23 ديسمبر، 2024 1:37 م

تمام الأكحل: تمام، التمام!

تمام الأكحل: تمام، التمام!

في أواسط الخمسينيات من القرن الماضي، كان أبي عامل بناءٍ في الكويت، يأتي إلى البصرة مرةً كلَّ شهر. لا أدري ما حدث في الطريق من صفوان إلى الكويت حتى جاءنا الخبر بأن الأب موقوف في مركز شرطة السراي بالبصرة القديمة. أخذتني أمي وسرنا إلى هناك. دخلنا ممراً ضيقاً تفوح منه رائحة البول، عن شماله سياجاً حديدياً وقفت أمامه لعلي أبصر أبي. شاهدت أنواعاً من الرجال. حالما أبصرني أبي تقدم إلى السياج، وحاول أن يخرج رأسه قليلاً كي يتحدث مع أمي المتنحية جانباً. وقع نظري على عبارة سوداء محفورة على جدار الموقف: فلسطين عربية! غادرنا الموقف، وتركنا يدا أبي ممدودتين من الحديد، ورجاءه الأخير لأمي أن تعتني بالبنات. سقطت فلسطين في كف أبي الفارغة الممدودة على العذاب.
كانت فلسطين بالنسبة إلينا هي ذلك الطابع البريدي الصغير. خريطة كالكوفية المغسولة والمنشورة على الحبل لتجف، يخترقها خنجر من الخلف، وعبارة تقول: إسرائيل خنجر في قلب الأمة العربية. ضاعت فلسطين كما ضاع الطابع، وكان الأخوة يأتون بين الحين والحين بقطارٍ إنجليزي، ويذهبون بقطارٍ أمريكي، كما كانوا يقولون.
أعادت تمام الأكحل، وإسماعيل شموط رسم نصف خريطة فلسطين الحديثة، وأعادا أولاً يافا، واللد إليها. تقطع الكهرباء عن يافا، وانقطع معها الخبز والماء، وبدأ الناس بالرحيل. أظلمت نوافذ البيوت، وانقطعت أصوات الأطفال بالليل. ذبلت أوراق الياسمين، وانحنت غصونها إلى الأرض العطشى. يفتح العم الأقفاص للدجاج، وتبدأ في التقافز في الشارع طلباً لقطرة ماء. اقتربت ساعة الرحيل. تأخذ الصبية تمام مسماراً وتصعد إلى أعلى الدار لتحفر على العمود الرخامي اسمها، وميلادها، ولم تكتب تاريخ الرحيل. أفضت الخطى المكتوبة أخيراً إلى لبنان: مقبرة الداعوق، ومخيم صبرا. الناس تتدافع للحصول على كوب من الحليب. تنظر تمام إلى أمها تغلي الماء بمسحوق ملون، فتأخذ حفنة منه، وعدداً من أغطية زجاجات كازوز جلول، تضع في كل غطاءٍ لوناً. تقص خصلة من
شعرها تثبتها بخيط على قلم الرصاص، تغمسها في الغطاء، وترسم بها مواكب الحليب، ومواكب الماء _ أولى مآسي الشعب الفلسطيني.
بقي الناس على الصدفة، من يرمي الزهر أولاً، وأين يقع. من حي إلى حي، ومن شارع إلى شارع، ازدادت الأوراق الثبوتية، ولا شيء ثابت. إنها الخديعة. لا خيمة كخيمة الأونروا! قادت الصدفة تمام إلى كلية المقاصد، ثم إلى القاهرة حيث تلتقي برفيق الدرب إسماعيل شموط، ليبدأا معاً رحلة العودة إلى فلسطين على القماش. هنا تتجلى القدرة الفنية على الإبداع والتعبير عن الموضوع الفلسطيني من خلال التجربة الحياتية المعاشة، يوماً بيوم. إنه الذهول بالفن. لكن الفلسطينيين شعب مثل كل الشعوب على هذه الأرض، يأكلون، ويصلون، ويتزوجون، ويطلقون. يكذبون ويصدقون، ما عدا الحلم، فسماء الفلسطيني ملبدة دائماً بغيوم الحلم.
رسمت تمام الأكحل، وإسماعيل شموط نصف خريطة فلسطين، وأكمل الشعب الفلسطيني رسم النصف الآخر، صخرةً صخرة، وشجرةً شجرة، وعوداً بعد عود. قُتل غسان كنفاني، فعادت عكا إلى الخريطة. وقتل وائل زعيتر في روما، فعادت نابلس إلى الخريطة. وقتل كمال عدوان، وكمال ناصر، ومحمد النجاد في ليلة واحدة، فعادت غزة. وقتل عبد الوهاب الكيالي، فعادت يافا. وقتل ناجي العلي، فعادت الشجرة. وقتل خليل الوزير، فعادت الرملة.. جاء محمود درويش، فاكتملت خريطة فلسطين الحديثة. هي الآن موجودة.
شكراً سيدتي تمام الأكحل. نحن العراقيين نحفظ لك الحب كله.