من بُعد ٍرأيتُه، يرتدي بدلة زرقاء، كان يتحدّثُ مع ثلاثة أشخاص.استغربتُ عودَه الصادم من مكمنه المنسي. فقد وافاه الأجلُ قبل عشر سنوات .لمتُ باصرتي، قد يكونُ ثمة خطأ في الرؤية. فليس حضورُه خيالاً يتمرأى لي ، أو خدعة بصريّة. لا اتذكّر من أين جئتُ، بل كنتُ محضَ عابر حملني تجوالي الى هنا. لديه عندي ثلاثون رسالة، كُتبتْ بخطه الناعم، وربّتما استعيدُ منه رسائلي المطوّلة بعثتُها اليه في فترات خلال عشر سنوات . عاد بغتة ً من غيابه المنسي ، من طيّات ذاكرتي المُندثرة. هو مُتحدّثٌ ألمعي. وذو اصغاء جيد أيضاً. كنتُ أرى يده اليمنى تتحرّكُ كما لو كانت هي التي تتحدّثُ. والمسافةُ مفتوحة بيننا بوسعه لو التفتَ اليّ أن يراني. عندئذ سيترك مُحدّثيه ويجيئني. كمنتُ في مكاني، بل انطويتُ على ذاتي. فليس بمُكنتي أن أتراجع أو
اختفي. جئتُ من صقع بعيد ، وبودّي لو أجد مكاناً ارتاحُ فيه. وفيما كنتُ واقفاً التفتَ يساراً ولمحني. عراه ارتباكٌ وقرّر أن يُنهي حديثه معهم. رفع يده فودّعهم وأقبل تُجاهي. اسرعتُ أنا أيضاً لاستقباله في منتصف المسافة بيننا.عانقني بمحبّة، وهمس : أيّة مصادفة كريمة هذه؟ لكنْ بحقّ صداقتنا لمَ قطعتَ رسائلك عنّي؛؛ لم أجبْه ، بل نظرتُ اليه مُحدّثاً ذاتي: كيف اكتبُ رسالة الى مَنْ مات مُذ عشر سنين؛؛ وواصلَ حديثه : عدتُ لأطبع كتابي الجديد، ينطوي على ثلاث وخمسين مقالة حول التراث والمُعاصرة والصداقة وهجاء الزمن والجهل المُتفشي بين الناس بعد أن شغلتهم السياسةُ . اللعنة ُ عليها، فرّقتهم الى شيع وكتل وقصمت ظهورهم حتى داخل العائلة. فأين الحبُّ والتعاطفُ … أوه ، تبدو غريباً ، لمَ أنت صامتٌ.. لم يُعطني مجالاً لأردّ عليه، امسك بيدي وبدأنا نتمشّى. كنتُ على يمينه وهو على يساري. وفيما كنا نقطعُ الطريق الى مكان ما كانت عيون المارة مشرئبة تُجاهنا، بل تُركّز عليه. وهو يرتدي هذه البدلة الغريبة. أستوقفني في مكان ما، لا أدري أكنا واقفَين أم جالسين ِ أو نائمين. وأشار بيده الى
شخص خفّ تُجاهنا وهمس في اذنه ببعض الكلمات، هزّ الرجل رأسه وانصرف. .. لمَ انقطعتَ عن الكتابة؟ سألني. لم انقطع ابداً ، ما زلتُ اكتبُ وانشر في الصحف. ولديّ الآن خمسة عشر كتاباً . . ضرب بقبضنه الهواء : يالك من مثابر ؛ حتماً سأحظى ببعضها. . ظهر الرجلُ حاملاً صينيّة وضعها بيننا، تنطوي على كمية من اللوبياء المطبوخة. رمى بواحدة الى فيه وأطبق عليها اسنانه. ثمّ سحب خيطين رفيعين وضعهما فوق صحيفة قديمة. كنتُ انظرُ اليه وهو يزدردُ اللوبياء . لكزني : لمَ لا تأكلُ؟ لا أشتهي ، أحسّ أني شبعان ، لكنّي في حاجة الى كأس من الماء واستكانة من الشاي. ردّ وهو يسحب خيوطاُ من بين اسنانه: سيأتي الشاي بعد الانتهاء من اللوبياء. رفع يده وخفّ الرجلُ تُجاهنا: هاتِ قدحين من الماء أكادُ احتضرُ من العطش. مضى الرجل ليعود مسرعاً حاملاً صينية تنطوي على قدحين من الماء. المكان الذي احتوانا غريبٌ، لا هو مقهى أو غرفة، بل فسحة ٌ مفتوحة مجهولة مجبولة من خيال طائش. كان هو يسألُ وهو يُجيبُ، فأتى على صينية اللوبياء. سحب من جيبه منديل ورق فمسح فمه ثم رماه فوق
الفضلات . نظرني بصرامة وقال: أنت لم تسألني عن مكاني ، كيف امضي وقتي، صحيحٌ أنا تقاعدتُ وانتهيتُ ، لكنّ ذلك لم يقطعني عن المتابعة. احياناً تصلني بعضُ الصحف والدوريات والكتب، على المرء ان يتواصل مع معطيات الثقافة. فأيّ معنى للحياة من دون القراءة. .. لم أردْ أن أقول له : انّه واهمٌ، فقد غيّبه الموتُ من عشر سنوات، خمد ذكرُه وانطفأ. بيد أني كنتُ أهزُّ له رأسي ، لكلّ ما يقول. واذْ كلانا قابعٌ في مكاننا كان المارة يتطلعون الينا، اثارت انتباههم بدلته الزرقاء الغريبة. جاء الرجل حاملاً صينية الشاي وضعها بيننا. وصعدت رائحته الطيّبة. جرعتُ كأس الماء كله . ابانئذ احسستُ بالملل ، حتام تطول هذه الجلسة اللامجدية ؛؛ بعدئذ صرتُ لا اسمع كلامه ، هو يتكلم وأنا اهزُّ له رأسي. كان سعيداً وأنا اصغي اليه، وربّما لم يتحدّث مذ زمن طويل مع أحد. بل كان يتدثّرُ بالعتمة والسكون. فما بقي منه سوى حفنة من عظام رميم. لكنْ، كيف عاد مرتدياً هذه البدلة الغريبة؟ فجأة خرجت امرأة من غرفة الى جوارنا شعثاء الشعر ، فأشعلت سيجارة وبدأت تدخّن. رفع يده وصرخ فيها: ابتعدي عنا ، أكاد
اختنقُ من رائحة الدخان. ابتعدت عنا متذمرةً، أتعرفها؟ سألني ، لا، همستُ.. انها زوجتي، وسيقتلها هذا الدخان. .. ثمّ اردف : لديّ مخطوطتا كتابين احتفظ بهما هناك اروم طبعهما، استغرقتني ضحكة كتمتها على مضض. فعن أيّ كتاب يتحدّث من طُويَ ذكرُه ؛؛ أغلبُ الظن أنّه يهرفُ . ردّ بسخرية : لا، أنت الذي تحلمُ ، وأنت الذي استدعيتني من مرقدي، واحضرتني الى هنا… قلتُ بملل: كنتُ انتقل من مكان الى سواه فرأيتُك هناك. استغربتُ أمرك وأنت ترتدي هذه البدلة العجائبية الطراز واللون. . ردّ مازحاً: انّها من المستقبل ، جيء بها خصيصاً لأظهر في عالمكم الرتيب. ذا أنت حالمٌ تجوب أفضية احلامك تخرقُ قوانين الحياة وانماط الصراع والمعيشة ، فأين الناسُ والخصوماتُ والسياسة واكاذيب الساسة والسرّاقُ الذين سرقوا ثروات البلاد ، انت ايضاً أشبهُ بالأموات خارج قوانين الحياة .. ابتسم بمكر وغادرني. اختفى وحسبُ تاركاً اياي وحدي. سأمضي اواصل مسيري ، وقد التقي صديقاً آخر بجيء من طيات الغيوب…