22 ديسمبر، 2024 7:05 م

تاريخ تسرب الأفكار العَلمانية الى كردستان/ ج8

تاريخ تسرب الأفكار العَلمانية الى كردستان/ ج8

وغني عن القول أن جريدة (خبات- النضال) لسان حال البارتي، والتي كان يشرف عليها كل من حمزة عبدالله سكرتير الحزب وأعضاء المكتب السياسي الاربعة (= جميعهم ماركسيون)، تميزت بانتهاج خط شيوعي متأثرة بالمد الشيوعي العام في العراق بوجود الكتلة المؤيدة للحزب الشيوعي العراقي في قيادة الحزب الديمقراطي الموحد لكردستان العراق. وإن أهم قضية شغلتها صفحات جريدة خبات هي دعوتها الى دمج المنظمات الجماهيرية الكردية ضمن المنظمات العراقية، وتسببت هذه الدعوى في أن تنتقل الخلافات التي كانت محصورة بين قيادة الحزب الى القواعد الحزبية ايضاً، حمل جلال الطالباني لواء التيار المناهض لهذه السياسة، واستطاع أن يجمع حوله عدداً من المنظمات الحزبية، وبدأت الكوادر المتقدمة في الحزب بكتابة تقارير الى رئيس الحزب، موضحين فيها أن الحزب أصبح فرعاً تابعاً للحزب الشيوعي وفقد استقلاليته وينبغي اتخاذ موقف .
وصل الخلاف حداً صار يهدد البارتي بالانشقاق، ولم يقتصر على اللجنة المركزية. بل نزل الى القواعد أيضاَ، عندئذٍ قرر البارزاني التدخل المباشر لوضع حد لهذا الامر، فتم عقد اجتماع للجنة المركزية للبارتي في الثلاثين من حزيران 1959م، وجرت محاولات عديدة مع حمزة عبدالله ورفاقه للحضور الى اجتماع اللجنة المركزية، إلا أنهم رفضوا الحضور، وكتب (حمزة عبدالله) رسالة الى البارزاني يحذره من إبراهيم أحمد وكتلته واتهمهم باليمينية وعدم الاخلاص للبارتي والبارزاني واختتم رسالته بعبارة:”وإني لك ناصح أمين”.
اتخذت اللجنة المركزية في اجتماعها عدة قرارات حاسمة، وهي تجميد عضوية: حمزة عبدالله، وصالح الحيدري، وخسرو توفيق، ونزاد أحمد، وحميد عثمان، وصالح رشدي، وأن تناط مسؤولية الإشراف على جريدة خبات الى (جلال الطالباني) بعد أن تقرر في الاجتماع إلغاء قرار تجميده. وفي اليوم التالي أرسلت قوة من الحرس الشخصي لملا مصطفى البارزاني الى مقر جريدة خبات في بغداد وقاموا بطرد ما تبقى من عناصر كتلة حمزة عبدالله منها بالقوة، وهذا ما أشيع في تلك الفترة (بغزوة البارزاني لجريدة خبات)، كما ذكره الباحث(فرهاد محمد سليفاني) في كتابه ( من وثائق الحزب الديمقراطي الكوردستاني – العراق، الصفحة17) نقلاً عن مقابلة شخصية مع جلال الطالباني في 24/2/2005..
عقد البارتي مؤتمره الرابع في بغداد خلال الفترة 4-7/10/1959 بحضور ملا مصطفى البارزاني وحوالي 90 مندوباً، وهي المرة الاولى التي يحضر فيها رئيس البارتي مؤتمراً له منذ تأسيسه، اتخذ المؤتمر عدة قرارات حاسمة من بينها طرد حمزة عبدالله وأعضاء المكتب السياسي السابق الموالين للحزب الشيوعي، بذلك تم تصفية الجناح الماركسي في البارتي، وتعديل اسم البارتي من الحزب الديمقراطي الكردي الموحد الى (الحزب الديمقراطي الكردستاني- العراق)، وتم تعديل الفقرة التي تنص على عبارة ” استرشاد الحزب الأفكار الماركسية اللينينية” من المنهاج والنظام الداخلي الى عبارة ” الانتفاع بالأفكار الماركسية اللينينية”. وفي ختام المؤتمر تم انتخاب البارزاني بالاجماع رئيساً للبارتي، كما انتخب اللجنة المركزية ولجنة للمراقبة والتفتيش.
