لافتراض التناسق في بنية النص الأدبي، بناءً على منطق وقوانين لغوية صارمة وحاسمة، ولا تقبل النقص أو التعديل أو التغيير، ولا تتأثر بأي شيء خارج نطاقها، لذلك لجأت التفكيكية في التشكيك في العلامة اللغوية ذاتها ، وفي منطق اتساقها وقوانينها، إذ لم يعد النص – في نظرها – يمثل بنية لغوية متسقة منطقياً، تخضع لنظم دائمة و تقاليد ثابتة يمكن رصدها، بل يمثل تركيبة لغوية تنطوي في داخلها على تناقضات وصراعات وكسور وشروخ وفجوات وثغرات عديدة تجعل النص قابلًا لتفسيرات وتأويلات لا نهاية لها، وليس هناك نص يستعصي على التفكيك كي يخرج من باطنه ما يخفيه، إذ تبدأ النظرية التفكيكية بتكسير السطح اللامع للنص كي تصل إلى أعماقه المعتمة، التي لا يبوح بها”…..
ولكن الذرائعية انتبهت لهذا التحدي والتهميش للنص العربي، من زاوية :
١-إن داريدا لا يعرف شيئاً عن طبيعة اللغة العربية وخصوصيتها في التعبير رغم أنه – كما يقال- من أصل عربي، وخرج عنه هذا القول بقصد التفاخر والتحدي بشمولية نظريته التي تجاوزت اقوال الخالق المقدسة ،أو:
٢- انه يعرف كل شي عن العربية وقوتها التعبيرية, وقال ما قال لأجل تهميش النص العربي, لصعوبته بالقصد و لأسباب أخرى غير معروفة، ولكن في الحالتين، هو و بنظريته قد همش النص العربي فعلًا أسوة بجميع المناهج والنظريات الأجنبية الأخرى، لأسباب لغوية أو كون نظرياتهم لا تنطبق على النص العربي …!؟…ومن ناحية أخرى فهمت الذرائعية النص العربي فهمًا عميقًا من خلال استراتيجيات النقد العامة واستراتيجيات الذرائعية الخاصة, وأعطته حقه من التحليل العلمي الدقيق, وكما نرى بالتفصيل، ما دام النقد يرزح تحت عدة استراتيجيات تحيط به من جميع الحوانب التحليلية، هي :
استراتيجيات التحليل النقدي الذرائعي والمفصلي:
§ استراتيجية التحليل (Strategy of Analysis) :
وهي فحص أعمدة النص بدقة متناهية بتتبع خارطة بنائه الهندسية، والنفاذ إليها بحذر شديد وتحليل جميع تلك المكونات الداخلية والخارجية( الشكل والمضمون ) للنص من الأكبر حتى الأصغر من الدوال، دون تخريب بنيته الداخلية والخارجية، حتى بلوغ قاع النص حسب مفاصله, وذلك بعزل تلك المفاصل ومناقشة كل واحد بالتحليل الممل لترميمه وإعادة بنائه من جديد بشكل محدّث، وتلك الإعادة بالبناء ستكون براقة وبحلّة جديدة دون إحداث أي شرخ في مكونات النص البنائية….وتلك الاستراتيجية ستكون مدار بحثنا في الشرح والتحليل…..
