الحلقة الثالثة
النجف ليست مدينة كبقية المدن، قامت بين ليلة وضحاها بأمر من خليفة، أو طلب من سلطان، أو تلبية لحاجات مادية، بل مرّت بمخاض طويل في رحم الأيام والأعوام، فترات مد وسنوات جزر، تقبل إليها الدنيا إن سنحت الفرصة لها، وتهجرها كرهاً إن ضغط عليها ولاة أمر السياسة، نشأت وترعرعت بين عشق الناس، وولائهم للإمام المرتضى (عليه السلام) وتوسعت من فيض أجوائه الروحية، ولو أن محبوبة قد ذكر في كتابه “ماضي النجف وحاضرها”، انّ النجف كانت مأهولة ومعمورة، وكانت الحضارة قائمة بها على أساس عربية في عهد الملوك اللخميين يوم كانت الحيرة عاصمة لهم(3). أما نحن فلا نرى غير الديارات التي كانت منتشرة على أرض النجف، ورحلات الصيد والتنزه للملوك الساسانيين وأقيالهم اللخميين والخلفاء والأمراء والقادة في العصور الإسلامية من بعد، ولما يتمتع به النجف من مناخ طيب وهواء نقي، واطلالة جميلة على البساتين والنخيل من ناحية، وعلى الصحراء والرمال من ناحية اُخرى.
يقول الشاعر المغني اسحاق بن إبراهيم الموصلي (ت عام 235هـ / 849م) يمدح الواثق ويذكر النجف واصفاً هواءه وتربته وموقعه بألطف العبارت وأدقها، وصدق الواثق على وصفه البديع :
ما إن رأى الناس في سهل ولا جبل
أصفى هواءً ولا أعذى من النجف(4)
كأنّ تربته مسك يفوح به
أو عنبر دافه العطار في صدفِ
حفّت ببرّ وبحر من جوانبها
فالبرّ في طرف والبحر في طرفِ
وبين ذاك بساتين يسيح بها
نهر يجيش بجاري سيله القصفِ
وما يزال نسيمٌ من أيامنه
يأتيك منه بريّاً روضة أُنفِ(5)
تلقاك منه قبيل الصبح رائحة
تشفي السقيم إذا أشفى على التلفِ
لو حلّه مدنف يرجو الشفاء به
إذاً شفاه من الأسقام والدنفِ(6)
ويذكرنا البيت الأخير بما قاله الجاحظ (ت 255 هـ / 868م) وهو من المعاصرين للموصلي في ” البيان والتبيين “: “وهرب رجل من الطاعون إلى النجف أيام شريح(7)، فكتب إليه شريح: أما بعد، الفرار لن يبعد أجلا ولن يكثر رزقاً، وإنّ المقام لن يقرب أجلا ولن يقلّل رزقاً، وانّ مَن بالنجف من ذي قدرة لقريب”(8).
ولهذا أيضاً إذا استبعدنا الاُمور الغيبية. وقف الإمام علي (عليه السلام) يطل على ظهر الكوفة ـ وهو النجف ـ قائلا: ” ما أحسن منظرك وأطيب قعرك، اللهم اجعل قبري بها…”، ولكن كان النجف ـ كموقع ـ يعوزه الماء، والماء هو الحياة دائماً، ولما حلّ بها مَن هو أغلى من الماء، وأعزّ من الماء، ورد إليه الماء سلسبيلا زلالا، طوع البنان، فشبت فيه الحياة وتنفست به الأرواح، واللّه على كل شيء قدير.
ومهما يكن من أمر فيعتبر ترصيص الحجر على قبر الإمام بمثابة وضع الحجر الأساسي لمدينة النجف الأشرف التي أصبحت تلتهم الحيرة، وتهيمن على الكوفة، وتقدس كرابع مدينة في العالم الإسلامي بعد مكّة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف. ولكن كيف أصبحت هكذا؟! وكيف تطورت وسط هذه الأجواء المضطربة في عالم يتطلع إلى التسلط وينشد اللذة، ويكره المعارضة وكلّ رمز يستقطبها ويؤجج جذوتها…؟ تعال معي أيها القارئ الكريم نتصفح ما توفر لدينا من أخبار، والبحث غير مستكمل، ونحن نجهد أنفسنا قدر المستطاع للكتابة عن تاريخ النجف الأشرف من بداية بزوغ الحيرة حتى يومنا هذا، واللّه المستعان على صالح الأعمال.
