23 ديسمبر، 2024 8:24 ص

بغداد (الرشيد): موضع فخرٍ، أم وصمة عار؟

بغداد (الرشيد): موضع فخرٍ، أم وصمة عار؟

مالذي يجعل هارون الرشيد من بين كل الخلفاء العباسيين البالغ عددهم 54 خليفة هو الإسم الأكثر شهرة وعَظَمة، وهو ألأكثر ذمّاً وتجريحًا (في آنٍ واحد) ؟.
أما شهرته وعظمته فمتمثلة في انجازاته الهائلة لدولة واسعة الارجاء، عبّرت عنها مقولته الشهيرة وهو يخاطب الغمام في السماء: (أمطري أنى شئتِ، فسيأتيني خراجك). وهي مقولة تعبر عن استقرار دولة الاسلام واتساعها. لقد كان هارون الرشيد، حنكة سياسية، وقدرة ادارية، وفاتح عظيم في الحرب يقود الغزو بنفسه ، داعم للثقافة والعلوم،. اجتمعت فيه سجايا ومميزات من الكرم والعدل والعلم والتواضع. كان ورعاً حاضر الدمعة عند المواعظ يحج عاما ويغزو عاما، يصوم ويتصدق ويسعى في أعمال الخير.
في ميدان الثقافة والعلم: أنشأ بيت الحكمة والذي يعتبر من الركائز العصرية لنشر وبلورة العلم و الحضارة الإسلامية، ودعم حركة الترجمة، ووفر الكتب من اللغات الاخرى الهندية والفارسية والرومانية واليونانية وغيرها، وعقدت في زمنه الحلقات العلمية على نمط عصري في المساجد تدرس فيها مختلف العلوم والاختصاصات، فكانت أشبه بالجامعات والمدارس العليا في الوقت الراهن بغزارة العلم وفنون التخصص. تتعدد في اروقتها الآراء، وتتاح فيها الفرصة وبحرية للمناقشة والحوار. فأسست لنهضة علمية عصرية جعلت اصحاب الاختصاص وطلاب العلم الشرعي وأهل الصنعة في خارج العاصمة، تتقاطر على مركز الخلافة بغداد لتشارك في هذه النهضة، وكان الرشيد يكرم أهل العلم بكل فروعه، ويغدق عليهم. فتطورت العلوم التطبيقية والأدبية والعمرانية والفنية وغيرها من العلوم والفنون، فكانت بحق نهضة شاملة في كافة المجالات.
ابتُكرت انواع من الإبداعات والاختراعات يومذاك كالساعات المائية. كما أنشيء في عهده أول مصنع للورق ببغداد سنة 176هـ 795 م والورق مادة اساسية لتسجيل العلوم وحفظها ونشرها، فانتشرت اسواق الورّاقين والنسّاخ والمكتبات (بمعنى المطابع ومحلات بيع الكتب).
أجرى الإصلاحات الادارية والتنفيذية الداخلية للدولة، واهتم الرشيد بتوفير الخدمات العامة للشعب. والارتقاء بالاعمال الخيرية، فبنى المساجد الكبيرة والقصور الفخمة والمشافي الراقية والحمامات الشعبية. وعلى الطرقات خارج المدن أنشأ النُزل والبِرك والآبار والمرافق للنفع العام ولعابري السبيل. وتوسع العمران في زمنه وبلغت نفوس بغداد المليون. واستعملت لأول مرة القناديل لإضاءة الطرقات بمشتقات النفط التي توصلت إلى استخراجها ابحاث علماء المسلمين، فكانت قناديل الإضاءة منتشرة في المساجد والمؤسسات والأسواق والمنازل.
بغداد يومها مدينة عصرية نظيفة. بطرقات مرصوفة بالحجارة، وحدائق غناء عابقة. وأنشأ المؤسسات والدواوين وألأنظمة للإشراف على تنفيذ أعماله الإصلاحية. وانظر كيف غدا حالها اليوم وهي مع الاسف الشديد الأقل نظافة والأسوء عيشا والأقل أمنا بين عواصم العالم ، وفق ماتنشره التقارير الدولية.
