في قرية نسيتها الخرائط ولم تنسها بيوت كان قد نثرها أجداد أصحابها بين شجيرات توسطها جبل يغير ملبسه مرتين كل عام، فتراه مرة يبلس ثوبا أبيض اللون كبياض الغيمتين التي لم تفارقا منكبيه، وأخرى يقف فيها مغازلا صبايا القرية بثوب زهري مائل للخضرة.
تصابى الشيخ! قالها الفتيان غيرةً من الجبل، سمعهم صاحب الحانوت الوحيد في القرية فهمّ أن يقول بأنّ الجبل ليس شيخا فكل ما لا يحكمه الزمن صار حرا من قيده، ولكنه تذكر بأن الجدال مع من تدفعه شهوته لا يورث الا وجع الرأس والجبل يسمع ويسخر ويلبس ما يريد.
في الحانوت القديم، تاجر يمضي وآخر يأتي، طفل يشتري الحلوى وامرأة تتذمر من ارتفاع ثمن الرز وصوت رجل يطلب بعض تبغ تزرعه قرية مجاورة، وشيخ قاعد على الكرسي الوحيد، حتى كأنك تظنه بعض اثاثه، تلفه عباءة أهداها له ولده بعد أن رجع من مكة، وولده هذا كان قد استشهد في معركة اذ اصابته قذيفة مدفع انطلقت من ثكنة عسكرية علت جبلا مجاورا، وصاحب الحانوت واقف مسمّر كعصا الشيخ يدور حوله كل شيء، يكبر الطفل فيطلب التبغ ويشيخ الرجل فيأخذ مكان الشيخ على نفس الكرسي القديم فشيخنا قد مات و تصير المرأة عجوزا فترسل ابنتها لتشتري نفس الرز وتتذمر من ارتفاع الأسعار كأمها فيقطع صوت تذمرها طفلها مشيرا الى نفس الحلوى التي طلبها طالب التبغ عندما كان طفلا.
” كما بدانا أول خلق نعيده “.
سأل الفتى نفسه يوما، بماذا يفكر ثور الساقية؟ فكلنا ندور شئنا ام أبينا، ولكنّا، على الأقل، ندعي أننا نفكر فيما نفعله في دورة حياتنا. الثور لا يفكر فهو يدور مذ ان كنت صغيرا، ماذا ان فكر فتوقف عن الدوران؟ أو ربما فكر فاستمر. لا أدري، قالها الفتى واستمر في دورانه، وصاحب الحانوت الذي يرتدي البياض والسواد دائما يسمع ويرى.
التجاعيد نياشين تحمل بين طياتها ما تنوء به العصبة أولي القوة ولكنك لا تجد أثرها على وجه صاحب الحانوت الذي تشرق الشمس بين يدي باب حانوته وتغرب في ظهره، نبع ماء عن يمينه، وأشجار جوز ورمان عن شماله، فكأنّ حانوته دولة عظمى، تأكل مما تزرع وتلبس مما تصنع والقول ما قالت وغيرها يسمع.
يقول جارد دايموند في كتابه الصادر بالإنكليزية والذي ترجمة عنوانه: (السلاح، الجراثيم والحديد الصلب) Guns, germs and steelالصادر في تسعينيات القرن الماضي والذي استعرض فيه الأسباب التي شكلت عالمنا كما نراه بأن السبب الرئيس لتقدم الأمم هو قدرتها على انتاج غذائها وسبب تأخر قارة كأفريقيا مثلا، هو غناها وتنوع طبيعتها ومصادر غذائها الذي جعل سكانها يأكلون مما تنبت الأرض حلالا طيبا بغير جهد منهم، يقابله تفوق سكان قارة أوربا الفقيرة نسبيا والذي دفعهم الى العمل والاجتهاد، وأنّ الظروف التي توفرت في وادي الرافدين قبل الاف السنين وقادت الى تفوقه لا تتوفر على ارضه حاليا، ومَثَـلُ النفط المكتشف كمَثَـل جملة اعتراضية من سطر أو سطرين في رواية عظيمة الحجم مازال التاريخ يكتبها، ويقول المؤلف في كتابه الذي صدر مؤخرا والذي ترجمة عنوانه: الازمات أو التحديات (Upheavals) بأنّ الولايات المتحدة الامريكية تحتل المركز الأول بإنتاج وتصدير الغذاء.
“فهلْ من مدّكِر”.