الأمويون شأنهم شأن بني العباس، حاولوا جاهدين إخفاء معالم قبر الإمام ـ كما أراد له صاحبه ـ فبثّوا الروايات المتعددة حول مدفنه لتشتيت مركز الاستقطاب واطفاء جذوة الاشتعال، وسحق بؤرة الثورات، ولكن أنّى لهم ذلك فالنفوس الكبيرة والأرواح العظيمة لا تضمها اللحود، ولا تطمرها القبور، بل تبقى خالدة على مرّ العصور تتناقلها الدماء من جيل إلى جيل، تنمو سريعاً وتتكاثر اطراداً، شأنها شأن الأحياء، فإن خبر مدفنه ومكان لحده، أخذت الألسن تتناقله والأرجل تسعى له، والنفوس تهفو إليه حتى أصبح مزاراً وملاذاً ومأوى لجميع المؤمنين المستضعفين.
يحدثنا التاريخ أن العلويين والمحبين لأهل البيت والمشايعين لهم كانوا يزورون القبر(9)، وربما يجاهرون إذا اقتضى الأمر، ففي أحداث السنة السابعة والستين للهجرة (686م) يذكر الطبري: “عن سويد بن غفلة قال: بينما أنا أسير بظهر الكوفة إذ لحقني رجل فطعنني بمخصرة من خلفي، فالتفتُ إليه فقال: ما قولك في الشيخ؟ قلتُ: أي الشيوخ؟! قال: علي بن أبي طالب، قلتُ: إنّي أشهد أني أحبه بسمعي وبصري وقلبي ولساني…”(10).
وهذا الخبر ينطوي على أمرين مهمين، أولهما: انّ قبر الإمام كان يزار سرّاً، وإذا اقتضى الأمر يعلن عن الزيارة والولاء بجرأة. وثانيهما: كانت هناك حراسة سرية تراقب الزوار وتتعقبهم لتسجل الغاية من الوجود في مثل هذا المكان، واستمر حال التعتيم على موضع القبر، وملاحقة زواره حتى قيام الخلافة العباسية عام 132هـ / 750م.
النجف في العصر العباسي الأوّل:
على ما يبدو لنا كان العباسيون والعلويون مهتمين لتأطير ضريح الإمام (عليه السلام)والالتفاف حوله كمركز لمواصلة دعوتهم واستقرار حكمهم، ولكن الخلافات التي نشبت بين العلويين والعباسيين وسيطرة بني العباس جعل المشروع طي الإهمال خشية من اعطاء أبناء علي أحقية في الخلافة، ففي الوقت الذي تذكر فيه الدكتورة سميرة الليثي ” كانت أوّل زيارة للإمام جعفر الصادق للعراق في عهد الخليفة العباسي الأوّل أبي العباس السفاح، وقد توصل خلال هذه الزيارة إلى معرفة مكان قبر علي بن أبي طالب في النجف”(11). ويؤكد الشرقي انّ “ظهور القبر كان لأول مرّة في أيام الصادق (عليه السلام) وبأمر منه، ففي رواية صفوان يقول: بعد أن دلّهم الإمام الصادق (عليه السلام) على موضع القبر الشريف، قلتُ: يا سيدي أتأذن لي أن أخبر أصحابنا من أهل الكوفة؟ قال: نعم. وأعطاني الدراهم وأصلحتُ القبر. ثمّ عفي القبر بسبب السيول الجارفة، وبقي حتى أيام داود بن علي العباسي المتوفى 133هـ / 750م، حيث أصلحه وعمل عليه صندوقاً، ثمّ عفي القبر الشريف مرّة ثانية حتى أيام هارون الرشيد العباسي حيث بنى القبر الشريف وشاد عليه قبة سنة 170هـ / 786م”(12).
