كان هذا المتهم فريدا من نوعه حيث كانت ردنغوته بوبرها البني الطويل وقبعته المصنوعة من القش تتوسطها قلنسوة مخملية توحي صاحبها بالانتماء للبرجوازية عكس الكثير من المتهمين الذين غالبا ما كانوا يسيرون بثياب رثة ولحى كثيفة والبكاء والرعشة ترافقان كل خطوة يتقدمون فيها نحو قاعة المحكمة , ولهذا كانت فرادة ذلك المتهم الأنيق محط استغراب وإعجاب الجميع حيث الابتسامة الواثقة لم تكن تفارق شفتيه الباردتين وطريقة مشيته التي توحي بتحدي القدر والأغرب من كل ذلك النزاكة التي كان يتميز بها حيث كان بين الفينة والأخرى يعدل من اتجاه قبعته ليطمئن على عدم ميولها لتحت .
وضع داخل القفص من قبل رجال الأمن ولم تكن أمام عينيه الزرقاويين غير مواجهة قضاة ثلاث كانوا ضخام البنية ملتفعين بعباءات سوداء داكنة كأنها مفصلة على مقاسهم ولم توجد في أرديتهم أية أشرطة ملونة كما هو الحال عند برستيج القضاة المتعارف عليه. القاضي الذي في المنتصف الذي يعتبر الرئيس و صاحب القرار كان أقواهم بنية حدج إلى المتهم بنظرة باردة دون ان يتفوه بكلمة .
كان عدد الحاضرين قليل في القاعة فلم تكن غير المقاعد الأمامية تشملهم بشكل أقرب الى الترتيب العشوائي!, بدأ المدعي الذي كان في جهة اليسار من منصة القضاة بإبداء مرافعته قائلا:
” سادتي القضاة المحترمين .. ان المتهم الذي أمامكم مجرم من الطراز الرفيع حيث أثبتت جميع الأدلة والبراهين بأنه قام بارتكاب عشر جرائم تضمنت ذبح المجنيين عليه فلان , وفلان , وفلان …. في أماكن متفرقة من المدينة وهذا لا يدع مجالا للشك ان المتهم مجرم خطير كما أسلفت لحضراتكم .
كان القاضي ينظر الى كلمات المدعي والبرود لم يفارق عينيه ثم أستطرد :
من هنا في هذه القاعة أطالب بتطبيق أقصى عقوبة للمتهم وهي الاعدام فتطبيق هذه العقوبة بقدر ما هي جزاء عادل له إلا انها في ذات الوقت عامل ردع الكثيرين من أمثاله كي لا تسول لهم أنفسهم بالإقدام على مثل هذه الأعمال البشعة التي تخل بأمن مدينتنا المزدهرة .شكرا سيدي الرئيس .
“انتهت المرافعة” .
ساد صمت قصير داخل القاعة فلم يكن أمام القاضي غير التلويح لمحامي الدفاع المنتدب لإبداء مرافعته تقدم الأخير الذي يبدو قصير القامة ذو نظارة كأنها صممت خصيصا على وجهه النحيف
نظف حنجرته قليلا قبل ان يبتدئ بالمرافعة التي لم تكن تختلف كثيرا عن مقدمة المدعي ليسترسل فيها قائلا:
ان موكلي أمام عدالتكم يعاني من انفصام شخصي حاد ولدي كل الوثائق الطبية المعتمدة التي تثبت صحة قولي والتي سأقدمها لعدالتكم الآن … تقدم ثلاث خطوات نحو منصة القضاة وسلم التقارير المطلوبة للقاضي الرئيس الذي ما زال محتفظا ببرودة عينيه وما ان تراجع المحامي الى موقعه حتى أردف قائلا:
ومن هنا أطالب ببراءة موكلي نظرا لما يعانيه من مرض موثق أمام عدالتكم هذا من جهة ورأفة بحاله فهو في النهاية غير مذنب طبيا عن كل الجرائم التي أرتكبها من جهة ثانية ! .
” انتهت المرافعة “
بعد ان أكمل المحامي مرافعته قال القاضي بنبرة سريعة :
” الحكم بعد المداولة”
أما المتهم فلا زال على اتزانه وبرودة أعصابه وظل نصف ساعة على هذه الحالة الى ان حضر القضاة الى المنصة حاملين معهم صك الحكم النهائي .
قال القاضي بعد ان ضرب بمطرقته على المنصة ليقطع ضجة الحاضرين :
“بعد الاطلاع على أوراق القضية وسماع شهادة الشهود والاستماع لمرافعات السادة المدعي العام ومحامي الدفاع قررت المحكمة تطبيق المادة القانونية الخاصة بالمرضى الفصاميين و التي تتضمن قطع رأس ظل المدان كون الدستور يسمح بتطبيق هذه البنود في مثل هذه الحالات النادرة , رفعت الجلسة .
ساد جدل خفيف ممزوج بالذهول داخل القاعة بالرغم من ان المتهم لا زال على صمته بين نظرات تهنئه وأخرى تلعنه كونه مجرم لا يستحق الحياة .
وما ان ظل على صمته وهدوئه لبرهة إلا أنه فاجأ الحاضرين بصرخة مكتومة كأنها تعبر عن غبطة غير مسبوقة فقد أدرك بأنه سيعيش طويلا بهذا الحكم ليظل طوال عمره ممتنا لهؤلاء القضاة, بالرغم من انه سيتمنى في كل ليلة ينام فيها ان تعاد الجلسة وكل ما جرى فيها قبل ان يستيقظ كل صباح على دماء ضحايا جدد لطالما هو اليوم مجرم بريء في نظر قانون المدينة ! .