§ استراتيجية التفسير (Strategy of Interpretation) :
ومن خلال عملية إعادة البناء نستخدم أيضاً استراتيجية التفسير للمفاصل التي لا تحتاج كثيراً من التحليل، لكونها بلغت في موقعها النهائي الغير قابل للتحليل وهو قاع النص، وتتم تلك العملية عن طريق استخراج الدوال المتعشّقة في النص، والتي تساهم في بنائه الفني والجمالي مساهمة فعالة، واستخراج المدلولات والمفاهيم منها، ويتحتم على الناقد الذكي العمل بتلك الاستراتيجيات معاً…
· استراتيجية الاستقطاعDeduction Strategy
يقتضي الأمر بالتحليل الذرائعي أن تعطى ذريعة لكل فعل يخرج عن إطار التكوين البنائي للنظرية, من توسع بإضافة أو إغناء أو حذف لزيادة أو حشو، وما دامت النظرية تدار بمداخل علمية ونفسية عديدة، تتوزع على المعطيات التي يحملها النص، وعند حالة رجحان أو نقص في تلك المعطيات التي يحملها النص، يفضي نحو اقتطاع مدخل يخصه، وهذا المنحى يتقرر برصانة النص، فالنص المكتملة رصانته لا يخضع لتلك الاستراتيحية بذريعة اكتمال الرصانة، وعندما يكون العكس، يتوجب تطبيق تلك الاستراتيجية، من جميع الوجوه الفنية والجمالية، و لا يحدث فيه الاستقطاع بشكل فعلي، وهذا يقود إلى القول بأن النظرية الذرائعية لا تنسجم مع النصوص الضعيفة بسبب تعرّض التحليل فيها لاستراتيجية الاستقطاع الذي يؤدي إلى :
1-كشف الضعف في النص وإقرار عدمية الانسجام بين التحليل الذرائعي والنص الضعيف الفاقد للرصانة، فقد وضعت تلك النظرية لتحليل النص العربي الرصين بامتياز، ولكون النص العربي يملك القوة في الشكل والمضمون, لذلك يحتاج نظرية نقدية خاصة به لخصوصيته المتميزة بين نصوص اللغات الأخرى….
٢-تشويه الدراسة النقدية حين يكثر فيها الحذف عندما تطبق عليها استراتيجية الاستقطاع، فتكون عوامل النص الأدبية غير مكتملة, وذلك النقص ينعكس على التحليل النقدي الذي سينتج عنه فقراً في التحليل، فالنص الرصين يخلق ناقداً متفوقاً، والنص الضعيف ينزل بالناقد إلى أسفل الدرجات في سلم الإبداع، بل يخرجه من الإبداع النقدي تماماً، لذلك على الناقد أن يكون حذراً في اختيار النص الذي يقوم بتحليله بتأنٍ وثبات وذكاء ودراية أدبية محضة…
· استراتيجية الاسترجاعRetrieval Strategy
تعمل تلك الاستراتيجية على إغناء النص من جميع الوجوه بالبحث عن النواقص الأدبية والسردية المتخللة في النص لإعادتها إليه بتنبيه شفيف للنصّاص بشكل غير مباشر, ليكون على بيّنة من المفقودات في نصه, و عليه إعادتها إليه في القادمات من النصوص, أو بطريقة الاسترجاع بإعادة الكتابة لنفس النص وأخذ النواقص بنظر الاعتبار، كذلك تركز تلك الاستراتيجية على المدخل العقلاني بطريقة كبيرة، خصوصاً بمعمودية الخروج عن طريق بوابة التناص في النص، لإغناء النص بما يحتاج من نواقص باستخدام مبدأ التوازي, لتنبيه النصاص بنواقصه عن طريق التوازي مع نصوص الآخرين من الأدباء، بذلك يسلك النقد سلوكاً عقلانياً بتنبيه الأديب على الهنّات والهفوات الأدبية في نصه بالتوازي المتناص مع بقية الأدباء السابقين والمعاصرين, وبشفافية عالية المستوى….
