صحيح ان دراسة التاريخ تشمل الماضي والحاضرولربما تكهنات المستقبل،لكن هذا المقياس يختلف باختلاف الزمان والمكان والناس وثقافة المؤرخ..ان ما يتم اختياره في الادب يختلف عما يتم اختياره في الفن والرسم .لذا فان الاختيار يجب ان يكون أنتقائياً ومحددا حين ينطوي على تجربة معينة للحاضر والمستقبل وما يهم امور الناس والاوطان معاً. لان التجارب هي حصيلة ما ينتج من عمل الانسان في الزمن المعين سواءً كانت ناجحة او فاشلة ومن هنا يتكون منهج الاستفادة عند الناس من التاريخ.
وحين ندرس التاريخ على انه منافع ناجحة للناس ،ونعرضها لهم بشكل مشوق ومقبول منطقياً ،نستطيع ان نخلصهم من المعاناة الحياتية نفسها وتجشم متاعبها ، لكي تبقى مناهجه نجوما لامعة تهدي دروب الاخرين عند الاهتداء بها في التجربة الحياتية المعتمدة ، سواءً كانت هذه التجارب للافراد او الجماعات او الشعوب ،لانها في النهاية سوف تنفع الجميع نحو عمل الخير دون أستثناء..وهنا تكمن فلسفة التاريخ .
اذا طبقنا هذا المنهج العلمي في الدراسات التاريخية على المناهج العلمية الأخرى ..نراه منهجا علميا لا يختلف عن المنهج العلمي لبقية العلوم كالرياضيات او الفلك اوغيرهما ، لكنه يختلف تماماً عن المنهج التاريخي او قل التكهن التاريخي بقراءته للعبرة والاتعاظ بها كما في مؤرخينا الأوائل الذين أساؤا الينا دون قصد ،لذا يجب علينا ان ننقي وان نكون حذرين في قراءة الأصول ،فالكتابة التاريخية لا تحتاج الى دقة فحسب بل الى ذكاء كي لا ننقلها على عواهنا للأخرين لنثبت الخطأ ،لان منهجية العبرة والاتعاظ لا تصلح الا في حالات معينة وضيقة جدا حين تتشابه الاحداث والفترات الزمنية كما في بعض أعمال المقاومة وأحداثها ،وهذه حالات نادرة الحدوث. لان مثل هذه الحالات لا تتكرر بكل ظروفها ابداً،ومن هنا فأن قراءة التاريخ للعبرة والاتعاظ ضرب من الوهم الذي لا معنى له ابداً.،ولان الحسن لايمكن ان يدوم وكذلك القبح لا يمكن ان يدوم، لذا فالمقياس العلمي او المنهجي التاريخي يخضع للتغيير وليس للثبات دون تغييركما تدعي فلسفة الفقهاء المتدينين…
الامم والجماعات وحتى الشخصيات المستقلة تنآى بنفسها عن تجارب الاخرين ،واكثر ما يزعجها ان تسير في أعقاب الاخرين، ومن هنا فقد كانت المواعظ أثقل شيء على قلوب الناس،لذا فرجال الدين كثرة ما يرددون من مواعظ عامة وخاصة في كل مناسبة ودون تعيين وتطبيق من أنفسهم من أجل الهيمنة المقدسة على الأخرين ،فقد مل الناس مواعظهم واصبحوا يرمونهم بالسطحية والسفسطائية ويعرضون عنهم ، ففلسفتهم الكلامية الغير النافعة اصبحت لاتدخل عقول الناس حتى ملوهم ولم يصبروا على سماعهم اليوم وأنا واحد منهم ، ولا يتجاوبون معهم الا في حالات خاصة ونادرة احياناً لكونهم عشوائي الفلسفة والمنطق …لدرجة اصبح رجل الدين بنظر العامة نشازاً لا يقبل لغموض في التعبير ، وحتى هو نفسه بدأ يشعر بالأحباط ..وهذه خسارة للنص الديني الرصين، الذي يجب ان يفسر او يقرأ وفق النظرية العلمية خارج نظرية الترادف اللغوي الخاطئة والمكررة منهم دون تدقيق..ليحتل المكانة الرفيعة في قلوب سامعيه.