صاحب الحانوت لا يشيخ…ولم يحدث ان انتبه اهل القرية الى ذلك، فتعوّدُ الحواسِ الشيء يخدّرها، ” أمْ على قلوبٍ أقفالُـها “، الا ساكن المغارة التي في قلب الجبل، اذ كان كاُخت موسى لمّا بَصُرَتْ بـه عن جُنُبٍ وهم لا يشعرون.
كشجرة سرو ممشوقة القوام، يلاعب ليلَ شعرها الحمام، وتطرب لوقع اقدامها الأنام، تسد الشمس فتحجبها وتأذن للنسيمِ الذي خطف قلب الفتى، تلاقت العينان لثوان بدت كالمواويل، فمدت السروة جذورها في قلبه فنطقت القلوب بلا حروف، فتمّ الكلام بلا كلام.
تقدم لخطبتها وقبل موعد زواجهما ماتت، هكذا بلا سبب، فالموت بلا أسباب هو السبب كما قال الشاعر، فهام على وجهه وقصد الجبل فسكن المغارة، ولانّ كل حيّ ميّت، أحبَّ الحيَّ الذي لا يموت.
هو المشهور وأنا المغمور، هو الساقي وأنا الثمل، طوبى لمن ذاق فعرف فَثَـقُـلَ رأسُـه فوصل ركبتيه، فالركبتان مدرسة العارفين. إذا نام الراعي يطمئن الذئب، وإذا نام القلب الذي هو في مقام الراعي تبعت الحواس هواها، وآفة الرأي الهوى، وهذا علة الاختلاف.
يقول الكبير أمجد توفيق بانّ السؤال سيف والاجابة غمد، السؤال نار والإجابة ماء، وذكر الشيخ الأكبر ابن عربي في رسالة (ما لا يعول عليه) بأنّ كل عشق يسكن باللقاء لا يعوّل عليه، وبالقياس أقول بأنّ السؤال يصبح عظيما إذا كان بلا إجابه، وهنا يقول مولانا الرومي: واطلب الجواب أيها المرتضى من نفس المكان الذي جاءك منه السؤال، وكل من حجابه من العقل والوهم يكون أحيانا محجوبا وأحيانا ممزق الجيب، فبع العقل والفضل واشتري الحيرة.
أن يكون الوهم حجابا فهذا أمر يمكن أن تقبله، ولكن هل تقبل بأن يكون العقل حجابا؟ العقل مرهون بالمنطق والمنطق محكوم بما تفهم من قوانين، وهنا أسأل ماذا عمّا لا تفهم أو لا تدري بوجوده أصلا؟ فذلك الطاووس العابد القديم حكّم العقل والمنطق أمام المليك ” قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين” فعقله ” أبى واستكبر” وكانت النتيجة ما تعرفونه. وهنا يصبح العقل حجابا. ” كلا لا تطعه واسجد واقترب”.
سكان القرية يدورون، ويضحكون على دوران ثور الساقية، أصحاب التلمود ورب الجنود يدورون ولا ينسون، فبعد ان كانت نارهم مجازا صارت عيانا يراها أصحاب القرية التي أصبحت تمشي كالمسيح في طريق الالام تُقذف بالشر من كل جانب. ذهب صاحب الحانوت الى مغارة العارف فوجده بانتظاره، أرأيت ما حصل في قريتك؟ فأجاب: “وما قتلوه وما صلبوه” وأنت أعرف مني بذلك، فعلم صاحب الحانوت بان ساكن المغارة قد عرف من يكون.
هو ذاكرتك وذاكرة شعبك التي لا تموت..
هو هويتك التي يسلبونها منك يوما بعد يوم عبثا، فصاحب الحانوت لا يموت..
شمسك تطلع على النهر فيصير ذهبيا، وشمسهم تغيب في المحيط فيصير دمويا..
وتذكر يا صديقي بان من ساند عدوك لم تنفعه مساندته ومن وقف على الحياد لم يشفع له حياده، فالعدو لا يفرق بين من يقاومه وبين من يساومه.. فارفع صاحب الحانوت علما سمّه الهوية، دونها الدنية، واجعل سلاحك لا شعرا ونثرا لا مجازا وتورية ولا تقيّة، لا مؤتمرا في محطة فضائية، اجعله ولو حجرا في كف حر من ورائه نفس أبية، تدور كدورة الصوفي بلا حجاب يفخر بها صاحب الحانوت فيكتبها ملحمة باللغة العربية.