22 ديسمبر، 2024 10:21 م

انه التاريخ ياولدي … انه التاريخ !

انه التاريخ ياولدي … انه التاريخ !

في فلم “العراب” الذي يجسد واقع المافيا خلال النصف الثاني من القرن الماضي ، يصل الدون مايكل كورليوني ‘آل باتشينو’ ( شيخ المافيا )، إلى مشارف الستين من عمره وهو مثقل بعقد الذنب بسبب أعماله الوحشية، خصوصا قتله لأخيه الأكبر (فريدو)، فيميل الى الحكمة، ومساعدة الفقراء..وبين ثنايا الاحداث ، يرحل مع عائلته في سفرة قصيرة من اميركا موطن اقامته وهجرته، الى “جزيرة صقلية”، موطن اهله واجداده.. وهناك، في تلك المنطقة الجبلية الجميلة، النائمة في أحضان البحر المتوسط، والمتزينة باشجار الزيتون والطيور الملونة وانواع الورود المسكونة بمجاميع النحل، يخرج كورليوني (شيخ المافيا ) في جولة، برفقة ولده الذي يرى الجزيرة لاول مره … لحظات صمت ودهشة وانبهار وسعادة يمر بها الابن، ويقطعها فجأة، موجها السؤال الى والده : “انها بلاد جميلة ياوالدي ، واهلها طيبون… ما الذي يبرر هذا الكم الكبير من العنف لديهم والدماء التي تسيل على ارضهم؟ “… ودون تردد وباختزال كبير، يجيب الوالد : انه التاريخ ياولدي … انه التاريخ !
نعم … انها صقلية، بلد الثروات و القبائل والاعراف والديانة المسيحية، التي عرفت الغزاة بالوانهم المختلفة، عرباً و إغريقيين وفرنسيين وغيرهم، وعاش الناس فيها، حائرين بين سحر الأرض، وتهديدات الوجود عليها، فسهل عليهم التنقل من الهدوء الى العاصفة، ومن السلام الى الحرب، ومن الوداعة الى التوحش في لمحة بصر … هي السهولة نفسها التي تحول كورليوني ، شيخ المافيا، من حكيم، وديع الى قاتل شرير..
انه التاريخ المتعالي على الذاكرة، الذي جعل صقلية تلد المافيا وتسمم فيها بيئات العالم .. وكذلك ..هو التاريخ نفسه، الذي جعل العراق، بلد الثروات والقبائل والاعراف والاديان.. بلد، عرف الغزاة بانواعهم ، فرسا ومغول واتراك وبريطانيين واميركان وغيرهم، وعاش اهله حائرين بين بداوتهم وحداثتهم، مترددين، يقض مضاجعهم الماضي ويقلقهم الحاضر
فيهيمون على وجوههم، متحابين فيما بينهم تارة حد الذوبان، ومتخاصمين، تارة اخرى حد الهلاك ..
انه التاريخ الذي وضع الحجاج في طريقهم ، واخرج صدام وابو بكر البغدادي من بينهم ، وجعل مجتمعهم رحما ولود لداعش، وسمم فيها بيئات العالم ..
انه التاريخ المتعالي على الذاكرة و المتخاصم مع العقلانية .. انه التاريخ ياولدي !