فاذا كان التاريخ للعبرة والاتعاظ ،فلم َ لم تتعظ قادة الامم بما جرى للسابقين؟حين تكرر نفس الاخطاء دون اتعاظ او تصحيح.فأذا كنا ننتقد عهدا او حاكما،فلماذا نكرر ما فعلوه كما هم حكام العراق الجهلة اليوم عندما تعاونوا مع المحتل من أجل التغيير وها هي النتائج العكسية اليوم . وكذلك الحروب والغزوات ان لم تكن دفاعاً عن الاوطان والقيم فهي لا تفيد القائمين بها في شيء،فقد ادت الحروب والغزوات الى اضرارجسيمة ما حسبها القائمون بها وقت تنفيذها كما في الحرب العالمية الاولى والثانية وغزو العراق الباطل للكويت..والغزو الامريكي للعراق وأفغانستان .وما تكرره أيران اليوم على المجاورين ..فقد كانت الخسائر باهظة الثمن ان لم نقل افقدت الدولة الغازية مستقبلها الذي كان يجب ان يكون كما في كراهية الشعب العربي لأيران اليوم التي ساهمت وتساهم في التدمير.
هكذا تجرعت الناس محن الحروب والقادة الذين نالهم الاذى والاغتيال لما اقدموا عليه دون معرفة بالعواقب ،مدفوعين بالعاطفة الشخصية او الدينية وحب الظهور والسيطرة على الاخرين..كما في الفتوحات الاسلامية اللامبررة في فتح بلدان الشعوب سوى للهيمنة والسيطرة والسلب والنهب وانتهاك الاعراض..بحجة وما ملكت أيمانكم ..وهي مخالف للنص “لكم دينكم ولي دين” فعلام الأعتداء ؟. وتلك عاقبة المعتدين. والمعتدي دوماً هو الخاسر الأكيد لأن الحق ما جاء ليساند المعتدين وهولا يحب المعتدين آية حدية التنفيذ لا تقبل الأختراق حتى من الرسل والأنبياء .. فكيف لو كانت من عامة الناس..
لذا من يدعون قادة العراق اليوم في حيرة من امرهم يقتلهم الندم لخيانتهم مبادىء القرآن والدين ..لكنهم يكابرون بنفوسهم الدنيئة في زمن ما حسبوه الا لهم دون الأخرين.؟ قصر نظر في الثقافة والتفكير.
واذا كان قادة الحروب والغزوات مدفوعين بدوافع نرجسية معينة كما في قادة العراق اليوم،فما ذنب الشعوب التي نالت منهم الخراب والدماروتحطيم الكبرياء الانساني ، وماذا يبقى للانسان اذا آستذلت كرامته وتحطمت كبرياؤه؟ ألم تكن هذه النتائج اعمالا وحشية قامت بها القيادات التي لا تعترف بالقانون متخذه من قانون الغاب شريعة لها،والا كيف تجاسر بعض قادة العراق الطارئين عليه تجنيس ألاف الأجانب ومنحهم حقوق العراقيين من اجل ضمان أصواتهم في انتخابات الفاشلين ..والمواطن العراقي مسلوب الحقوق ..وفي النهاية كانت وستكون نهاية الحساب ويل وشر ودمار عليهم وعلى شعوبهم،ولكن هل فهم الناس وقادتهم ذلك ؟ واذا فهموه هل سيطبقون ما حل بهم ام سينسون الذي حدث؟. من اجل ان تفهم عليك ان تقارن بين نظرتين في تقييم الامور،الاولى نظرة متطرفة ،والثانية معتدلة ،الاولى تعتمد على الخيلاء الكاذبة والثانية على الاحساس الانساني العميق ،مجسدا في قول المتنبي رفيق السيف والمعري رفيق الاحساس الانساني العميق.
يقول المتنبي:
ولا تحسبن المجد زُقاً وقينةً بل الحرب والضرب والفتكة البكرِ
ويقول المعري:
تسريح كفك برغوثاً ظفرت به أبر من درهمٍ تعطيه محتاجا
فرق بين النظرتين المثاليتين كبير..أي فرق بين الأحساس الأنساني والخيلاء الفارغة.