ومن وجهة نظرنا انّ الرواية التي نقلها الشرقي عن الفضلي غير دقيقة من عدّة وجوه، لا وجه واحد، إذ أنّ الإمام الصادق (عليه السلام) زار الكوفة في بداية العصر العباسي في زمن أبي العباس السفاح، وفي السنة نفسها توفي داود بن علي العباسي وهو عم أبي العباس السفاح سنة 133هـ، فما هذه العمارة التي تهدم وقت بنائها، وكيف وصلت السيول الجارفة إلى النجف؟ والنجف كما ذكرنا أرض مرتفعة كالمسناة تصد الماء فلا يعلوها؟ ثمّ انّ كلمة “وأصلحت القبر” تدل على أن القبر كان قائماً قبل الإمام الصادق (عليه السلام)، فكيف دلّهم عليه؟! أما متى شيّد هارون القبّة؟ فلنا معه وقفة تحليلية بعد عدة صفحات.
نحن نعتقد انّ هناك توافقاً زمنياً بين مجيء الإمام الصادق (عليه السلام) إلى الكوفة، إذ أمر ببناء القبر على حدّ رواية صفوان(13)، وعمل الصندوق من قبل داود بن علي العباسي، فهما مشروع واحد تم في السنة نفسها، ثمّ هدم عمداً من قبل العباسيين لا بسبب السيول، ففي الوقت الذي تسالم فيه المؤرخون، وعلى رأسهم الشيخ محمّد بن الحسن الشهير بالديلمي، والنسابة الشهير صاحب “عمدة الطالب” والسيد ابن طاووس صاحب “فرحة الغري”، انّ أوّل مَن وضع صندوقاً على قبر أمير المؤمنين علي (عليه السلام) هو داود بن علي العباسي(14) المتوفى 133هـ / 750م بعد أن كان قبراً مخفياً(15).
نقول: في هذا الوقت ينتقل أبو العباس السفاح من الكوفة، المدينة الموالية للعلويين، إلى الأنبار على نهر الفرات، وأقام بها قصراً فخماً سماه “الهاشمية”(16)، ومن بعده يتخذ أبو جعفر المنصور “بغداد” عاصمة له، ليبتعدا عن الكوفة وشيعتها، وليهملا قبر الإمام في ظهرها بالنجف عن عمد ومعرفة بمكانته، وأهميته الدينية والدنيوية للمسلمين قاطبة.
من الضروري أن نذكر خبرين نراهما مهمين لبحثنا عن النجف يوردهما الطبري في تاريخه، أولهما في أحداث السنة الرابعة والأربعين بعد المائة يقول فيه: “لما قدم بعبد اللّه بن حسن وأهله مقيدين، فأشرف بهم على النجف، قال لأهله: أما ترون في هذه القرية من يمنعنا من هذا الطاغية. قال: فليقه ابنا أخي الحسن وعلي مشتملين على سيفين، فقالا له: قد جئناك يابن رسول اللّه فمرنا
بالذي تريد، قال: قضيتما ولن تغنيا في هؤلاء شيئاً فانصرفا… “(17). فهذا الخبر يدل دلالة واضحة على أن النجف كانت قرية مأهولة قليلا بالسكان من العلويين، ولابد أنه كان هناك معلم للقبر على شكل من الأشكال، وعناية به.
ويكرر الطبري في أحداث السنة الخامسة والأربعين بعد المائة خبراً يروى عن ابن أبي المكارم “قال بعثني عيسى برأس محمّد (يقصد النفس الزكية) وبعث معي مائة من الجند، قال: فجئنا حتى إذا أشرفنا على النجف كبّرنا…”(18).
