وقد بلغ التيار الشيوعي العراقي في كردستان من القوة درجة أنه كان يؤسس الاحزاب ويسقطها في كردستان، مثل حزب رزكاري الذي حاول أن يعارض الحزب الشيوعي العراقي، فأوعز الاخير الى أعضائه بتركه فانهار، وكذلك حزب شورش، وكان يعرف بأنه ليس سوى فرع كردي للحزب الشيوعي قبل تأسيس الحزب الشيوعي – فرع كردستان، بل أنه بلغ من نفوذ الشيوعيين في كردستان أن رشحوا مرشحاً عربياً الى جانب كردي عن السليمانية في انتخابات 1948م البرلمانية، وكاد يفوز بالاغلبية الساحقة لولا اعلان الاحكام العرفية وقيام السلطة بزج المرشحين في السجن.
ومن جانب آخر فقد استغل حمزة عبدالله مكانته كممثل عن الملا مصطفى البارزاني في الانحياز الى التيار اليميني (المحافظ) في الحزب رغم ماركسيته، وهذا الامر تجسد بوضوح في صياغة برنامج قومي سياسي بحت، تضمن المطالبة بحق الكرد في الحكم الذاتي شكلاً للعلاقة بين كردستان الجنوبية -العراق، ولم يتطرق الى ضرورة إجراء اصلاحات اجتماعية واقتصادية كان المجتمع الكردي بأمس الحاجة اليها كما يرى اليسار الكردي.
ويظهر أن موقف حمزة عبدالله وأنصار البارتي قد أوقع القيادي الماركسي (صالح الحيدري) في موقف صعب لأنه اضطر الى قبول حل حزبه (يه كيتي تيكوشين – وحدة النضال)، والرجوع الى الحزب الشيوعي العراقي من جديد، وفيما بعد انسحب غالبية قيادات حزب شورش الماركسية، مثل: جمال الحيدري، وحميد عثمان، ونافع داود، ونزاد أحمد عزيز، من البارتي بسبب ادخال شخصيات عشائرية برجوازية واقطاعية في قيادات الحزب حسب وصفها.
ومن جانب آخر لم يتغير ميزان القوى داخل قيادة الحزب الديمقراطي(= البارتي) لمصلحة اليسار إلا بعد مرور ست سنوات؛ وذلك خلال انعقاد المؤتمر الثاني للحزب في صيف عام1952م، الذي جاء بمبادرة من اليساريين أنفسهم بقيادة ابراهيم أحمد الذي خرج من سجون بغداد، وانتخب فيه سكرتيراً عاماً للحزب، بدلاً من حمزة عبدالله الذي كان قد طرد من الحزب بسبب مهادنته وتحالفه مع التيار المحافظ. هذا التغيير في قيادة الحزب واضحة على أن المدن شهدت تغييرات مستمرة في الميادين الاجتماعية والثقافية والتعليمية، على النقيض من الريف الذي أصبح الحاضنة الرئيسية للقومية الكردية والمحددة لأطرها التنظيمية ولتوجهاتها الفكرية والسياسية.
وفي 26/1/1953م، وبعد أشهر قليلة من الاستعدادات لاجراء تغييرات كبيرة في برنامج الحزب وتوجهاته السياسية والفكرية، عقد البارتي مؤتمره الثالث في كركوك، والذي تمخض عن سيطرة اليساريين على قيادته على نحو واضح، أي اللجنة المركزية والمكتب السياسي، واعيد انتخاب الملا نصطفى البارزاني رئيساً للحزب، وهو في المنفى، لأنه أصبح رمزاً كبيراً للقومية الكردية. ولكي يكسر اليسار حالة التقوقع القومي، أعاد تسمية (الحزب الديمقراطي الكردي) ليصبح (الحزب الديمقراطي الكردستاني)، حتى يفسح المجال أمام جميع سكان كردستان بمختلف خلفياتهم الدينية والاثنية للانضمام الى صفوفه، واتخذ المؤتمر جملة قرارات، منها : اقرار المنهاج والنظام الداخلي الجديد الذي ينص على اعتبار(الماركسية اللينينية هي الأساس الذي يسترشد به الحزب في نضاله السياسي”.
ومن جانب آخر فإن (صالح الحيدري) القيادي الشيوعي الكردي، قد ملَ من شكوكية قيادة الحزب الشيوعي له، وأخذ يسوده شعور بالاغتراب داخل الحزب الشيوعي، ولم يستطع مقاومة الرغبة في الانتقام من قيادة الحزب الشيوعي في بغداد الذي تتآكله الشكوك في أفكاره القومية، وفي15/7/1957م قدم الفرع الكردي الذي كان صالح الحيدري يقوده تقريراً الى قيادة الحزب الشيوعي العراقي يدل دلالة أكيدة لا لبس فيها على عزم الشيوعيين الكرد على الانضمام الى الحزب الديمقراطي الكردستاني بدعوى ” توحيد الحركة الثورية في كردستان العراق”. وقد رد الحزب الشيوعي العراقي بعنف على مقترحات فرعه الكردي ونشرت في 20/8/1957م في كراس مستقل تحت عنوان (رد على مفاهيم برجوازية قومية وتصفوية)” ، جاء فيها ” أن البارتي ليس منظمة ماركسية – لينينية، بل قومية برجوازية، إن البارتي يصر ويوغل في سلوك خاطىء، معادٍ لحزبنا والأفكار الماركسية اللينينية ويتبنى سياسة انتهازية تزرع البلبلة والتشويش في صقوف المناضلين، وتؤدي بحركة الشعب الكردي الى الانحراف نحو الانعزالية والانفصالية”، وتضيف الكراسة بأنه أي البارتي” خادم للاستعمار وشركات النفط الاحتكارية والاقطاعية، وخلص الى استنتاج واحد محدد وغير قابل للتأويل وهو إن المكان الطبيعي للشيوعيين هو داخل الحزب الشيوعي وليس داخل أحزاب أخرى غير شرعية”، وكان أعضاء لجنة الفرع الكردي وهم: صالح الحيدري، وحميد عثمان، وكمال فؤاد، قد انضموا الى البارتي ومعهم عدد كبير من الشيوعيين الكرد الذين يحملون نفس أفكارهم، مما استدعى تشكيل قيادة البارتي، بحيث دخلوا في المكتب السياسي واللجنة المركزية للبارتي، مما أعطى دفعة معنوية للبارتي، بسبب تمرس هؤلاء الماركسيين في السياسة والتنظيم، مما أعطى دفعة قوية للبارتي لتوسيع تنظيماته، التي كانت منتشرة فقط في بغداد واربيل وكركوك والسليمانية، لتنتشر في الموصل، ولتتشكل ولأول مرة عام1957م لجنة محلية فيها، تشرف على تنظيمات البارتي في الاقضية الكردية التابعة لها في دهوك والعمادية وزاخو وعقرة.