وبعد فترة زمنية قدم الملا مصطفى البارزاني ورفاقه الذين يتكون من السادة: إبراهيم احمد(محام)، عمر مصطفى (محام)، علي عبدالله (مهندس)، نوري صديق شاويس(مهندس)، صالح عبد الله اليوسفي(كاتب)، ملا عبد الله إسماعيل(فلاح)، حلمي علي شريف(صحفي)، إسماعيل عارف(عامل)، شمس الدين المفتي(محام)، طلباً إلى وزارة الداخلية العراقية للموافقة على إجازة حزبهم وأرفقوه بمنهاج الحزب الذي تضمن المادة الثانية منه أن (الحزب الديمقراطي حزب ثوري يمثل مصالح العمال والفلاحين والكسبة والحرفيين والمثقفين والثوريين في كوردستان العراق)، أما المادة الثالثة فتنص على أن الحزب (ينتفع في نضاله السياسي وفي تحليلاته الاجتماعية من النظرية العلمية الماركسية اللينينية).
وقد أجيز الحزب في 9 شباط/فبراير عام1960م بعد حذف وتغيير بعض المواد التي كان عبدالكريم قاسم يعتبرها مساساً بأمن العراق ووحدة أراضيه.
وفي الحقيقة كانت الصراعات بين أجنحة البارتي محتدة على طول الخط منذ تأسيسه، لأن رئيسه (الملا مصطفى البارزاني) كان لاجئاً في الاتحاد السوفياتي، وبعد وصوله فإن هذه الصراعات الفكرية والسياسية ازداد أوارها، لا سيما في سنة1959م التي كانت حاسمة بالنسبة لحزب البارتي الذي لم يكن قد حصل على الاجازة الرسمية بعد من قبل وزارة الداخلية العراقية.
وفي الحقبة التي كان الماركسيون لديهم اليد الطولى في قيادة حزب البارتي بما فيهم السكرتير العام للبارتي(= حمزة عبدالله) وغالبية أعضاء المكتب السياسي في بداية سنة1959م، قام العقيد الركن عبدالوهاب الشواف بحركته في السابع من شهر آذار/ مايس عام1959م، وقد استطاع الضباط الشيوعيون والموالين لعبدالكريم قاسم من السيطرة على المدينة، لاسيما بعد قصف الطائرات الموالية لقاسم مقر الشواف وفيما بعد قتله على يد بعض الجنود. وقامت مفارز من المقاومة الشعبية التابعة للحزب الشيوعي العراقي بأعمال انتقامية ضد المشاركين في الحركة والمتعاطفين معهم، ساعدهم في ذلك فرع الحزب الديمقراطي الكردستاني في الموصل الذي كان يقوده (خسروتوفيق) بقيادة مسلحين من أبناء العشائر الكردية والزحف على الموصل، إلا أن ما حدث من أعمال القتل والسلب والنهب فيها لم تكن بعلم قادة الحزب الديمقراطي الكردستاني، وأدان المرحوم ملا مصطفى البارزاني شخصياً أعمال القتل والنهب التي قامت في الموصل بعد القضاء على حركة الشواف.
كان للكرد دور فعال في إخماد حركة الشواف، حيث توافد المئات من المسلحين من مختلف المدن والقرى الكردية مثل: العمادية ودهوك، وزاخو، وعسكروا في تل نينوى شمال شرق الموصل، ونزل البعض منهم الى شوارع المدينة واشتركوا في مقاتلة القائمين بالحركة، فقد توجه العشرات لا سيما بعد ورود اشاعات عن قتل وسجن الضباط والجنود الكرد في الموصل من قبل القوميين العرب، رغم الظروف الجوية القاسية، حيث سار معظمهم مشياً على الاقدام … بسبب كثرة سقوط الثلج، وكان لتنظيمات الحزب الشيوعي العراقية الكردية في المنطق الدور الأكبر في تهيئة الجماهير للذهاب الى الموصل، حيث يذكر (محمد صالح سياري) أحد القياديين الشيوعيين في دهوك:” عند قيام حركة حركة الشواف كنت معلماً في قرية (هيسى- التابعة لمنطقة برواري بالا قرب الحدود التركية)، فقمت مع زملائي الشيوعيين بتحريض أهالي القرية والقرى المجاورة للذهاب الى الموصل، حيث كنا نقول لهم إن لم تذهبوا للقضاء على حركة الشواف سوف تكون نتائجها وخيمة على الكرد”.
ويقول فائق أحمد الحاج شعبان (= عضو سابق في البرلمان العراقي)، إن مشاركة عائلتنا في إخماد حركة الشواف جاءت لمنع سيطرة الحزب الشيوعي على الموقف في ئاميدى(= العمادية). وكان للصحفي (أنور مايى) الذي كان موجوداً في الموصل، دور فعال في جمع وحشد المؤيدين لقاسم لمقاومة حركة الشواف، فضلاً عن أحمد عبدالله ئاميدى (مدرس عضو قيادي في اللجنة المركزية للبارتي).
