18 ديسمبر، 2024 5:56 م

جلسة النطق بالحكم

جلسة النطق بالحكم

كان هذا المتهم فريدا من نوعه حيث كان معطفه بوبره البني الطويل وقبعته المصنوعة من القش تتوسطها قلنسوة مخملية توحي صاحبها بالانتماء للبرجوازية عكس الكثير من المتهمين الذين غالبا ما كانوا يسيرون بثياب رثة ولحى كثيفة والبكاء والرعشة ترافقان كل خطوة يتقدمون فيها نحو قاعة المحكمة، ولهذا كانت فرادة ذلك المتهم الأنيق محط استغراب وإعجاب الجميع حيث الابتسامة الواثقة لم تفارق شفتيه وطريقة مشيته التي توحي بتحدي القدر والأغرب من كل ذلك النزاكة التي كان يتميز بها حيث كان بين الفينة والأخرى يعدل من اتجاه قبعته ليطمئن على عدم ميولها لتحت .
وضع داخل القفص من قبل رجال الأمن ولم تكن أمام عينيه الزرقاويين غير مواجهة ثلاث قضاة كانوا ضخام البنية ملتفعين بعباءات سود داكنة كأنها مفصلة على مقاسهم ولم توجد في أرديتهم أية أشرطة ملونة كما هو الحال عند برستيج القضاة المتعارف عليه. القاضي الذي في المنتصف الذي يعتبر الرئيس و صاحب القرار كان أقواهم بنية حدج إلى المتهم بنظرة باردة دون ان يتفوه بكلمة .
كان عدد الحاضرين قليل في القاعة فلم تكن غير المقاعد الأمامية تشملهم بشكل أقرب الى الترتيب العشوائي, بدأ المدعي الذي كان في جهة اليسار من منصة القضاة بإبداء مرافعته مسرداً فيها بأن المتهم ارتكب عشر جرائم قتل تضمنت ذبح المجنيين عليه فلان , وفلان ,…الخ مطالباً في نهاية مرافعته بتطبيق عقوبة الإعدام على المتهم شريطة أن تكون في إحدى الساحات العامة أمام الملئ .

.ساد صمت قصير داخل القاعة ساد صمت قصير في القاعة بعد انتهاء بعد انتهاء مرافعة المدعي العام ولم يكن أمام القاضي في هذه اللحظة الحرجة غير التلويح لمحامي الدفاع المنتدب لإبداء مرافعته تقدم الأخير الذي كان يبدو قصير القامة ذو نظارة كأنها صممت خصيصا على وجهه النحيف!.
نظف حنجرته قليلا قبل ان يبتدئ بمرافعته التي لم تكن تختلف كثيرا عن مقدمة سلفه مدعياً فيها ان موكله يعاني من شيزوفرينيا حادة مرفقاً هذا الإدعاء بتقارير طبية معتمدة ومطالباً ببراءة موكله فهو بطبيعة الحال غير مذنب على الأقل من الناحية الطبية عن كل الجرائم التي أقدم عليها!.
بعد انتهاء مرافعة المحامي أردف القاضي بنبرة سريعة قائلاً :” الحكم بعد المداولة”.
أما المتهم فما زال على اتزانه وبروده قبل أن يحضر القضاة إلى المنصة حاملين معهم صك الحكم النهائي .
قال القاضي بعد أن ضرب بمطرقته المنصة كي يكتم صخب الحاضرين :” بعد الاطلاع على أوراق القضية وسماع شهادة الشهود والاستماع إلى السادة المدعي العام , ومحامي الدفاع قررت المحكمة تطبيق المادة القانونية الخاصة بالمرضى الفصاميين والتي تتضمن إخلاء سبيل المتهم واعتباره مداناً في نفس الوقت كون الدستور يسمح بتطبيق هذه البنود في مثل هذه الحالات . رفعت الجلسة “.
ساد جدل خفيف ممزوج بنوع من الذهول بالرغم من ان المتهم لا زال على صمته المعهود بين نظرات تهنئه وأخرى تلعنه كونه مجرم لا يستحق الحياة .
وما أن ظل على هدوئه لبرهة إلا أنه بعد ذلك فاجئ الحاضرين بصرخة مدوية كأنها تعبر عن غبطة غير مسبوقة , فقد أدرك بأنه سيعيش طويلاً بهذا الحكم ليظل ممتناً لهؤلاء القضاة , بالرغم من أنه سيتمنى في كل ليلة ينام فيها أن تعاد الجلسة وكل ما جرى خلالها أفضل من أن يستيقظ كل يوم على دماء ضحايا جدد لطالما هو مجرم وبريء في نظر القانون !.