· استراتيجية الصقل وإعادة البناء(Strategy of Refinement)
وما دامت مفاصل النص تقف كأعمدة نقدية علمية وتشترك في آلية تحليل بناء النص، فقد تتعاون فيما بينها في البنائين الفني والجمالي، لذلك يتحتم على الناقد الذكي تسخيرها وتطويعها، لتكون قنوات علمية في إرساء دعائم النص في النقد الأدبي، فينطلق الناقد بتوصيف كامل لأعمدة النص الخاضع للتحليل، واتباع التدرج التوليدي والتكويني بصفتيه الهجوم والمعارضة لتوليد الأحداث السردية، من محاور التدرج والتشابك السردي الثلاث (محور التوليد ومحور التكوين ومحور المعارض) للإلمام بعناصر البناء الهندسي للنص بشكل تدريجي دقيق وتحليل أعمدة النص السردي الثلاثة لتسير بشكل أنيق ومتوازٍ، ودراسة طريقة التغذية القادمة من جهتي النص، من محور التكوين ومحور المعارضة باتجاه محور التوليد لإدامة مسيرة التشابك السردي حتى بلوغ العقدة، ثم يتخطاها بتنفيذ عملية الانحسار لحل جميع الحيثيات لبلوغ النهاية، والغوص في كل مفصل من مفاصله بالدراسة والتحليل، وهنا يحق للناقد اتباع أي استراتيجية تحليلية علمية أو نظرية أو مدرسة، لإخراج النص من خيمة الإنشاء التائه والاتجاه به نحو بحتية النقد العلمي المدروس…وكأنه يكتبه من جديد بطريقة مختلفة مع الحفاظ على جميع عناصره التكوينية…..
ونخص بالتفصيل استراتيجية الصقل وإعادة البناء، فهي تعمل في التشابك السردي وتختص أكثر بعناصر الجمال المكملة لعملية التشابك السردي، فتشير استراتيجية الصقل وإعادة البناء كبند تعليمي إلى مجموعة متنوعة من التقنيات التوجيهية المستخدمة لتزيين وتجميل جدران العمل الأدبي لجعله متفوقاً جمالياً ولماعًا، فالرؤية الذرائعية المنبثقة منها تلك الاستراتيجيات تنظر للعمل الأدبي السردي منزِلاً، أُرسِيَت دعائمه الأولية واكتملت هيكليته البنائية، ويحتاج العوامل الجمالية من الصقل والصباغة والأثاث و التي ستسبغها عليه تلك الاستراتيجية لتجعله مناسباً للسكن بشكل مبهر ومريح، والعوامل الجمالية تتلخص في الشكل رقم (4) وفيما يلي:
الشكل رقم (4) البنائين العفوي(التشابك السردي والانفراج شكل1) والجمالي
1- الأسلوب وهو النسيج السردي الذي يشير نحو درجة الأدب وعمقه
السردي وذلك بدرجة انزياحه نحو الخيال والرمز..
2- السرد وهو الطريقة التي تتوالى الأحداث فيها في النص حتى
تصل المتلقي باهتمام وهذا مؤشر مهم في جمالية النص يعكس حرفنة ومهارة وإبداع النصاص….
3-الحوار وهو ما يزيد من أهمية الشخصيات ويبرز خلجاتهم الإنسانية و
النفسية والاجتماعية والشخصية…
4 -الصور اللغوية وهي تساهم بجمالية النص في الوصف وتأخذ الاديب
نحو السلوك الفني لتجعله بمقارنة مع الموسيقي والرسام….
5-البلاغة وهي عناصر التصوير السردي من طباق وجناس وتورية وتشابه واختلاف وتشخيص وهي من تشكل الصور في النص….