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا لماذا هذا التكبير على النجف لولا أهميته في وجدان الناس وقداسته في نفوسهم، ومن أين أتت هذه الأهمية أو القداسة لولا وجود قبر الإمام ومعرفة الناس أنّى مرقده الشريف تحديداً؟
ويحدث تطور ملفت للنظر في عهد الرشيد (حكم بين سنة 170 ـ 193هـ) إذ يقوم بتعمير القبة على المرقد الشريف، وتوجد بعض الروايات ترجع فعل الرشيد لدواع غيبية أثناء رحلة صيد إلى ظهر الكوفة، وتعني النجف، حيث كانت الفهود أو الكلاب والصقور تقف عند مكان محدّد ولا تتقدم عليه، فيتعجب الرشيد ويتساءل عن السبب، فيخبره أحد شيوخ الكوفة انّ بهذا المكان قبر الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)(19)، فيأمر الرشيد ببناء القبة.
ونحن لا نميل لهذه الرواية بالرغم من شهرتها وقربها من الوجدان الشعبي والعقلية الدينية، لا من حيث مدى الإيمان بالفلسفة الإلهية، وكرامات الأولياء، بل كيف يعقل انّ خليفة بحجم هارون الرشيد الذي يفرض هيمنته من بحر الظلمات حتى أبواب الصين يجهل قبر شخصية لها قدسيتها الإسلامية الرفيعة كشخصية
الإمام (عليه السلام) الذي عمّ البرية كلها، بل وممّن قامت الخلافة العباسية نفسه باسمه؟!
على كل حال نحن لا نميل إلى رواية الصيد بفهودها وصقورها، إلاّ إذا كانت مصطنعة من الرشيد نفسه بهدف بناء القبة وامتصاص النقمة ـ كما سنذكر ـ ولكن نحن نعتقد بصحة الرواية الثانية التي يذكرها صاحب “فرحة الغري” في الصفحة نفسها التي ذكر بها الرواية السابقة عن الخليفة هارن الرشيد، ولا أعرف لماذا لم يركز عليها المؤرخون، في حين أنها أقرب إلى العقل والمنطق والتحليل العلمي؟! وتقول الرواية: إنّ الرشيد خرج ليلا إلى القبر الشريف، ومعه علي بن عيسى الهاشمي، وأبعد أصحابه عنه، وقام يصلّي عند الكثيب ويبكي ويقول: واللّه يا بن عم اني لأعرف حقك، ولا أنكر فضلك، ولكن ولدك يخرجون عليّ ويقصدون قتلي وسلب ملكي، واستمر على تكل الحالة إلى أن قرب الفجر، فصلّى صلاة الصبح عند القبر، وأمر فبني عليه قبّة وأخذ الناس في زيارته ودفن موتاهم حوله(20).
على مايبدو أن الرشيد كان يحب الإمام علياً (عليه السلام) صدقاً، ويكره أبناءه الثائرين عليه غيظاً، لذا قد انتهج “سياستين متغايرتين نحو العلويين وشيعتهم”(21)ففي الوقت الذي يزعم فيه أنّه أكثر الناس حبّاً للإمام علي (عليه السلام)، فقد روى السيوطي ” أنّ الرشيد قال في مجلس من مجالسه: بلغني أنّ العامة يظنون فيّ بغض علي بن أبي طالب، واللّه ما أحب أحداً حبّي له، ولكن هؤلاء أشد الناس بغضاً لنا وطعناً علينا وسعياً إلى فساد ملكنا، بعد أن أخذنا بثأرهم، ومساهمتنا إياهم ما حويناه، حتى انّهم لأميل إلى نبي امية منهم إلينا، فأما ولده لصلبه فهم سادة الأهل، والسابقون إلى الفضل”(22). نقول في الوقت نفسه ـ ونحن قد نصدق حبّ الرشيد الخالص للإمام علي (عليه السلام) ـ نراه يقضي على حركتي يحيى وادريس ابني عبد اللّه ويتعقبهم شرقاً وغرباً، وينتقم من الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) بوضعه في السجن، ويضطهد زعماء العلويين(23)، لذلك نحن نرجح أنّ بناء القبة قد تم في سنة 180هـ لا في سنة 170هـ كما يذكر أغلب المؤرخين والباحثين(24)، والفرق بين التاريخين هو الموقف، هل كان البناء طوعاً أم كرهاً، وهل دوافعه عفوية أم بتخطيط مسبق لامتصاص نقمة العلويين وانصارهم وشيعتهم، ولاقناع عامة الناس بسياسته السمحاء ودماثة خلقه، وورعه لدينه؟ والرشيد استطاع أن يجمع النقيضين، فكان توازنه على كفتي منهج الأضداد، ترهيب وترغيب، قسوة ورحمة، حجّ وغزو، لهو وزهد، مجون وورع، حب وعداء، شدة ولين، وبالتالي دنيا ودين، وربما تصدر أفعاله عن عفوية مطلقة، أو تخضع لتخطيط مسبق عن ارادة واعية، انها أعمال الكبار تصدر من موقع القوة والاقتدار ولا تسأل عن السبب. لذلك اختلف الناس حوله بين مَن يرفعه إلى السماء وبين مَن يهبط به إلى الحضيض، وهذه من خصائص العباقرة العظام، ولا شكّ انّ الرشيد وأحد منهم، فهو الأكثر شهرة من بين كل الخلفاء العباسيين.
ونترك الرشيد لنتوجه إلى المأمون، إذ الأمين قد انشغل باللهو والمجون والغلمان والغلاميات، وأخيراً بالحرب الداخلية التي قضت عليه خلعاً وقتلا عل ىيد طاهر بن الحسين سنة 198 هـ / 813م، فلم يلتفت إلى أمر مقابر ومشاهد أهل البيت، ولا إلى أمر العلويين قاطبة.
ليس غريباً أن يتجاهل المأمون قبر الإمام علي (عليه السلام)، ومرقده الشريف إبان فترة حكمه التي استمرت 198 ـ 218هـ، عقبى ثورة ابن طباطبا(25) وأبي السرايا(26)، ومقتل مائتي ألف رجل بعد التفاف أهل الكوفة حولهما، وكادت هذه الثورة التي استمرت من أواخر جمادى الآخر 199هـ إلى ربيع الثاني 200هـ (27) أن تؤدي بالخلافة العباسية لولا حنكة ودهاء هرثمة بن أعين، إذ قضى عليها بعد عشرة أشهر من اندلاعها. وما فتئت الكوفة توالي أهل بيت النبي (عليهم السلام) وتناصرهم، فقامت الحركة الثانية فيها سنة 202 هـ / 817 م، وتولى قيادتها العسكرية أبو عبد اللّه أخو أبي السرايا، والزعامة الدينية على بن محمّد بن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام)وكان والي الكوفة العباس بن الإمام موسى الكاظم (عليه السلام)، فقال أهل الكوفة لواليهم العلوي العباسي “إن كنت تدعو للمأمون ثمّ من بعده لأخيك ـ أي الإمام الرضا ـ فلا حاجة لنا في دعوتك، وإن كنت تدعو إلى أخيك أو بعض أهل بيتك أو إلى نفسك أجبناك”(28).
فهل نتوقع من بعد هذا أن يقوم المأمون بتشييد بؤرة للثورة عليه وعلى خلافته، ويوجه الأنظار من العباسيين إلى العلويين، وتجربة الإمام الرضا (عليه السلام)مازالت ماثلة أمام عينيه؟ ليس المأمون من الخلفاء الضعفاء البسطاء سياسياً، فهو داهية كبير يحسب لكل أمر حسابه بدقة متناهة، أفعال وأعماله كلّها مبنية على تخطيط عقلي مسبق، فهو يعرف ما يريد، أما ادعاؤه “بالرضا من آل محمّد”، وبيعته للإمام الرضا (عليه السلام) كولي للعهد، فهي حيلة لجأ إليها بعد صراعه مع أخيه الأمين مباشرة ليكسب ودّ العلويين والمواليين لهم في خراسان، ويثبت أركان عرشة، وهذا ما حدث فعلا، فإن المؤرخين سنّة وشيعة كادوا أن يجمعوا على أن الإمام الرضا (عليه السلام) مات مسموماً بعنب المأمون(29). وبعد استشهاد الإمام خمدت الاضطرابات والفتن بين العباسيين في بغداد، ولا نريد بقولنا هذا ان ننفي عن المأمون عزمه وحلمه وكرمه وشجاعته وسماحته وعلمه وهيبته كما يدرجها المؤرخون، ولكن الصراع على السلطة يتجاوز كلّ هذه الصفات، فإنّ الملك لعقيم وانّ الدنيا لغرور…!!