اصلح الشؤون المالية بعد أن كان هنالك هدر كبير للمال العام من قبل البرامكة المتنفذين في الدولة. وضبط مصادر الدخل وسعى لتحقيق العدالة في الانفاق، والعدالة في التوزيع، والتخفيف من التبعات المالية على المواطنين من خلال وضع الأنظمة والتشريعات وخاصةً تلك النظم والقوانين التي وضعها له القاضي أبو يوسف فيما عرف بكتاب الخراج ( والخراج اهم مصدر لرفد ميزانية الدولة والذي يعتبر بمثابة الناتج النفطي في الميزانية الحالية) كي تكون تلك النظم منهجا للرشيد في التعامل مع مصالح المواطنين واقواتهم وتوزيع الثروة بدون ظلم ولا محاباة. كما قام أيضًا بتشجيع التبادل التجاري بين الولايات ووفر قوات الحراسة لطرق الحج والتجارة، ووضع علامات الارشاد والمسافات على الطرق، وبناء ألإستراحات والسرادقات المؤثثة وتجهيزها بمستلزمات الراحة من ماء وطعام وعلف للدواب على طول طرق القوافل وعابري السبيل.

اعتنى الرشيد أيضًا بالزراعة، فبنى الجسور والقناطر الكبيرة، وحفر الترع والجداول الموصلة بين الأنهار لأغراض إروائية وانمائية. واصبحت الناس تأكل مما تنتج. وأمر باعداد الدراسات لمشروع ربط البحر الأبيض المتوسط بالبحر الأحمر، وحال دون تنفيذ الفكرة انشغاله برد اعتداء الروم البيزنطيين على دولة الخلافة. وهذا المشروع هو مايعرف اليوم بقناة السويس، والذي استطاع دي لسبس الفرنسي بعد اكثر من الف سنة على وفاة هارون الرشيد، وتحديداً في عام 1854م إستطاع إقناع محمد سعيد باشا (والي مصرمن قبل العثمانيين) بالمشروع، وحصل على موافقة الباب العالي (السلطان العثماني) على التنفيذ، وتم حفر القناة. وانما الفضل للرشيد وعلماءه الذين هم اصحاب الفكرة الاصلية.
كانت السيدة زبيدة زوج الخليفة هارون الرشيد تتساوق معه في رعاية المواطنين، ودعم المشاريع الخيرية والخدمية. وما عين ماء السيدة زبيدة الاسطورية العجيبة لسقيا الحجيج في مكة ولسقيى قاطني المناطق القريبة من هذه القناة بالماء العذب، والتي مازالت معالمها موجودة الآن، الّا كشاهد على عظمة وروعة ذلك الانجاز، في منطقة تشح فيها المياه العذبة. وقد أنفقت السيدة زبيدة الكثير من أموالها وجواهرها لتنفيذ هذا المشروع. وأمرت خازن أموالها بتكليف أمهر المهندسين والعمال لإنشاء هذه العين، وحين أخبرها خازن أموالها بعظم التكاليف التي سوف يكلفها هذا المشروع، قالت له: (اعمل ولو كلفتك ضربة الفأس دينارًا)، فكانت طرازاً هندسيًا بالغ التعقيد والدقة والروعة تجري مياهها وفق نظام هندسي وبإنسيابية ليصل طبيعيا إلى مكة، دون آلات ضخ أو رفع، لمسافة تقدر بنحو 41 كيلو مترًا، وتمر في أرض وعرة قاحلة هي جبال وبطاح ووديان. فارتوى الحجيج وأهل تلك المناطق، وذهبت عنهم غائلة العطش. فهل توفرت المياه العذبة اليوم لمواطني العاصمة بغداد وضواحيها رغم وجود النهرين! ناهيك من الحديث عن عطش البصرة وباقي المحافظات؟!!.
أمّا في المجال العسكري والأمني، ومن أجل ان ينعم الناس في أمان وسلام في عيشهم، فقد نجح الرشيد في أخماد الثورات كثورات الخوارج (وهم دواعش الماضي) وهذه لوحدها كافية للاشادة به وتقليده وسام النصر كما يفعل اليوم لمن ينتصرعلى الدواعش فتعد هذه اعظم مميزاته. وانهى الفتن الداخلية القبلية والسياسية والصراعات على السلطة والتي كانت تهدد باسقاط الخلافة العباسية.