6- الجمال : علم يقتضي حضوره في النص ليعكس الجمال الفني فيه وهو دائماً يخلط بينه والفن على الرغم من قربهما من بعضهما، إلا أن الجمال يختلف عن الفن من جهة الأمور الحسية والوجدانية، فالجمال حسي أكثر من الفن…
وفي نهاية المطاف، تفرز تلك التقنيات مزيداً من الاستقلالية في عملية التلقي المعرفي الأدبي والنقدي، يقدم هذا المصطلح أي الصقل وإعادة البناء نفسه كاستعارة وصفية ذات صلة وثيقة بالناقد كمعلم أو موجه للأديب، لكون كل منهم يقوم بتوفير مستويات متعاقبة، وبالتدريج تفضي نحو دعم مؤقت، يساعد بدوره على الوصول إلى مستويات أعلى من الفهم والإدراك واكتساب المهارات التي ستكون قادرة على تحقيق ذلك المستوى المتقدم دون مساعدة وبشكل مستقل…
وتعتبر استراتيجية الصقل وإعادة البناء، وعلى نطاق واسع، عنصراً أساسياً في النقد الفعال، لجميع النقاد والأدباء – إلى حد كبير أو أقل – ومن المؤكد أن استخدام مختلف أشكال الصقل في النقد لسد الثغرات في النص في عملية التحليل في الاستراتيجيات الأخرى ( التحليل والتفكيك والتشريح والتفسير)، حتى يظهر الفارق بشكل جلي، بين ما تعلّمه النقاد، والأدباء من النقاد، وما يتوقع منهم أن يعرفوه, ويكونوا قادرين على القيام به في مرحلة معينة من عملهم النقدي والأدبي …
فالصقل فرصة ثمينة يتيحها النقد للأديب ليتعلم من أخطائه، حين يطرحها الناقد أمامه بالتحليل الهادئ والهادف، دون أن يخدش شعوره، ومن خلال عملية النقد حين يحاول الناقد وكأنه يكتب النص من جديد بشكل تحليلي، وذلك سينقل الأديب مباشرة نحو إدراك الثغرات في نصه دون القيام بانتقاده بشكل سلبي, مما يؤدي إلى كسر أجنحته الأدبية وإعاقته من الطيران في الفضاءات الأدبية الوارفة……
وننصح الناقد إذا لم يكن في مستوى القراءة المطلوبة لفهم النص الذي يتم تحليله، عليه بالاعتماد على استراتيجية الصقل وإعادة البناء لتحسين قدرته على القراءة تدريجياً حتى يتمكن من قراءة النص المطلوب بشكل مستقل ودون مساعدة. وإن أحد الأهداف الرئيسية لتلك الاستراتيجية هو الحد من المشاعر السلبية والتصورات الذاتية التي قد يواجهها الناقد عندما يشعر بالإحباط أو الترهيب، عند مجابهة عملية التحليل، وقد يجدها مهمة صعبة دون المساعدة أو التوجيه أو الفهم الذي يحتاج إليه لإكمال عملية التحليل بشكل كامل ومتقن….
الصقل مقابل التمايز:
كاستراتيجية تعليمية علمية عامة، تساهم الصقل في العديد من أوجه التشابه مع التمايز، والتي تشير إلى مجموعة واسعة من تقنيات العلمية والتكيف الإدراكي الذي يستخدمه النقاد لإرشاد مجموعة متنوعة من الأدباء، باحتياجات تكوينية لإدراك هندسة النص التكوينية والجمالية، ولأن تقنيات الصقل والتمايز تستخدم لتحقيق أهداف نقدية وأدبية مماثلة، أي نقل الأديب وفهمه إلى حيث يجب أن يكون النهجان معاً، و كذلك يمكن مزجهما معاً في بعض الدراسات النقدية