الإعاقة الكبرى لإعلان تونس هي أنه تم بين دول جوار ليبيا دون أن يساهم الليبيون المعنيون بمحنة وطنهم في التوقيع عليه في ظل وجود انشقاقات كبيرة بينهم وعداوات لا يبدو أنهم سيبرأون منها قريبا.
تثير رئاسة الجمهورية التونسية جدلا واسعا هذه الأيام، إذ يحتلّ نشاطان متوازيان متزامنان أنجزتهما مؤخرا صدارة الرأي العام والإعلام؛ الأوّل دبلوماسي خارجي يهتم بمبادرة سياسية تونسية لإيجاد تسوية سياسية في ليبيا، والثاني تشريعي داخلي مداره العمل الحثيث على مراجعة قانون شهير في تونس يسمّى القانون 52 من المجلة الجزائية لسنة 1992 المتعلق بمستهلكي القنّب الهندي، وهو نوع من المخدّرات الرائجة جدّا بين الشباب التونسي.
ونظرا لحساسية الملفين لدى التونسيين فقد شغلت رئاسة الجمهورية التونسيين خلال الأسبوعين الأخيرين بتدخلها فيهما. فتواصل انخرام الوضع الأمني في ليبيا لم يعد محتملا وبات يؤرق كل دول الجوار الليبي، لا سيما تونس والجزائر ومصر، أمنيا. كما يحرم دول المنطقة من فرص كبيرة للتنمية الاقتصادية والتبادل التجاري، ويقلص من حرية التنقل وفرص العمل لمواطني هذه الدول.
ويبدو أن تحرك رئاسة الجمهورية كان بتنسيق كامل مع رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي الذي استقبل جزءا من الفرقاء الليبيين وزار الجزائر لمناقشة الموضوع مع المسؤولين الجزائريين. فيما تولى رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي طرق الموضوع مع الجانب المصري، واستقبل بدوره الأطراف الليبية عدا المشير خليفة حفتر قائد الجيش الليبي الذي لم يحضر إلى تونس.
وفي الوقت الذي أكد فيه رئيس الجمهورية أنـه سيستقبل المشير حفتر قريبا، فاجأ محسن مرزوق مدير الحملة الانتخـابية للسبسي، المستقيل مـن خطة وزير مستشار لدى رئيس الجمهورية والمنشق عن حزب نداء تونس والأمين العام لحركة مشروع تونس المعـارضة، بـأدائه زيارة إلى ليبيـا ولقائه المشيـر حفتر في إطـار الدبلوماسية الموازية نفسها التي يمارسها رئيس حركة النهضة. وقد سارعت رئاسة الجمهـوريـة إلى تكـذيب محسن مـرزوق الـذي قال إن زيارته إلى ليبيا تم التنسيق لها والتشاور بشأنها مع رئاسة الجمهورية.
المهم أن جهود رئاسة الجمهورية انتهت إلى توقيع “إعلان تونس” الاثنين 20 فبراير 2017 بين تونس ومصر والجزائر، والذي يضمن مسـاندة المقترحات التوافقية للأطراف الليبية من أجل التوصل إلى صياغات تكميلية وتعديلات تمكّن من تطبيق اتفـاق الصخيرات في المغرب الأقصى الذي تم توقيعه في يوليو 2015 برعاية الأمم المتحدة ودون مشاركة فاعلة من تونس والجزائر ومصر ولم يجد طـريقه إلى التنفيذ.
وقد نصّ “إعلان تونس”، الذي تم التوصل إليه في ختام اجتماع وزراء خارجية تونس والجزائر ومصر يومي 19 و20 فبراير 2017، على “مواصلة السعي الحثيث من أجل تحقيق المصالحة الشاملة في ليبيا، دون إقصاء في إطار الحوار الليبي-الليبي بمساعدة من الدول الثلاث وبرعاية من الأمم المتحدة، على أن يضم الحوار كافة الأطراف الليبية، مهما كانت توجهاتها أو انتماءاتها السياسية، شرط استعدادها للحلول السياسية وعدم ضلوعها في الأعمال الإرهابية.
وفي الوقت الذي رحّب فيه مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا مارتن كوبلر الأربعاء في تونس بالدور الذي تؤديه كل من تونس والجزائر ومصر لإيجاد تسوية سياسية للملف الليبي، بدت واشنطن غير متحمسة لهذا التمشي لا سيما أنه ينص على عبارة “كافة الأطراف الليبية مهما كانت توجهاتها أو انتماءاتها السياسية دون إقصاء”، بما يعني أن الإسلاميين جميعا، حتى السلفيين والمتشددين، سيكونون طرفا في العملية السياسية القادمة في ليبيا.