كما أن العقيد طه مصطفى البامرني(= آمر لواء الحرس الملكي سابقاً) القائد العام للمقاومة الشعبية في العراق، وجه نداءً الى قائد المقاومة الشعبية في المنطقة الشمالية (مهدي حميد- شيوعي كردي من السليمانية) وكافة ضباط المقاومة دعاهم الى بذل المستحيل لالقاء القبض على العقيد عبدالوهاب الشواف، والتعاون مع القوات الحكومية الموالية لقاسم للقضاء على حركة الشواف.
أما في مدينة دهوك فقد حدثت حوادث مؤسفة، عندما اندلعت حركة الشواف، كان معظم موظفي دهوك من سكان الموصل منهم :القائمقام عبد الله الجبوري، والطبيب سعد الدين الجلبي، ومأمور المركز المفوض قاسم الخشاب، فقام (رشيد آغا الدوسكي) بنقلهم الى دار استراحة بلدية (مديرية بلدية دهوك القديمة مقابل المحكمة القديمة)، وذلك لكي يسهل حمايتهم ولكي لا يتعرضوا الى أي أذى من قبل الجماهير الغاضبة في المدينة، الا ان الجماهير توجهوا نحو البلدية وهتفوا بالانتقام منهم، وحاول الملا عبدالحكيم بنافي برواري أحد ملالي دهوك آنذاك تهدئة الأوضاع إلا أن الامر كان صعباً، وبعد مدة قصيرة دخلت مجموعة من شباب الحزب الشيوعي الى داخل بناية البلدية، وقاموا بسحب الأشخاص الثلاثة الى خارج البناية وضربوهم حتى الموت، أما الطبيب فحاول ان يدافع عن نفسه بواسطة مسدس صغير كان معه، وقتل شخصاً يدعى صوفي (أبو فاضل) وقتل هؤلاء الثلاثة، وتأسف الكثير من أهالي دهوك على قتل القائمقام ورفاقه.
ويذكر عبد الرزاق كرمافي(قيادي عسكري في حزب البارتي سابقاً) عن حوداث تلك الحقبة ودور الحزب الشيوعي فيها بالقول:” لكون الحزب الشيوعي العراقي هو المسيطر في الموصل والمدعوم من قبل سلطات بغداد فقد استغل الشيوعيون ذلك وحدثت أمور مؤسفة في الموصل مما أدى الى قتل أعداد كبيرة من الناس ووصلت أنباء من الموصل وتحديداً من (عادل يونس كوسه، وعبدالستار حجي قادر) بأعتداء القائمين بالحركة على الكرد في الموصل هناك؛ مما حدى بالجماهير الغاضبة في دهوك الى مهاجمة دار البلدية، حيث كان القائمقام ومأمور المركز والطبيب قد اختبئوا فيها، اذ اتهمتهم الجماهير بالوقوف الى جانب تمرد الشواف، وقتل الثلاثة بالرغم من محاولة الكثيرين من الشخصيات للدفاع عنهم”.

ويذكر المؤرخ (حنا بطاطو) في كتابه ( العراق الكتاب الثالث الشيوعيون والبعثيون والضباط الاحرار، الصفحة 200) بخصوص الاعدامات السريعة التي جرت في يوم10 آذار /مارس عام1959،:” هناك اصبع اتهام آخر يوجه أيضاً الى الاكراد، فقد أكد شاهد عيان شيوعي في العام1963(= فخري بطرس عضو اللحنة المحلية للحزب الشيوعي العراقي في الموصل )، أن الملا أنور، رئيس تحرير صحيفة (خباط- خبات) الكردية وعضو الحزب الديمقراطي الكردستاني، وعدداً من البرزانيين يقودهم أحد أبناء الملا مصطفى، وربما كان لقمان، شكلوا جزءاً من فريق الاعدام الذي شكل لهذا الغرض”.
وقد رد عليه أحد الباحثين الكرد(= رجب جميل حبيب)، بالقول:” بأن هناك من أتهم (أنور مايي) بتدبير بعض من عمليات قتل المؤيدين لحركة الشواف استناداً الى شاهد عيان شيوعي في عام 1963م، أي بعد مضي حوالي أربع سنوات على قيام الحركة، إلا أنها رواية وحيدة لذا لا يمكن الاستناد عليها. فضلاً أن الشاهد ذكر بأن أنور مايي هو رئيس تحرير خبات، علماً بأنه لم يكن رئيس تحرير الجريدة المذكورة، بل أصدر بالاشتراك مع جرجيس فتح الله (المحامي المسيحي الكلداني الموصلي) جريدة (الحقيقة – راستى) في الموصل في عام1959م”.
يبدو أن الذي دفع أهالي الاقضية الكردية: دهوك والعمادية وزاخو وسنجار، للمشاركة في إخماد الحركة هو شعورهم أن الحركة ضد أهداف ثورة 14تموز، وزعيمها عبدالكريم قاسم، وضد التطلعات القومية للشعب الكردي، وأن القوميين العرب من الناصريين والبعثيين وغيرهم وراء تدبير الحركة.