إلى درجة عدم التمييز بينهما، ومع ذلك، فإن النهجين متميزان بعدة طرق، عندما يقوم النقاد بقراءة النصوص، يقومون عادة بتفريق تجربة التعلم أو المفهوم أو المهارة في أجزاء منفصلة، ومن ثم إعطاء الأدباء المساعدة التي يحتاجونها لتعلم كل جزء من مفاصل النص الضعيفة، على سبيل المثال، قد يعطي النقادُ الأدباءَ مقتطفات من نص أطول لقراءته، وإشراكهم في مناقشة مقتطفات لتحسين فهمهم لغرض الاطلاع، وتعليمهم المصطلحات النقدية التي يحتاجونها لفهم النص قبل تقديمهم القراءة الكاملة….. كما موضح في الشكل التالي رقم (4) أعلاه، موقع عملية التشابك السردي وموقع إستراتيجية الصقل وإعادة البناء …..سنكثف الحديث عن العناصر الجمالية المستخدمة في الصقل وإعادة البناء في النسيج الجمالي بالتفصيل بشكل نقدي :
مكونات النسيج الجمالي أو البناء الفني:أي أدوات استراتيجية الصقل وإعادة البناء:
-1- الأسلوبStyle :
النص الأدبي كالبيت يبنى بمراحل, ابتداءً من الهيكل ثم ينتهي بالطلاء والأثاث، فقد بدأ نصنا الأدبي بالبناء الهيكلي أو الفني, وشاهدنا التفاصيل التي تكون هذا النص، والآن جاء دور تجميل ذلك البناء وتلك التفاصيل, وجعلها ملائمة للقراءة كما البيت ملائم للسكن, وتلك المكملات الجمالية تنتشر بالنص الأدبي وتزيده جمالاً وبريقاً, وهي نسيج القصة الجمالي، الأداة اللغوية التي تشمل السرد والوصف والحوار، وبمعنى آخر هي الأسلوب Style, وهو طريقة الكاتب في التعبير واستخدام المفردات والجمل الأدبية والبراعة في صياغتها وتطعيمها بشذرات الجمال الأدبي والبلاغي، لتكون جذابة للقارئ والمتلقي, وتزيده شغفاً وتعلقاً بالنص حتى النهاية،
فالأسلوب أو النسيج العميق يكون جاذباً وممتعاً، فهو يحتوي على العمق السردي والخيال ودرجة الانزياح.
أنواع الأسلوب:
· المباشر
· الواقعي
· الرمزي
· العميق
· والسهل الممتنع
لكل كاتب استراتيجية أسلوبية وتكنيك خاص به, يميزه عن بقية الكتاب ببصمة خاصة، ووظيفته تخدم الحدث في الصراع الدرامي، إذ يسهم في تطويره ونموّه إلى أن يصير كالكائن الحيّ المميز، بخصوصيات محددة. وعلى القاص أن يترك الفرصة لشخصيات أعماله القصصية أن تتحدث بلغتها، ومستواها الفكري حتى يمكنها أن تكتسب طبيعة منطقية وواقعية وصدق، وبذلك تكون جاذبة لاحتوائها على عنصر التشويق، ونظراً لاختلاف مستويات شخصيات العمل القصصي، فإنه من العبث أن نرى الشخصيات جميعها تتحدث بمستوى واحد، إذ أن المنطق يحتم على وجود اختلاف في المستوى بحسب تفاوت الشخصيات الموظفة في العمل الأدبي، وتهدف القصة من خلال نسيجها إلى تصوير حدث قصصي، متكامل، وفق عناصر الخبر : المقدمة و الصراع الدرامي و العقدة والانفراج والنهاية، ولا يجوز للدارسين أن يفصلوا بين نسيج القصة الجمالي وبنائها الفني، لأنهما تسميتان لشيء واحد، ولأن القصة لحمة فنية لا يمكن تجزئتها إلى نسيج وبناء.