حصّن الثغور بطرق مستحدثة غير مسبوقة، وبحاميات كبيرة، وخاصة عند الجبهة الشمالية في مواجهة بلاد الروم (العدو التقليدي). ووضع الأسوار، وبنى القلاع والحصون، وقوّى عناصر الجيش لتكون الدولة بأتم الإستعداد لمواجهة التحديات الخارجية ان لزم الأمر، وفي الواقع ألعملياتي وعند المواجهة، وبحزم وعزم، هزم الروم البيزنطيين الذين كانوا يتربصون على الحدود الشمالية للدولة. ومن هنا استحق بجدارة لقب الرشيد الى ابد الدهر لأنه جعل البلد آمناً مستقرًا. ورسالته الى نقفور ملك الروم ونعته بكلب الروم تشهد على مدى قوته وحزمه وعزيمته، فقد كان الرشيد ممن يتبع القول بالفعل، فجعل نقفور الذي خرق اتفاق الصلح مع المسلمين، يخضع صاغرا مجددَاً، ويؤدي ضريبة خرقه اتفاق الصلح.
انشأ هارون الرشيد داراً (مصنعاً) لصناعة السفن، وبعث النشاط في الإسطول الأسلامي، ليكون على اتم الإستعداد لردع الإسطول الروماني العريق بحريا، ولضمان حرية الملاحة في البحر الابيض المتوسط، الذي تطل عليه دولة السلام من معظم سواحله في الجهات الأربع. وقارن وتأمل هذا النفوذ في عهد الرشيد مع ماهو حاصل اليوم وفق ما جاء في التقرير الميداني الذي بثته قناة السومرية في برنامج (رحّال) يوم 29/12/2018م. عن شكاوى صيادي السمك البسطاء في الزبير، وما يعانونه من تقييد ومعاناة وأذلال ومنع من الصيد، من قبل الدول المجاورة. ليس منعهم من الصيد في الخليج العربي الذي للعراق حق فيه كبير، بل حتى في شط العرب، وفي القسم التابع للعراق المشاطئ للسواحل العراقية!!. انظر رابط التقرير:
https://www.alsumaria.tv/program/662/alsumaria-programs/14156/Episodes/alsumaria-episodes
مع حرص الرشيد على السلام مع جيرانه المتربصين به المحاددين له، اهتم بذات الوقت بالعلاقات السياسية والتجارية الدولية مع اوربا والصين واليابان وغيرها من البلدان. وتعددت الوفود القادمة الى بغداد والمنطلقة منها. وتطورت العلاقات الدبلوماسية، والهدايا المتبادلة خاصة مع شارلمان ملك الفرنجة، وقصة الفيل الأبيض الضخم، والساعة الميكانيكية المائية العجيبة المصنوعة من النحاس الأصفر التي اهداها الى شارلمان وظنتها حاشية الملك شارلمان انها من السحر او أن فيها شيطانًا فحطموها، لهي خير نموذج يشهد على اهتمامه بالعلاقات الدولية وترسيخها. فالرشيد ليس داعية حرب، وانما يستجيب للسلام ما وسعه الدين الاسلامي على الإستجابة.
غدت بغداد وبلاط الخليفة، مقصد ومهوى الافئدة، ومبتغى قادة وملوك الامم الاخرى يتقاطرون لخطب ود ورضى الخليفة. (فالقائد الحكيم العادل القوي يُخطب ودّه ويفرض احترامه على الآخرين) عاشت بغداد في نموٍ وانتعاش اقتصادي، ودخل مرتفع، مدينة لا تدانيها مدينة في العز والترف والمنعة. هي جوهرة الدنيا وايقونة العالم ومركز تجاري لكل البضائع. مدينة هي العالم الاول عصرية قوية مرفهة. ولكل هذه الانجازات على ارض الواقع وغيرها كثير مما حدث في عهد الرشيد، استحق هارون الرشيد هذه الشهرة والعظمة وان تسمى بغداد بكل الفخر مدينة الرشيد، وان يتسمى بأسم (الرشيد) كل شيء جميل وحضاري وخدمي في هذا البلد العظيم من: مسرح، سينما،حي سكني، مصرف، مستشفى، شارع، ناحية، مجمّع سكني، معسكر، فندق، جامعة، مركز أبحاث،علوة، مسبح، نادي رياضي، متجر، مطار، ساحة، ملعب، ومتنزه ….
عاصمة الرشيد، التي اشاد بها الغرب والشرق، في مصادرهم القديمة، ومجدها الرحالة والمؤرخون العرب والمسلمون، وتغنى بنسبتها الى الرشيد الشعراء في القديم والحديث، اليوم هنالك من يعتبر نسبتها الى الرشيد (وصمة عار) وقائل هذه العبارة وللاسف الشديد برلماني (ممثل للشعب) من حزب الفضيلة وليته أنصف ما للأخرين من فضيلة. قال بذلك تحت قبة البرلمان يوم 17/9/2018م.
