طوت سيارة التكسي تحت عجلاتها الامريكية الصنع عشرات الكيلومترات وهي تتجه مسرعة الى المأوى الجديد…كانت تمر من النافذة مساحات صحراوية شاسعة خالية تقريبا إلا من بعض الاشجار الهزيلة التي توزعت هنا وهناك..كأحجار منهكة في لعبة شطرنج بلغت نهايتها…ونباتات صغيرة لم استطع ان اميز لونها الحقيقي ونحن ننطلق بسرعة 150 كيلومترا في الساعة…في تلك اللحظة وانا استنشق مخلفات احتراق البنزين المستورد واستمع الى ازيز الرياح الذي يقتحم علينا السيارة من فتحات صغيرة نجهلها…تبادرت الى ذهني كل المعلومات الجغرافية
التي درسناها في المدرسة…وتذكرت خارطة العراق..وكيف كانت تبدو المدن فيها كنقاط متجاورة…حتى اننا لم نكن نستطيع كتابة اسم محافظة ما على الخارطة دون التجاوز على حدود المحافظة المجاورة……رغم زعمي بأني كنت افهم مايعنيه مقياس الخريطة ولكني في ذلك اليوم فقط..ادركت كنه المسافات…..
كان الطريق يعج بالعديد من العجلات الكبيرة..المحملة بالنفط او الرمل والاسمنت من والى الاقليم..بينما تناثرت سيارات التكسي شبيهاتنا هنا وهناك تقل عوائل خمنت بأنها مهاجرة ايضا..فلم يكن الموسم في شهر كانون الثاني ملائما للاصطياف اطلاقا…راقبت المسافرين وهم يتجاوزونا او نتجاوزهم…
نزوح صامت…جامد….غلف وجوههم في ذلك اليوم الكانوني…..خلال اللحظات القليلة التي التقت فيها
اعيننا….سمعت شكواهم….وادركت مكامن قلقهم……… ..هل سيلحق بنا امجد……ترى ماذا تفعل امي الآن……سأتصل بوالدي واطمأنه ..حال وصولي……..هل جننت حتى اجزم بأنني سمعت افكارهم …..لا ادري…..ربما توحد احساسسنا وتشابهه هو ما ساقني الى هذا الشعور…
بعد اربع ساعات من الدوي والبنزين والازيز..لاحت على البعد التلال الخضراء… التي تحولت تدريجيا الى جبال مغطاة بالثلوج..فعلمنا وقتئذ بأننا قد وصلنا حدود الاقليم……
ابتدأت المنازل تملأ المساحات الخاوية..وتزداد كثافة كلما اقتربنا اكثر من المدينة..بينما تتناقص الحقول الخضراء بشكل ملحوظ…….كنت اراقب نمو المستوطنات الانسانية بذهول…حيث تبدأ بقرية ثم ناحية ثم قضاء…ومع هذه المسميات…تزداد الدور عددا بل وتختلف في بنيانها ايضا فهي تتحول من
منازل واسعة افقية الى اخرى عمودية تشابه الى حد بعيد النوع الذي الفناه في مدينتنا…
كان اولادي قد ابتدأوا يتذمرون من طول الطريق..بينما احاول انا بنفاذ صبر الهائهم….في الوقت الذي لم اكن اشعر فيه بقدمي من شدة البرد اولا ومن الخدر الذي اصابها بفعل حقائبنا التي احتلت نصف السيارة ونحن نتجه الى محطتنا البعيدة.
واخيرا لاحت المدينة الزاهية……لؤلؤة الجبل….لايمكن لأي وصف ان يصل الى الروعة التي بدت فيها تلك المدينة يومها….كانت الجبال تحيطها من كل جانب.. فتبدو وكأنها اذرع لأم حانية تحتضن صغيرها….تلك كانت السليمانية …مدينة غلفها الضباب في ذلك اليوم الشتائي البارد…وقتئذ فقط….استشعرت بالأمان….ذلك الاحساس الذي غادرني لأشهر عديدة……تذوقت طعمه اليوم..