وفيما يأتي عرض موضوعي لبعض عناصر نسيج القص أو أسلوب القص أو الروي… فالأسلوب إذن “هو مبدأ الاختيار ضمن إمكانات اللغة، والألفاظ، والتراكيب النحوية، التي تصل أحياناً إلى درجة عالية من الدقة. والأسلوب يرتبط بالطريقة التي تتناسق فيها الألفاظ والجمل, أي يرتبط بشكل الرواية الداخلي والخارجي، وما يترتب عليه من إيقاع, فإذا اعتبرنا أن المحكي، أو المقصوص، أو المسرود، هو بالضرورة قصة محكية بين راوي ومروي له، و الكيفية التي تروى بها القصة، عن طريق القناة نفسها، أو ما تخضع له من مؤثرات، بعضها متعلق بالراوي والمروي له، فإن الأسلوب هو الكاشف عن فكر صاحبه، ونفسيته. يقول
(أفلاطون): كما تكون طبائع الشخص يكون أسلوبه. ويقول (بوفون): الأسلوب هو الإنسان نفسه. ويقول (جوته): الأسلوب هو مبدأ التركيب النشط والرفيع، الذي يتمكن به الكاتبُ من النفاذ إلى الشكل الداخلي للغته، والكشف عنه من زاوية المتكلم، أما من زاوية المخاطب, أي المتلقي للخطاب اللغوي, فالأسلوب ضغط مسلّط على المتخاطبين، وأن التأثير الناجم عنه يعبر إلى الإقناع، أو الإمتاع. يقول (ستاندال): الأسلوب هو أن تضيف. ويقول (ريفاتير): الأسلوب هو البروز الذي تفرضه بعض لحظات تعاقب الجمل، على انتباه القارئ، فاللغة تعبر، والأسلوب يبرز”.و(من زاوية الخطاب) و هو الطاقة التعبيرية، الناجمة عن الاختيارات اللغوية. وقد حصر (شارل بالي)، مدلول الأسلوب، في تفجرّ طاقات التعبير الكامنة في اللغة. ويعرّف (ماروزو) الأسلوب بأنه: اختيار الكاتب، ما من شأنه أن يخرج بالعبارة، من حالة الحياد اللغوي، إلى خطاب متميز بنفسه. ويعرفه (بييرغيرو): بأنه مظهر القول، الناجم عن اختيار وسائل التعبير، التي تحددها طبيعة الشخص المتكلم، أو الكاتب، ومقاصده. وللإشارة فقط، فإن الأساليب تتعدد وتتنوع فيمكن تقسيمها من ناحية الموضوع الذي يعالجه الخطاب اللغوي، وخاصة الخطاب الأدبي, إلى ثلاثة أنواع :
1- الأسلوب البسيط، أو السهل: أنه يصلح للرسائل والحوار.
2-الأسلوب المعتدل، أو الوسيط : أنه يصلح للتاريخ والملهاة
3- الأسلوب الجزل، أو السامي : أنه يصلح للمأساة
إلا أن هذا الرأي بصلاحية الأسلوب، خلافي، بدليل أن الأنواع الأدبية الحديثة، كالرواية، والمسرحية الاجتماعية تستهلك خلط من أساليب تظل فيها ناجحة، ولكن التطور المطرد للخطاب الأدبي وبروز أجناس جديدة بعد عصر الحداثة أدى إلى تغير في الأسلوب وظهرت مهارات جديدة تلائم المجتمع والذوق الاجتماعي، ولم يظل الأسلوب راكداً على منوال واحد, بسبب تعدد المهارات النصية لدى الأدباء وعلى هذه الشاكلة، يكون الأسلوب هو الوظيفة المركزية المنظمة للخطاب، وهو يتولد من ترافق عمليتين متواليتين في الزمن، متطابقتين في الوظيفة، هما:
· اختيار المتكلم لأدواته التعبيرية من الرصيد المعجمي الذي لديه للغة.
· ثم تركيبها تركيباً يقتضي بعضه قواعد النحو، كما يسمح ببعضه الآخر، التصرف في الاستعمال.
ومن ناحية أخرى يمكن تقسيم الأساليب إلى:
· موجزة
· مطولة
· مختصرة
· فعالة
· رفيعة
· وضيعة
· هادئة
· وغامضة
كما أنه يمكن تقسيمها بحسب الصلات بين الكلمات إلى:
· أساليب تشكيلية.
· موسيقية .
وقد ذهب (جاكبسون) إلى عدم إمكانية تعريف الأسلوب، خارج الخطاب اللغوي كرسالة, أي كنص يقوم بوظائف بلاغية، في الاتصال بالناس، وحمل المقاصد إليهم. فالرسالة تخلق الأسلوب، إلا أن الخطاب الأدبي، خطاب متميز, بفعل أن الوظيفة الشعرية هي التي تغلب فيه، فهو خطاب مركب في ذاته، ولذاته.