مالذي يمكن أن يقدمه الرشيد أكثر مما قدمه، وغاب عنه ولم يقدمه. وكل ما تقدم انما هو جزء من فضائله وانجازاته. وبغداد إنما حضيت بالنصيب الاعظم من الشهرة والمجد الدولي في عهده، بما لم تحظ به من قبله ولا من بعده. فكيف يكون وصمة عار، وهو الذي رفع اسم الاسلام والمسلمين بين الأمم بجهده وجهاده. وهل ينبغي ألآن على العراقي والبغدادي بوجه خاص، ان يتخلى عن الفخر بتاريخ بغداد ومعظم الفخر من تلك الحقبة. وان يشعر بالصغار تاريخيا وشعوريا، لإنتسابه لمدينة ارتبط اسمها (بالرشيد)، أعظم خلفاء بني العباس طُرّاً.
الغريب أن كل أمم ألأرض تفخر بقادتها وابطالها وتاريخها على مافيه من شوائب وظلم ونكسات، فلماذا نحن المسلمون نسقط وبأيدينا، قادتنا وعظمائنا وتاريخنا (وهو تاريخ مشرق) ولمصلحة من؟. هل هنالك خليفة او ملك او قائد جيش اوسلطان على امتداد التاريخ الاسلامي لم يسلم من السب واللعن والطعن والتجريح من قطاع كبير من المسلمين. بدءًا من ابي بكر الصديق (رضي الله عنه) وانتهاءً بآخر السلاطين العثمانيين (رحمهم الله). من المستفيد من كل ذلك؟
لا أحد ينكر ان هارون الرشيد له مثالب وسيئات، وهو الذي حكم أكبر دولة، ترامت اطرافها وتعددت وتنوعت الاعراق واللغات والاديان والتضاريس فيها. ثُمّ بحكم الظرف الذي جاء فيه، فقد كان ظرفاًعاصفا بالثورات والفتن السياسية. ولذا كان لامناص من الوقوع في الأخطاء. ولكن الفرق ان سيئاته ومثالبه، يطميها بحر حسناته وانجازاته للصالح العام، وتوفيره للأمن والاستقرار والسيادة الكاملة للبلاد.
اما مايؤخذ على الرشيد ويشنّع به علية ، فهو الزعم بانه قاتل أئمة أهل البيت!، فهذا الموضوع له حديث آخر يأتي لاحقًا. وكذلك قضية ما يسمى نكبة البرامكة.
ويبقى السؤال: هل حقًا ان لقب (بغداد الرشيد) هو (وصمة عار) تلحق بغداد. فإن كنا قد إكتشفنا ألآن انها وصمة عار!!، فاين نذهب بكل ما خطه الرحالة والمؤرخون والشعراء والمغنون والمنشدون تباهيًا في بغداد الرشيد؟. أين يمكن ان نخفي ونطمر كل هذا التراث ونغض الطرف عنه ؟، وكيف نطمسه وهوحقيقة تاريخية؟. هل نخدع ضمائرنا، وحقائق التاريخ ونسفّه كل أولئك الذين كتبوا وتغنّوا، ووصفوا ماشاهدوا بأم أعينهم؟. هذا مُحال.
بغداد (الرشيد) حقيقة تاريخية، ولا يمكن طمسها او انكارها لمجرد اتهام أو ادعاء لايقوم عليه دليل تاريخي صحيح. ثم ماهو رأي امانة بغداد والمعنيين بالثقافة والآثار والمفكرون والتراثيون، والبغداديون الذين اختلطت بغداد الرشيد بأرواحهم وأنفسهم عشقًا وغدت جزءً من كيانهم وفخرهم، في مثل هذه المقولة؟.
ستعود بغداد إن شاء الله الى ألقها وريادتها. لقد جعل هارون الرشيد دولة الإسلام وعاصمتها بغداد تتألق وتعيش عصرها ألذهبي، حتى اُسبغت عليها أجمل ألأوصاف، وكان أحدها وأجَلّها لقب الخليفة ذاته، تكريمًا للمكانة التي وصلت اليها في عهده. فكانت لفظة (بغداد الرشيد) متلازمة تأريخية باقية مابقيت بغداد. كانت الأزهى والأجمل والأعلى تطورا ومكانةً، في ظل حكم رشيد انجزه (الرشيد) في 23 عاما فقط. وتامل حاضرها اليوم في ظل حكومات وبرلمانات غاب عنها (الرشيد)، مع توفر الطاقات والارقام الخيالية لمليارات الدولارات المهدورة.