وبعد ثورة 14 تموز عام1958م تاثرت معظم الاحزاب العراقية بأجواء الخلاف الذي نشب حول شكل الوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة، هل تكون فورية اندماجية، كما يطالب بها عبدالسلام عارف يؤيده حزب الاستقلال وحزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب والناصريين، أو فدرالية كما يدعو لها أنصار عبدالكريم قاسم، مثل الحزب الشيوعي العراقي والبارتي والحزب الوطني الديمقراطي. وبدوره تأثر البارتي بحالة الاستقطاب تلك ومن الداخل، حيث ارتد تأثيرها على هيئاته القيادية التي انضمت الى جناحين: الاول بقيادة حمزة عبدالله ومجموعته الماركسية التي تسيطر على المكتب السياسي وتوالي الحزب الشيوعي العراقي.
الثاني: بقيادة إبراهيم أحمد، مدعوماً من قبل معظم أعضاء اللجنة المركزية، وكان هذا الجناح الاقرب في مواقفه الى القوى القومية العربية، الذي اتهمه الجناح الاول باليمينية والتبعية للبرجوازية العربية.
أصبح جناح (حمزة عبدالله) هو المسيطر على البارتي واستغل سيطرته لطرد وتجميد عدد من عناصر الجناح المعارض لنهجه ومنهم: ابراهيم احمد، وجلال الطالباني، وشكل في كانون الثاني عام1959م مكتباً سياسياً بدعم من ملا مصطفى البارزاني ضم كل من:
حمزة عبدالله/ سكرتيراً لبارتي
صالح الحيدري
حميد عثمان
خسرو توفيق
كان البارتي بتشكيلته القيادية الجديدة التي يغلب عليها التيار الماركسي قد اندفع بكل قواه وراء الحزب الشيوعي العراقي، فوقع معه وبمشاركة الجناح اليساري في الحزب الوطني الديمقراطي والعديد من النقابات المهنية، ميثاق (جبهة الاتحاد الوطني) في الثامن والعشرين من حزيران عام1959م.
لم يكتف حمزة عبدالله بذلك، بل تقدم باقتراح الى اللجنة المركزية للبارتي يقضي بتوحيد منظمات الشبيبة والنساء والفلاحين التابعة لها مع مثيلاتها في الحزب الشيوعي العراقي، مما أثار ردود فعل غاضبة من جانب البارتي وقواعده على حدٍ سواء. والتي اعتبرت خطته وما يقوم به حمزة عبدالله خطة مدبرة لاذابة البارتي وتصفيته، وأخذت صحيفة (خبات – النضال) التي أجيزت في نيسان عام1959م، تنتهج الخط الشيوعي عن طريق نشر مقالات يسارية متطرفة حتى انها زايدت على الشيوعيين أنفسهم في بعض الاحايين.
ويذكر السيد جلال الطالباني في مذكراته (حوار العمر- الحلقة 37) حول كيفية تغلغل الفكر الماركسي داخل الحزب الديمقراطي الكردستاني بالقول:” فمنذ فترة طويلة نشأ داخل الحزب الديمقراطي الكردستاني تيار ذو توجهات ماركسية لينينية، وكان هذا التيار يبرز فترة ويخبو أخرى، في عام 1953 طرح موضوع الفكر الماركسي اللينيني على بساط البحث داخل الحزب، وكان الحزب يمارس نشاطه منذ عام 1959 بشكل علني وحصلنا على الإجازة في 6/1/1960، وجاء في النظام الداخلي أن الحزب يعتبر النظرية الماركسية اللينينية كأحد مصادر فكره، ولم تمر فترة حتى تحولت تلك النظرية الى العلمية. وفي عامي 1958 و1959 أصر الأعضاء الذين إعتبروا أنفسهم ماركسيين لينينيين أن تتجسد النظرية الماركسية في برامج الحزب رغم كل الخلافات والصراعات التي كانت موجودة بين البارتي والحزب الشيوعي وكذلك داخل أجنحة الحزب، مثل: جناح همزة عبدالله ونزاد خسرو وحميد عثمان وصالح الحيدري، وكانت الخلافات تتركز حول ما إذا كان الحزب هو حزب برجوازي كردي، أو هو حزب العمال والكادحين والفلاحين والطلبة والمثقفين والكسبة، بمعنى أنه حزب جماهيري. وبرز هذا التيار بعد إنشقاق 1964 وسط الذين كانوا مع الملا مصطفى(=البارزاني)”.