والجدير بالذكر و الإشارة، إلى أن دراسة الأسلوب، هي التي تحدد اتجاه الكاتب، وقيمته الأدبية, لأن نجاح العمل كوحدة فنية متكاملة، يعود أساسًا إلى أسلوب الكاتب ذاته، حيث ينبغي عليه من أجل تميزه ونجاحه،” أن يكون قادراً على التحكم العالي في لغته، متمكناً من النسج البارع لها، واللعب بألفاظها، أي متمكناً من صناعة الكلام وتحبيره في درجاته العليا، ومستوياته الرفيعة، إذ إن الكتابة نفسها، إنما هي استكشاف للغة.
2- السرد Narration :
والسرد هو الطريقة اللغوية التي يخبر فيها النص ابتداءً من الشخص السارد والنص المسرود ثم المتلقي المسرود له، والسرد علم من علوم الأدب يتناول جميع التفصيلات التي تتعلق بالوسيط اللغوي الذي يلقى فيه النص، من ناحية الشخص يكون السارد إما المتكلم نفسه, أو شخص يخبر المتكلم بالقصة, ويقوم الكاتب بسردها عن لسانه، فهو شكل لغوي يحتوي على جميع الأدوات الجمالية وبعض العلوم مثل علم البيان والبديع والمعاني وعلم الجمال, ويحمل السرد كل العناصر المكونة للبناء الجمالي….
يعد السرد أحد أركان النسيج القصصي الأساسية، حيث يسهم في الربط بين أجزاء القصة وتتابعها، تتابعاً فنيًا متينًا. ويدل المعنى اللغوي لكلمة ” سرد”، على توالي أشياء كثيرة يتصل بعضها ببعض، من ذلك السرد، أما اصطلاحًا فالكلمة تعني:
التتابع وإجادة السياق، وأما من حيث الاصطلاح الأدبي فإنها تعني اصطلاحيًا ما يشتمل على قص حدث أو أحداث أو خبر أو أخبار، سواء أكان ذلك من صميم الحقيقة أم من ابتكار الخيال، وليس السرد عنصراً فنياً خاصاً بالقصة القصيرة من دون غيرها، وإنما هو ركن أساسي في الرواية، حيث يتحقق بوساطته توالد الأحداث وتسلسلها.
3-الوصف و الصور Images:
وهنا يلتقي الأدب بالرسم والموسيقى, يستطيع الكاتب العبقري أن يعزف بالكلمات بديلاً للأنغام, ويستطيع أن يرسم أبعاد الصور بالرسم بالكلمات بديلاً للفرشاة والألوان، وتلك براعة سردية يمتاز بها الكتاب الكبار خصوصاً، الذين يتبنون المذهب الرومانسي تحت جلباب نظرية الفن للفن….
الوصف في المصطلح الأدبي هو: تصوير العالم الخارجي أو العالم الداخلي من خلال الألفاظ، والعبارات، وتقوم فيه التشابيه والاستعارات مقام الألوان لدى الرسام, والنغم لدى الموسيقي، ووظيفة الوصف هي خلق البيئة التي تجري أحداث القصة فيها وتكوين نسيجها، ولا يحق للقاص أن يتخذ من الوصف مادة للزينة, وإنما يوظفه في تأدية دور ما في بناء الحدث. ومن المتفق عليه أن على الكاتب أن يقدّم الأشياء الموصوفة، ليس كما يراها هو، بل كما تراها الشخصية, وأن تكون اللغة قريبة من لغة الشخصية، لكي تحقق شيئاً من المنطقية الفنية، لأن الشخصية هي التي ترى الشيء وتصفه وتتأثر به، فإذا توافرت هذه الشروط، فإن الوصف سيكون عنصرًا فنيًا مع بقية العناصر في تماسك النص القصصي.