وتستمر النجف على هذا الخفوف في عهد المعتصم والواثق، وحتى المتوكل طبعاً لميولهم للأتراك طوعاً أو كرهاً، والاعتماد على عناصرهم في تسيير اُمور الدولة، ولو أن الواثق بمدة خلافته القصيرة 227 ـ 232هـ أبدى مرونة تجاه العلويين، ورفض أن يوصي بالخلافة لابنه فقال “لا أتحمل أمركم حياً وميتاً”(30)، وكما قال صاحب الفخري “ولما ولي الواثق الخلافة أحسن إلى بني عمّه الطالبيين وبرّهم”(31). وعلى ما يبدو فإن الواثق كان يزور النجف، إذ يحدثنا صاحب ” الأغاني ” عن اسحاق الموصلي قال: ” ما وصلني أحد من الخلفاء بمثل ما وصلني من الواثق، ولقد انحدرتُ معه إلى النجف، فقلت له: يا أمير المؤمنين قد قلتُ في النجف قصيدة، فقال: هاتها، فأنشدته:
يا راكب العيس لا تعجل بنا وقفِ
نحيّ داراً لسعدى ثمّ ننصرفِ
وذكرنا القصيدة سابقاً.
………………………………………………………………………………………………
1 ) – المصدر السابق، ص: 193)
(2 ) – راجع: “معجم البلدان” للحموي، ج2 / ص: 102. “تاج العروس” للزبيدي، م10، ص: 64. “لسان العرب” لابن منظور، ج 14 / ص: 127. “النهاية في غريب الحديث والأثر” لابن أثير الجرزي، ج1 / ص: 231.
3 ) – محبوبة: ج1 / ص: 16.)
(4) – الأغاني، ج5 / ص: 356. “لم ينزل الناس…” أعذى: أطيب الهواء، ويقال عن المكان يعذو إذا طاب هواؤه، ومنه الأرض العذاة وهي الأرض البعيدة عن الاحساء والنزوز والريف، وما جاء في “ماضي النجف وحاضرها” أغذى لعلّه خطأ مطبعي.
5 ) – الأغاني، “نسيم من يمانية”، الروضة الأُنف بضم الهمزة والنون: التي لم يرعها أحد.)
6 ) – الحموي: معجم البلدان، ج5 / ص: 271. “الأغاني” للاصفهاني، ج5 / ص: 356.)
(7 ) – شريح بن الحارث القاضي المشهور، استقضاه الخليفة عمر على الكوفة ثمّ عثمان واقرّه الإمام علي (عليه السلام)، وولاّه زياد قضاء البصرة، توفي سنة 72هـ، وشريح يتكلم بلسان عصره قبل اكتشاف الجراثيم والعدوى والحجر الصحّي، وإنّ للأمراض أسباباً يمكن دفعها بالوقاية والعلاج.
(8 ) – الجاحظ: البيان والتبيان، ج2 / ص: 203.
(9) – تذكر الدكتورة اليثي في “جهاد الشيعة” ص: 194، الهامش: “كان العلويون يعرفون مكان قبر عليّ ولكنهم أخفوه عن بني أمية” وكذلك راجع محمّد علي دخيل: “نجفيات”، ص: 20.
( 10 ) – الطبري: ج6 / ص: 113 ـ 114.
(11 ) – د. الليثي: جهاد الشيعة، ص: 194، نقلا عن المظفر، محمّد حسين: الإمام الصادق، ج2 / ص: 137.