ويبدو ان الجهلة دوماً مع البيت الاول للمتنبي لما ورثوه من عادات وتقاليد ومن غزوات وحروب لم نجنِِ منها الا الويل والثبور وعظائم الامور.اما المعري فعدوه جبانا يخاف السيف والمعركة ، أنه نقص في الثقافة الحضارية عندنا منذ ذلك اليوم والى الآن . ويبقى ان نعرف هل ان الناس يتعضون بالتاريخ؟ لا اعتقد لكن القلة الواعية منهم نعم تتعظ بالتاريخ وفلسفته الواقعية ، كما في المارشال سوار الذهب في السودان الذي أحيا في العصر الحديث نظرية الامام الحسن بن علي ومعاوية الثاني حينما تنازلا عن السلطة درءً لخطر الاختلاف في المجتمع،والا لماذا بعض قادة التغيير اليوم حين وصلوا لسلطة الدولة اصبحوا من اكثر الناس عرضاً عن نظرية الاقدمين..”أخذناها وبعد ما ننطيها” ألم يكن ذلك جهلاً بالتاريخ ..؟
خذ قادة الأوربيين بعد النهضة الفكرية والصناعية عندهم وكيف تعاملوا مع الحدث الجديد ..تعاملت معه على اساس الفكر غير المقيد،والعقل المتطلع الى المعرفة والحقوق بعد ان مارست الدكتاتوريات القديمة وملوك آل بوربون كل اصناف الأضطهاد والتعنيف ..فراحوا يحددون معنى لفظة العلم وحقوق الشعوب ..فنادوا في تحديد سلطات الدولة عن حقوق الناس حين نادوا بالفكر والحرية والتقدم،وهاجموا القديم بعنف دون توقير لشيء من الموروث..فتوجه أعلام النهضة الفكرية من امثال روسو وفولتير الى تحقيق نظريات عصر الانوار لا اراء الدكتاتوريين المتخلفين كمافي بلدانناالعربية والاسلامية اليوم.
من هنا استطاعوا تغيير المفاهيم المتوارثة في ميادين المعرفة بعد ان نفض المشاركون فيها ايديهم من الماضي البعيد..فصنعوا رؤية جديدةلمستقبل الانسان الاوربي قائمة على العقل والعلم والحرية..حتى وصلوا بأممهم الى ما نراه اليوم..حين اصبح التطور عندهم قائم على قاعدتين اساسيتين هما: الفكر العلمي ثم استقرار فكرة التقدم في الآذهان ..فأستطاعوا ان يردوا السلطة الغاشمة عن هواها.
بينما العلم الذي يتحدث عنه فقهاؤنا في العصور الاسلامية الماضية -ولازال متبعا- لا يخرج عن نطاق علوم الدين من قرآن وتفسير لم تراعى فيه اصول الصيرورة الزمنية في التغيير ..فأنشأوا لنا المذاهب المتعارضة وكأن المذاهب اصبحت اديان كل واحد منهم يعارض الاخر فأستقرتافكارهم في الاذهان وثبتها المنهج الدراسي المتخلف فأصبح المذهب كأنة دين الانسان فتجمدت العقول في محاربة السلطة تحت راية:”أطيعوا الله والرسول وآلوا الامر منكم دون فهمهم لتأويل الاية في التطبيق حتى وصلنا الى ما نحن عليه من ظلم وتجهيل.
واليوم تعيش أمم كثيرة كالافارقة والمغول والاوربيين في حال احسن بكثير مما كانت عليه وقت الحروب والغزوات بعد ان ادركت الخطأ السحيق ،لكن المؤرخين احيانا يساهمون بالمبالغة في تصوير الحروب والانتصارات
من هنا علينا ان ندرك ان الناس يتربون بالتجربة الواقعة لا بالمواعظ ،والتي تتولد بالمنهج العلمي القويم ،او بذكر اخبار السابقين بتفهم علمي كبير،لذا فالمستبد والسارق والخائن والمعتدي والمزورعلى حقوق الوطن والمواطنين لا يعرف سوء ما فعل الا وهو على فراش الموت،لكن ساعتها تكون متأخرة لن ينتفع منها كل النادمين.
ومع كل الذي يُكتب ,ويقال ويُحذر منه فلا زالت الدول الكبرى والصغرى بقادتها المتغطرسين ينشطون في مصانع التدمير ، واذا بحثت في تاريخ معظم القادة تراهم من قراء التاريخ مثل آدلف هتلر وموسليني وبليرو صدام حسين الذي شرد أهله وماله وعياله من جراء غطرسته وجبروته وصده عن الحكمة ، كما يحصل لقادة ايران الجهلة اليوم مدفوعين بقدسية وهمية فارغة وبدين احادي وهمي اجرد من حقيقة التحقيق..وكما حصل لمروان بن محمد أخر خلفاء الأمويين حين شرد أهله وعياله وأضاع ملك بني امية جراء غطرسته وعناده على الخطأ، فهل من جاؤا من بعده أتعظوا بالتاريخ؟ لا أبداُ ولاشيء.
