اذا جاز لنا اقتباس مقولة جابر عصفور في كتابه زمن الرواية: “أصبح زمننا العربي إبداعياً زمن الرواية، حتى وصف البعض الرواية العربية بديوان العرب المحدثين” .. فهل نستطيع القول -بغض النظر عن مدى الاتفاق او الاختلاف مع عصفور-إن زمننا العربي إعلاميا أصبح زمن الأنترنت والتواصل الاجتماعي وان هذه الوسائل الحديثة السريعة أصبحت (ديوان الأعلام العربي) ؟!
وهل انتهى زمن الصحافة الورقية أو شارف على الانتهاء؟! سؤال عريض يفرض نفسه على واقع الصحافة العربية التي باتت تعاني اليوم أكبر (ازمة وجود) عرفتها في تأريخها وهي ازمة في جانبها الأكبر يتصل بمسألة التمويل الذي غابت معطياته المادية عن صحف عريقة، فحاولت البقاء متشبثة بحلول مؤقتة، غير انها استسلمت أخيراً واتخذت القرار الصعب وتوقفت عن الصدور! وهل للموضوع صلات أخرى ينفتح على (هوية) تلك الصحافة في ظل الاستقطاب الذي سنورد تفاصيله، فضلاً عن تأثير (صحافة) المواقع الالكترونية والسوشال ميديا (التواصل الاجتماعي) وما باتت توفره من معلومة سريعة بغض النظر عن مستوى ومهنية تلك الوسائل.
ازمة غير مسبوقة
الازمة باتت الهاجس الأكبر للصحفيين في مصر ولبنان ودول الخليج وهي الدول التي عرفت بعراقتها الإعلامية فهل هي ازمة تمويل فقط أم ان الامر يتعلق بهذا الفضاء المعلوماتي الهائل الذي فرضته الثورة التكنولوجية عبر الشبكة العنكبوتية لتحجم من مساحة الاهتمام بالصحافة الورقية؟
مراقبون ذهبوا الى ان انحسار المال السياسي عن الكثير من الساحات الإعلامية قد القى بظلاله الكثيفة على واقع الصحافة التي فقدت الرافد الأكبر لتمويلها في زمن تعصف به أزمة مالية كبرى فتوقفت صحف عريقة بعد ان وجدت نفسها في وضع لا تحسد عليه فيما عمدت صحف أخرى الى حلول جراحية صعبة فسرحت اعداداً كبيرة من كوادرها وقلّصت صفحاتها في محاولة منها لتمديد عمر مقاومتها لما بات يتهددها بالموت ولو بعد حين.
الازمة الخانقة التي اجتاحت بتداعياتها العالم وكانت ارهاصاتها واضحة في الدول العربية يبدو جلياً ارتباطها المباشر بما بات يعرف بالأزمة المالية العالمية التي انحسرت جراءها الكثير من نشاطات القطاعات، وكان للصحافة لا سيما الورقية منها حصة لا يستهان بمساحتها.
التحدي وعلاج الكي
بسبب هذه الازمة، والتدني الخطير توزيع نسخها الورقية، اتخذت صحفٌ عالمية، مثل “الإندبندنت” البريطانية، قراراً موجعا بالاكتفاء بالتواصل مع جمهورها عبر موقعها الإلكتروني، والتوقف عن اصدار الصحيفة الورقية، ويبدو ان علاج الكي المتمثل بإيقاف الإصدار الورقي لصحفٍ كبرى في العالم هو توجه مستقبلي للكثير من تلك المؤسسات والصحف لا محالة!
في الوطن العربي، تمظهرت هذه الازمة في لبنان والعراق ودول الخليج ومصر والمغرب العربي حيث يبرز المال السياسي هنا كعامل رئيسي في ديمومة هذه الصحف اما الاعلانات والمبيعات وحتى الاشتراكات فهي عامل مساعد في ضوء حالة التراجع الاقتصادي التي اجتاحت دولا عدة فعمدت الى إجراءات تقشفية كان من جملتها انحسار المال السياسي للصحافة وصولا لقطعه عن صحف معروفة!
صحف معروفة اعتادت على استحصال المال (المريح) عبر قنوات الدعم السياسي وجدت نفسها في وضع ترثى له بسبب انقطاع ذلك المورد! فواجهت بشكل أكبر معضلة قلة الإعلانات، وانحسار الاشتراكات، التي ما كانت لتشكو منها سابقا للسبب المعروف! ومما زاد الطين بلة ان تلك الصحف لم تبذل جهداً كبيراً لاستثمار ما تحصلت عليه من مال ابان الوفرة التي عاشتها قبل سنوات، في اجتراح روافد وحلول أخرى لا مجال للخوض في تفصيلاتها الان لتكون رئة مالية تتنفس من خلالها لتساعدها في التجاوز الآني لا اقل لأزماتها المالية، مكتفية بالإصدار إلكترونياً، من دون ترقية مواقعها، والتعاطي معها بما تستحق من اهتمام لتواكب الانتشار الهائل لـ (صحافة السوشال الميديا) ومعطياتها الميسرة المغرية والتي تمثل وجبات إعلامية خفيفة ومغرية للجمهور والشباب منه على وجه الخصوص.
