تطالعنا بين الحين والآخر طروحات وتنظيرات لما يسمى حيناً بمشروع انقاذ العراق أو تعافيه أو إصلاحه أو تغييره، كل حسب مرجعيته الفكرية والسياسية.
وقد أحسن السيد رئيس الوزراء محمد شياع السوداني حين أطلق ــ في مقال نشره قبل عامين تقريباً في صحيفة الشرق الأوسط ــ استراتيجية (عراق 2050) لإعمار البلاد وتحسين الخدمات والازدهار والاستقرار لبغداد الحضارة والريادة، فكان المدى الزمني الذي قدمه معقولاً في خضم ما يحيط بنا من عقبات وتحديات، وهو امر قلنا منذ وقت مبكر أنه سيواجه تقييداً وضغطاً كبيرين وصراعاً حقيقياً من اجل إبقاء الحال على ما هو عليه من استنزاف الوطن حد الهلاك.
والحقيقة أنني وجدت بعد التأمل، ان التأسيس لهذا المشروع يجب ان ينتظم في محددات لازمة لا يمكن مغادرتها، فبدونها يبقى البناء واهياً، ولا يصل إلى نتيجة ويكرر نفسه كما نرى، وليس في ذلك تنصلاً عن المسؤولية لجهة او أخرى بالضرورة، بل هو تعبير عن إكراهات الواقع إن صحت التسمية.
وابتداءً، فان تواضع الشعارات كفيل بتحقيقها، فليس تميزاً ان تطلق الشعارات الضخمة وهي لا تطبق، أو لا تنطوي على قراءة عميقة لشدة صعوبة تحقيقها بشكل عملي في الواقع، هذا الواقع الذي يفرض نمطاَ من التفكير يراعي كل المتغيرات والتحديات، وهو بالنهاية يعبر عن وعي متنوراً وليس ضعفاً وتراجعاً بأي حال من الأحوال، فالهدف في النهاية هو النجاح لا الإغراق في طرح النظريات وركنها على الرفوف التي يعلوها الغبار.
ولا بد كذلك من إدراك أن البناء دون أساس لا يعدو أن يكون تعويلاً على ثبات الرمال والاطمئنان إلى دعمها، وهي في النهاية لا تصمد ولو للحظة في مواجهة سيول الفشل، فتفكيك منظومات الخلل، وتوزيع ثقل العقبات مطلوب قبل التشييد والعمران، ضمانة للبقاء وعدم الانجراف.
ثم ألا يبدو من الملفت أننا ننشد علاجاً لمريض سلب منّا، فاليوم تتعدد مراكز القوى، وتعلو العناوين المختلفة على سلطة الدولة والقانون، فلمن نعطي العلاج الذي ننشد؟ وألا يقتضي منّا ذلك استرداد وطننا ثم الحديث أصلاً عن العلاج؟!
وتكاليف عملية الاسترداد تلك باهضة، ولا ينتظر أحد أن تكون بلا ثمن، فالجراح دليل خوض النزال، وهي علامة شرف وإثبات الجهد والولاء، ومحظوظ من أعلن انتصاره وهو يحمل تلك الشارة الأصيلة.
ويطرح دوماً الحديث عن اختيار الرجل المناسب، وان العلة فيمن نوّلي، ولكن في النهاية تبقى الحقيقة الواضحة الشديدة: ماذا ينفع الرجل المناسب في الأرض الخراب؟ بل اننا احياناً نجعل من الرجل المناسب عرضة إما للأذى أو الذوبان، في ظل المنظومات المتوغلة في جسد الوطن، والتي تحمي نفسها وتعمل على منع أي محاولة للإصلاح.
والإصلاح والتغيير عملية شاملة وجوهرية ومتكاملة، تعالج أصل الخلل وتنمو متدرجة مع فروعها، دون ان يغرينا او يخدعنا المظهر البّراق الذي يحاول اقناعنا بأننا بخير، وأن مسيرتنا صائبة، فما جدوى الغطاء اللامع والقلب يأكله الصدأ العضال؟!
واخيراً.. إننا لم نصل بعد إلى مرحلة المستحيل واليأس من التغيير ما دمنا نحمل فكرته الواضحة الشاملة، فالإشعاع الذي نرنو إلى ان ينير أرضنا المنهكة هو نتاج التقاء البؤر المضيئةالتي تتجمع لتغطي بمجموعها الظلام، وذلك لن يكون إلا بتأسيس العصبة الوطنية الملتزمة، تلك التي تناضل ليل نهار من اجل الحفاظ على بقاء الوطن وتطهيره من كل أشكال الوهن والفساد.
التغيير ممكن.. وهو لن يكون إلا بتظافر الجهود وجمعها من جهة، والرضا بجمع نسب الإنجاز شيئاً فشيئاً وصولاً إلى النجاح المطلوب من جهة أخرى، وعدم تكرار خطيئة العودة إلى نقطة الصفر والغرق في دوامة التكرار.. والإخفاق.