(12 ) – الشرقي، طالب: النجف الأشرف… عاداتها… تاريخها، ص: 18، نقلا عن الفضلي، عبد الهادي: دليل النجف الأشرف، ص: 23.
(13) – ينقل الشيخ محمّد جواد الفقيه في موسوعة النجف الأشرف، ج6 / ص: 35 رواية صفوان نفسها.
(14 ) – كان هذا الرجل “داود بن علي” ـ على ما نرجح ـ متعاطفاً مع العلويين، أو أقل عداءً لهم إن شئت، وأكثر تنكيلا بالأمويين، فهو الذي قدم بصحبة وفد علوي برئاسة عبد اللّه بن الحسن بن الحسن وأخيه الحسن إلى الأنبار، فاستقبل أبو العباس وأبو جعفر الوفد بالحفاوة والتكريم وأنزلاه في دار الرحبة “د. الليثي: ص: 81 نقلا عن الخطيب البغدادي، ج7 / ص:271 “. ولا ريب أنّ هذا الموقف كان ينطوي على حنكة سياسية تقتضيها الظروف للانقضاض على محمّد وإبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن.
15) – الخاقاني: شعراء الغري، ج1 / ص: 10 ـ 12.)
( 16 ) – د. الليثي، ص: 78.
17 ) – الطبري: ج 7 / ص: 546.)
18 ) – المصدر السابق، ص: 601.)
(19 ) – راجع ابن طاووس: فرحة الغري، ص: 119. محبوبة: ج1 / ص: 41. دخيل: نجفيات، ص: 20، وغيرها.
20 ) – المصدر السابق.)
21) – د. الليثي: جهاد الشيعة، ص: 303)
(22 ) – السيوطي: تاريخ الخلفاء، ص: 293.
( 23 ) – راجع المصادر القديمة لأحداث سنة 176هـ / 780م. وكذلك الليثي، ص: 279 ـ 306.
( 24 ) – راجع البهادلي، علي: النجف وجامعتها، ص: 27 نقلا عن المظفر: تاريخ الشيعة، ص: 243. الخاقاني: شعراء الغري، ج1 / ص: 10 ـ 12. الشرقي، طالب: النجف الأشرف، ص: 18 نقلا عن الفضلي، عبد الهادي: دليل النجف الأشرف، ص: 23. د. محمّد بحر العلوم يعتمد التاريخ 170 هـ “مجلة الموسم” العدد 18، ص: 93. محبوبة: ماضي النجف وحاضرها، ص: 41. أما الهامش (وبعد سنة 180هـ جاوره الناس، وينقل عن “نزهة القلوب” لحمد اللّه المستوفي ص: 134 (إنّها كانت في حدود 170هـ) ولكن يذكر محمّد جواد الفقيه في “موسعة النجف الأشرف” ج6 / ص: 35 “إنّ بناية الرشيد في سنة 180 هـ…” وهي الأصح حسب وجهة نظرنا.
( 25 ) – ابن طباطبا: هو محمّد بن إبراهيم بن اسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وجميع السادة الطباطبائيين ينتسبون إليه.
( 26) – أبو السرايا: هو السري ابن منصور من بني ربيعة بن ذهل بن شيبان، ذكر الطبري، ج7 / ص: 127 أنه من ولد هانئ بن قبيصة الشيباني.
( 27) – راجع الطبري، ج8 / ص: 5. د. الليثي، ص: 318 ـ 334.
( 28 ) – الطبري، ج 8 / ص: 560. د. الليثي، ص: 367.
( 29) – راجع الأصفهاني: مقاتل الطالبين، ص: 566. وابن الطقطقي: الفخري، ص: 199. والمسعودي: مروج الذهب، ج4 / ص: 28. الطبري: ج8 / ص: 568. وكل كتب الشيعة تجمع على أنه مات مسموماً بعنب المأمون.
( 30 ) – د. الليثي: جهاد الشيعة، ص: 389.
( 31 ) – ابن الطقطقي: الفخري، ص: 275.