التمويل مشكلتنا الاساسية
إذن المشكلة الأساسية هي التمويل، مما جعل الكثير من الصحف مرتهنة بما يملى عليها من أجندات خادمة لـ (السادة) الممولين وربما استطاعت صحف معروفة من خلق موازنة وفقت فيها الى حدود مقبولة في المقاربة بين طرح الحدود الدنيا من املاءات الممولين والحرص على صياغة خطاب إعلامي فيه مقدار من الحصافة بحيث لا تهوي في مزالق الجهات الممولة ولعل تجربة جريدة السفير اللبنانية خير مثال فاستطاعت فرض خطابها المتزن المهني رغم ضغط عامل الاستقطاب من قبل الممول لذا نجحت السفير لتكون منبرا للكثير من الأقلام العربية الرصينة والمؤثرة ، في حين كانت التجربة تختلف في العراق ودول خليجية أخرى فقد فرضت حالة الاستقطابٍ التي عشناها في السنوات الأخيرة، بحيث تحوّلت تلك الصحف والوسائل الاعلامية إلى مضخات تعبوية للتحشيد السياسي والطائفي، وتفاوت ذلك حسب هوى ونزعة الممول التي غالباً ما تكون أنظمة أو أحزاب متنفذة أو رجال اعمال معروفين !
هي معادلة تنطوي على الكثير من الصعوبة والتعقيد: الحصول على تمويلٍ كاف، والحفاظ على مقدار من الاستقلال، هو أمر ليس من السهل تحقيقه، لوجود الكثير من التابوات وما يعرف بـ (الخطوط الحمر) فلم تعد الصحف في وارد القدرة على مقاربة ملفاتٍ معروفة، جراء القيود الثقيلة التي تكبِّل وسائل الإعلام وأدت الى تراجع مصداقيتها !
السفير أول الغيث!
خبر توقف جريدة السفير اللبنانية، وما ينطوي عليه من دلالات صادمة لا يزال يتفاعل بارتدادات تلاحق صحف أخرى ويبدو انها عمدت للحيلولة دون الوصول لنفس المصير الى اسلوب صرف العاملين والتقليص الكبير للصفحات وتأخير الرواتب لضمان استمرارها ما استطاعت الى ذلك سبيلا ، وهو الامر الذي لم يعد يضمنه أحد ! ، وهو ما عبر عنه رئيس تحرير صحيفة “اللواء” صلاح سلام بالتشاؤم الذي يحيط بمستقبل الصحافة الورقية في لبنان، التي يراها سلام في “مسيرة تراجعية منذ الحرب الأهلية حتى اليوم”، منتقداً “دور الدولة اللبنانية في عدم تقديم الدعم المطلوب” لهذا القطاع الحيوي الذي يمثل جزءا مهما من ذاكرة لبنان والعرب، الإعلانات تراجعت بشكل خطير والكوادر لم تعد آمنة على مستقبلها المعيشي والبعض هاجر الى الصحف الخليجية !
فالإعلانات التي هجرت الصحافة، وانحسر مردود الصحافة الورقية منها، وقد كشفت أستاذة الإعلام في الجامعة العربية الدكتورة ايمان عليوان في بحث لها “أنه على المستوى العالمي احتكر موقع فيسبوك ومحرك البحث غوغل حوالي 98% من سوق الإعلانات الالكترونية”.
علما ان مداخيل الصحف الورقية اللبنانية قبل الأزمة لم تكن متأتية من الإعلانات او من بيع الجرائد أو من الاشتراكات، بل أساسا من الدعم التي تتلقاه بعض العناوين من رجال السياسة والأحزاب مقابل دعمهم والتسويق لهم إعلاميا.
التهديد وجرس الانذار
الأمر الذي جعل إلياس خوري يدق جرس الإنذار محذرا “هل يمكن أن نتصوَّر لبنان بلا صحافة وهو البلد الذي كان رمزاً للنهضة الصحافية في العالم العربي؟”
ويبدو ان طلال سليمان صاحب جريدة السفير كما ذهب مراقبون اعلاميون في بيروت أراد أن يجنب جريدته من أن يحل بها ما حل بدار الصياد العملاقة التي تراجعت مبيعاتها بموت سعيد فريحه، ونفس المصير الذي عاشته الحوادث وعناوين أخرى إذ بدت مسألة بقاء تلك الصحف مرتبطة بحياة مؤسسيها فتولد الصحيفة على يده وتموت بوفاته، وبعدئذ يصبح فريق وكوادر تلك الصحف في حال لا حول ولا قوة لهم فيها سوى التحسر!،
جريدة النهار العريقة هي الأخرى تعاني أزمة مالية خانقة منذ سنتين الامر الذي جعلها تبادر الى تسريح العشرات من صحافييها لمواجهة الازمة، الامر ذاته ينسحب على جريدة المستقبل وغيرها كما عاش الموظفون في مكاتب جريدة «الحياة» اللندنية في بيروت في وقت سابق حالة ضبابية بشأن مستقبلهم، وخاصة بعد استقالة رئيس التحرير غسان شربل وانتقاله إلى «الشرق الأوسط». وكانت الصحيفة قد خططت لعملية دمج مع «لها» التابعة لها بعدما أن عينت فاديا فهد رئيسة تحرير المجلة، وانتشرت في حينه أخبار عن إقفال مكتبي بيروت ولندن وتعزيز مكتب دبي. لكن المسؤولون عن الصحيفة، قرروا الاستمرار بعمل المكاتب في 2017 على مضض.