ان الذين يتعضون بالتاريخ وتجاربه المريرة هم الذين يضيفون الزمن الى حهد الانسان،وهم الذين يتصرفون بالعقل فيتغلبون على الظروف غير المواتية بدلا من الرضوخ لها وتركها تشكلهم كيف شاؤوا كما في رئيس ماليزيا الكبير،وهم الذين يقومون أساساً على أفتراضات يقبلها المنطق وان تناقضت مع الواقع،وهم الذين يقومون بنقد النظريات الخاطئة بميزان الاحصاء الذي لا يخطىء،وهم الذين يبتعدون عن تطبيق النظام السياسي الجامد المتخلف الذي يوقف التقدم الحضاري من اجل ان يبقوا يحكمون،كما عند قادة العراقيين الجهلة من اصحاب شهادات التزويراليوم.
.فمناصب الدولة العليا تحتاج الى الكفاءة وهم لا يدركون.
لكن السؤال الذي يتبادر الى الذهن اليوم هو:هل نستسلم للقدر ونبقى دون حراك حتى نموت؟ الجواب يحتم علينا القول لا وألف لا، فالشعوب الحية لا تموت والحضارات المتجذرة في اعماق التاريخ لا تندثر، ألم نكن نحن منها ؟ ان التاريخ وتجاربه القاسية تعلمنا ان الثمرات الحضارية تحتاج الى زمن لكي تطلع،اي انها جزء من التاريخ ،لذا فالثمرات الحضارية لا تظهر الا باضافة الزمن الى جهد الانسان،وسيبقى الانسان العراقي يكد ويكدح ويقاوم المستحيل حتى يعود بعجلة التاريخ نحو الدوران مستمدا من تاريخ حضارته الموغلة في قدم التاريخ صانعة القلم والكتابة وعلوم وقوانين الاقدمين كما في آور نمو وحمورابي ووثائق الآشوريين .. وستصبح الازمة الحالية في خبر كان قريباً وبجهود المخلصين وسنرى..فتحية لثوار تشرين القرنالعشرين الأبطال الميامين المطالبين بالتحرير والمعتصمين في سوح النضال من أجل وطن العراقيين..
أما الذين اغتصبوا الحقوق بحجة القرارات الدولية وسياسة الامر الواقع وأنتهاز فرض الضعف الحكومي وغياب التوجه الوطني فهم واهمون ان ينتصروا ويحققوا ما يرغبون على حساب الاخرين،بعد ان اصبح القادة العملاء المترهلون واصحاب النظرة المادية القاتلة تساندهم محكمة دستورية خائنة للقسم والقانون ..ورئيسها قد حنث اليمين..ومدعي عام مترهل ورئيس للوزراء متآمر مع (الأرجنتينيين )،وساعتها سيعود الندم مرة اخرى للمغتصبين،وكما قال الامام علي (ع) (ان الحق القديم لا يبطله شيء …والعقل مضطر لقبول الحق كما رددها الامام قالها الشافعي الكبير) فهل سيدرك المغتصبون حقوق الاخرين قبل فوات الاوان ونحن لهم من المنتظرين؟
وفي الختام نقول : ان موضوع التاريخ هو دراسة التجربة الانسانية على وجه الارض منذ ان ظهرالانسان على هذا الكوكب الى يومنا هذا،وليس ذكر اخبار السالفين من الحكام الغاصبين..والا أين قادة بني أمية والعباسيين والمغول والنازيين ..واليوم الميثيولوجيين الجهلة من اصحاب عمائم الأستغلال والتخريب .. الجهلة بالتاريخ والانسان وحياة الآدميين ..تقودهم خرافات الوهم في اللاوجود.
الانسان يتربى بالتجربة والاعتبار ،والتفكير في شئون الكون على اساس الفكر غير المقيد،والعقل المتطلع المتعطش الى المعرفةأيضاً، على اساس التجربة التي هي أصل كل كشف صحيح ..لا بالموعظة والعبرة والاستذكاروالفخفخة والغطرسة واللطم على الآولياء الآولين الذي جاؤا للاصلاح لا للتدمير كما هم يعتقدون اليوم من اصحاب المواخير…. وهكذا كانت اوربا بعد النهضة ،فاذا أهمل تدريب الذهن تبلد وقلت حركته،ويبقى عاطلا طيلة فترة حياته،فالتجربة تبقى هي الاساس في حياة البشر دون غيرها، وخاصة اذا ادركها الانسان وتعلمها دون تقصير.وتبقى التجربة على أهميتها قاصرة عن ادراك الهدف الانساني الكبير مالم يرافقها المنهج العلمي المنظم القويم والتطبيق السليم.