وهذا ما يرفضه المشير حفتر إلى حد الآن ويلقى دعما فيه من واشنطن. ولذلك لم يحضر إلى تونس، فهو يرى أن لا جديد في إعلان تونس الذي ليس سوى نسخة من اتفـاق الصخيرات. ولذلك هناك خشية حقيقية من أن يلقى إعلان تونس نفس مآل اتفاق الصخيرات، رغم أن الرئيس التونسي ووزير خارجيته يؤكدان على أن إعـلان تونس ليس بديلا لاتفاق الصخيرات وإنما هو استمرار وتعزيز له، وستضيع فرصة ربما لن تتكرر في المدى المنظور لتسوية هذا الملف.
ولعلّ أهم ما في إعلان تونس أنه يشدد على الحل الليبي-الليبي، من ناحية، ويرفض أي توجه للتدخل العسكري الأجنبي في ليبيا من ناحية ثانية، سادا الطريق أمام بعض الرغبات الجامحة لدى بعض الدول الغربية لا سيما روسيا وفرنسا وإيطاليا. أما الإعاقة الكبرى لهذا الإعلان فهي أنه تم بين دول جوار ليبيا دون أن يساهم الليبيون المعنيون بمحنة وطنهم في التوقيع عليه في ظل وجود انشقاقات كبيرة بينهم وعداوات لا يبدو أنهم سيبرأون منها قريبا.
النشاط الثاني لرئيس الجمهورية الذي أثار جدلا واسعا في تونس نشاط تشريعي تمثل في اهتمامه بمراجعة القانون 52 لسنة 1992 من المجلة الجزائية المتعلق باستهلاك المخدرات وترويجها. وللتذكير فإن الجدل حول هذا القانون لم يتوقف منذ 2011. وسنة 2014، خلال حكومة المهدي جمعة، انطلقت حملة قادتها منظمات المجتمع المدني تحت عنوان مبادرة “السجين 52” ضمّت مجموعة من المحامين والأطباء ونشطاء من المجتمع المدني، انتهت بتوجيه أصحاب المبادرة رسالة إلى رئيس الحكومة طالبوه فيها بضرورة تنقيح القانون عدد 52 لسنة 1992 المتعلق باستهلاك المخدرات، وذلك من أجل مراجعة العقوبة المتعلقة باستهلاك مادة القنب الهندي التي تودي بمستقبل الكثير من شباب تونس.
وكانت وزارة العدل قد انكبت منذ 2014 على إعداد مشروع قانون جديد يتعلق بمستهلكي المخدرات سيعوض القانون عدد 52 لسنة 1992. وكانت النية تتجه في ذلك المشـروع نحو تخفيف العقوبة على مستهلكي مخـدر القنب الهندي المعروف باسم “الزطلة” في تونس للمرة الأولى، مع تشـديد العقـوبة في حـال العـودة مع تعويض العقوبة السالبة للحرية بالخدمة للصالح العام للمبتدئين ونظام إصلاحي وعلاجي.
وكانت أحزاب سياسية كثيرة قد أقامت ندوات حول المطالبة بمراجعة القانون 52. أما السيد رئيس الجمهورية فقد جعل من مراجعة القانون 52 أحد شعارات حملته في الانتخابات الرئاسية لسنة 2014. ويرى مراقبون أن المشكلة الوحيدة في القانون 52 تكمن في الفصل الثالث عشر منه والذي يكبّل القاضي ويحرمه من الاجتهاد، إذ يجعل العقوبة للمستهلكين سنة سجنا نافذة. فتكفي مراجعة هذا الفصل حتى تخف وطأة القانون.
ولكنّ جزءا آخر من الرأي العام يحذر من سوء الفهم الرائج بين الشباب التونسي الذي فهم أن في مراجعة القانون تشجيعا على استهلاك هذا المخدر. كما يدعو آخرون إلى أنه في مقابل مراجعة الفصل 13 من القانون 52 لا بد من تشديد العقوبات على المروّجين وتكثيف المراقبة الحدودية حتى لا تتوفر هذه المادة بسهولة لطالبيها أو للمغرّر بهم.
وتبقى النقطة التي لم يجد الرأي العام التونسي تفسيرا لها هي دعوة رئيس الجمهورية مجلس الأمن القومي للانعقاد وعرض القانون 52 عليه، والحال أن المسألة تشريعية ومعالجتها تكون في مجلس نواب الشعب، والأصل أن تقودها الكتلة النيابية للرئيس أي كتلـة نداء تـونس. فهـل من مشكلـة بـين الرئيس وكتلة حـزبه في البـرلمان؟
نقلا عن العرب