عراقة الصحافة اللبنانية
المتابع للصحافة اللبنانية يدرك بأنها كانت تمثل الثقل الأكبر في مسيرة الصحافة العربية وما تمر به اليوم من ازمة يرسم الكثير من علامات التعجب والألم، يؤكد محمد فرحات، مدير تحرير صحيفة “الحياة” الصادرة من لندن، ان “ازمة الصحافة اللبنانية جزء من ازمة لبنان، وحياة الصحافة نابعة من السياسة، وفي حال ماتت السياسة ماتت الصحافة”.
ويقول طلال سلمان، مؤسس ورئيس تحرير “السفير ” التي تأسست عام 1974، قبل عام واحد من بدء الحرب الاهلية (1975-1990) :
“لم تمر الصحافة في لبنان الذي لطالما كان رائدا على الساحة الاعلامية العربية، بأزمة بهذه الشدة من قبل. انها اسوأ الازمات على الاطلاق”.
ويوضح الاستاذ في كلية الاعلام في الجامعة اللبنانية احمد زين الدين “الصحافة العربية عموما واللبنانية تحديدا ليست صحافة جمهور ولكنها صحافة تمويل. ، تقوم على التمويل الذي يأتي من جهات سياسية او اقتصادية ودول اخرى”.
الأزمة لم تقتصر على الصحافة الورقية بل امتدت بزعانفها للصحافة المرئية (الفضائيات) فمنذ حوالى عامين، تواجه صحيفة “المستقبل” وتلفزيون “المستقبل” صعوبات جمة في تسديد رواتب موظفيهم.
وسرحت محطات فضائية أخرى العديد من منتسبيها لمواجهة تلك الأزمة.
تراجع المال السياسي
عميد كلية الاعلام في الجامعة اللبنانية جورج صدقة يرى ان احد اهم اسباب ازمة الصحافة اليوم يكمن في “تراجع المال السياسي والدعم من الانظمة العربية الذين كانوا يمولون قسما كبيرا من الاعلام اللبناني و كانت ليبيا والعراق وسوريا والسعودية وقطر من ابرز الجهات الممولة للصحافة اللبنانية.
ويضيف صدقة “فقد الاعلام اللبناني تأثيره وتراجعت سلطته ما يعني تراجع الفائدة منه بالنسبة للأنظمة العربية التي كانت تموله”، فهي لم تعد بحاجة الى وسيلة لبنانية لتمرير رسائلها بل تعمد مباشرة الى تمويل وسائل خاصة بها. ويقول رئيس المنظمة الدولية للإعلان – فرع لبنان ناجي عيراني لوكالة “فرانس برس” ان شركات الاعلان باتت تدرك ان “اهتمام اللبنانيين بالصحف والمجلات التقليدية تراجع لصالح وسائل التواصل الاجتماعي او حتى التلفزيون”. ووفق شركة ابسوس لأبحاث الاسواق، تراجعت الاعلانات في الصحف اللبنانية كثيراً
ووصف الكاتب الصحفي اللبناني أحمد ياسين ازمة الصحافة الورقية وتوقف السفير بالأمر الحزين»، في حين اقترح آخرون أن تتجه الصحافة إلى الصدور بموقع إلكتروني مطور على طريقة مجلة Newsweek الأمريكية التي أوقفت طبعتها الورقية واتجهت إلى الإنترنت.
فيما أفادت الكاتبة زكية الديراني “ان الأفق بدا مسدوداً بالنسبة إلى الصحف اللبنانية والعاملين فيها فالمناخ الذي يخيّم على الصحافة الورقية سوداوي، إذ تدلّ المؤشرات على مطبّات وتحديات ستشكّل هزّة قوية وتضع الصحف أمام خيارين لا ثالث لهما: الاستمرار باللحم الحيّ أو التوقّف عن الصدور. في هذا السياق، تتجلى المعاناة بشكل أكبر في خمس صحف هي: «البلد»، «الحياة»، «النهار» و«المستقبل». تتعدّد مشاكل تلك الجرائد، منها المادية وتراجع سوق الإعلانات وانكفاء التمويل، إلا أنّ الضحية فيها واحد هو الصحافي .