-4البلاغة وعلم البيان والبديع:
وتلك العلوم تساهم بالأطر البلاغية التي تنظم فيها الصور الجمالية في النص، مثل التشابه والاختلاف والتشخيص والطباق والجناس والتورية, والأطر البلاغية الأخرى التي تضيف مقارنات وجمال للنص الأدبي وتخلق المتعة فيه…..
5-الحوار Dialogue :
المصطلح الذي يشمل تبادل الحديث بين الشخصيات في قصّة ما، ومن وظائفه في العمل الأدبي بث روح حيوية في الشخصية، ومن شروطه أن يكون مناسباً، وموافقاً للشخصية التي يصدر عنها، إذ لا يعقل أن يورد الكاتب حواراً فلسفياً، عميقاً على لسان شخصية أمية، غير مثقفة، ويقوم الحوار في القصة بدور هام، حيث بإمكانه أن يخفف من رتابة السرد الطويل، والذي قد يكون مبعثاً للسأم والملل، وبتدخل الحوار الخفيف السريع بتقريب النص من لغة الواقع أكثر، إن اللغة أداة الحوار، ولذلك يتوجب أن تكون عامل بناء في الفن القصصي وعامل تعبير عن
الأفكار والآراء، ومن الشروط الفنية للحوار القصصي أيضاً التركيز والإيجاز والسرعة في التعبير عما في ذهن الشخصية، من أفكار حيوية، أما طول الحوار فإنه يضر بالبناء الفني للقصة القصيرة، وقد أجمعت جل آراء النقاد والدارسين على ضرورة استعمال اللغة العربية الفصحى في الحوار، لأنها اللغة الوحيدة التي يفهمها المثقفون العرب كافة, رغم أن قلة منهم يدعون إلى استعمال العامية بدعوى تقريب الشخصية من واقعها الحياتي، إذ ليس من المنطقي-في رأيهم- أن ندير حواراً باللغة الفصحى على لسان فلاح ينتمي إلى الريف السوداني أو الجزائري مثلاً. ولكن هذا مردود في رأينا, أضف إلى ذلك أن اللهجات المحلية العربية تقلل من جماهيرية النص الأدبي، ( اللهجة ليس لغة كاملة لكونها محلية ), وتجعله منحصراً في بيئة واحدة, من الصعوبة اجتيازها لشدة خصوصيات بعض اللهجات العربية، والحوارات المتقنة هي جزء مهم في القص أو الروي, يظهر براعة الكاتب في تحريك الشخصيات وإعطاء البيئة السردية في النص روحاً وحركة وجمالية، ويشترط أن تدرس تلك الحوارات بدقة متناهية من قبل الكاتب, وتعكس بدقة شخصية المتكلم, وتحلّل هدفه الدرامي في النص…..
6- الجمال Aesthetics:
علم يقتضي حضوره في النص انعكاساً لكينونة الجمال الفني فيه وهو دائماً ما يخلط بين الجمال والفن على الرغم من قربهما من بعضهما، إلا أن الجمال يختلف عن الفن من جهة الأمور الحسية والوجداني، فالجمال حسي يتعلق أكثر بالأمور الوجدانية والأحاسيس و المشاعر, أما الفن فهو خلق أو إعادة خلق لمكون مادي محسوس، إن كان بشكل لوحة فنية أو تمثال وحتى القصائد الشعرية والأعمال الموسيقية هي على الرغم من عدم قدرة المرء على لمس النغمات أو الكلمات الشعرية, إلا أنه قادر على لمس الآلة التي صنعت أو خلقت هذا العمل إن كان بيانو أو قلم…
مخطط عملية التحليل عن طريق استراتيجية الصقل وإعادة البناء:
يقرأ النص عدة مرات، قد تصل عدد القراءات إلى عشرة مرات أو أكثر، ومن خلال تلك القراءات، يسير الناقد باتجاهات ومسالك كثيرة، بعد تجنيس النص ومطابقته مع شروط النص السبعة