18 ديسمبر، 2024 6:09 م

انتظار طفلي المفقود

انتظار طفلي المفقود

هي عادة يومية اعتدت على الرضوخ إليها عندما اصطحب طفلي الذي لا يتجاوز الأربع سنوات إلى السوق القريبة من منزلنا في اليوم الواحد كل صباح ومساء , رغم التوجيهات الصارمة التي أتلقاها من أمه والتي تصل لدرجة التعنيف في معظم الأحيان !. كنت أتجول به في السوق الكبيرة التي تضم شتى البضائع على اختلاف أنواعها وجوداتها وهو ينظر يميناً ويساراً فاغراً فاه يبحث عن الألعاب والحلوى وغيرها من البضائع التي تستهويه وتستحوذ انتباهه يدفعه في ذلك فضوله كحال أقرانه الأطفال الذين بلا شك يتميزون بهذه الصفة . كان الزحام شديداً وأصوات الباعة تتصاعد إلى درجة تضلل علينا مسيرنا , حشود منقطعة النظير تتجول من حولنا في مشهد يوحي بحياة تسير وفق قوانين الطبيعة المقدرة لها , فضلاً عن النساء التي كن أكثر عدداً من الرجال كون عبء التبضع في الأسواق واختيار الأنسب فيها هو من نصيبهن بطبيعة الحال .
كنا نلهو معاً غير مكترثين بالزحمة والضوضاء التي تحيطنا ,كان ينظر الي بين الحين والآخر بابتسامة بريئة صافية دافعها الاطمئنان على وجودي بقربه ,كان يشدني بذراعيه الرقيقتين كمن يتشبث بغصنٍ وسط بحر لجي , وهكذا لم يكن أمامنا غير أمتار قليلة عن الدكان المفضل لديه الذي كان يغص بمختلف أنواع الحلوى والألعاب . لم أكن في الواقع أعير أهمية بعبء الكلفة المالية في كل مرة اصطحبه فيها رغم أن هذا الأمر كثيراً ما كان يدفع زوجتي لتوبيخي باستمرار . وعندما اقتنينا البضائع المناسبة بعد أخذ ورد متبادل وبعد صبر على خيارات طفلي المتنوعة تبعاً للبضائع المعروضة أمامه آثرنا الرجوع إلى منزلنا بعد أن أدركنا الظلام .
استولى علي شيء من الإرهاق نتيجة البضائع الكثيرة التي كانت تثقل كاهلي من جهة , وتجشم ذراعاي عناء حمل طفلي من جهة ثانية , لم تكن أمامنا سوى أمتار قليلة تفصلنا عن نهاية السوق الكبير .وفجأة ودون سابق إنذار … عصف في وجهينا دوي عنيف ناجم عن انفجار لم أتبين مصدره أن كان نتيجة حزام ناسف أم عبوة موضوعة أم سيارة ملغومة , حينها استولى سكون غريب على السوق بكل ما فيه وانطفأت جميع المصابيح في لحظة واحدة ولم يوجد أمامي غير جثث متهاوية غادرتها أرواحها عنوة هاربة من هول المأساة تبحث عن متنفس في العالم الآخر وأحياء يتراكظون كمن أصابتهم هستيريا يوم الحساب . شعرت بخدر ذراعي التي كانت تحمل طفلي ,دب في نفسي الهلع , اختفى تماماً من حولي لا يوجد أي أثر له وسط هول هذه الكارثة , بدء الخدر يتسلل إلى عروقي رويداً رويداً ويجمد حركة جميع أطرافي كتمثال حجري متآكل بفعل عوامل الطبيعة !.
اختفى طفلي المسكين تماماً وأنا أوجه عيني في كل تجاه علي أن أعثر عليه أو أي شيء يرشدني إليه على الأقل . وارتطمت في صخرة أفكاري سيل من التساؤلات كتيار لا يعرف التوقف . هل أضحى جثة هامدة كحال الذين شاركوه القدر ؟. أم أنه فقد اقتفاء أثري من شدة العصف وكل ما صحبه من صخب وفوضى ؟. ماذا سأقول لزوجتي عندما أعود إليها من دونه ؟ كيف سيكون موقفي أمام أسئلتها الملحة ؟ .
لم تكن أمامي غير إجابات مشوشة لم أعرف لها نهاية ولم يكن أمامي من خيار غير أن آثر الانتظار خارج بيتي عله يعود إلي بعد قدوم رجال الشرطة و سيارات الإسعاف عله يناديني من بين أكوام الضحايا علي أراه في منزلي برفقة أحد الخيرين الذي دخل به مطمئناً زوجتي . قررت حينها أن استغرق في هذه التأملات لأطول أمد ممكن حتى عند طلوع الصباح فكان وقع ذلك علي أفضل بكثير من اللحظات الحاضرة التي أعيشها الآن ! .