قميصٌ مبلول / عًمرٌ غائم ../ الروائي عبد الكريم العبيدي
في (معلقة بلوشي)..
إلى.. بصرة ٍ تنزهت عن مجانسة مدن العالم ..
(*)
بكل الشوق ..كنت أنتظر هذه الرواية من الصديق عبد الكريم العبيدي حدثني عنها في تلك الظهيرة..في بيتنا بحرقة قلب وطموح كبير.. قبيل ذهابنا إلى قاعة الشهيد هندال للأحتفاء في ملتقى جيكور الثقافي، بروايتيه (ضياع في حفر الباطن) و(الذباب والزمرد)..روايته الثالثة (معلقة بلوشي).. تتجاور مع الروايتين وتتجاوزهما بتوسيع قوسها الروائي .. هذه الرواية الجارحة/ المجروحة هي مرآتنا في أشرس سنوات الإبادة ،فمن لم يكن يومها ضد الطاغية وتجرع الأمرين : لن ينصف المرآة / الرواية . التي هي بحق وثيقة أدبية للأجيال الجديدة تعلمّهم بشعرية السرد أن البصرة جذورها في السماء، وليس كمثلها مدينة ،ومثلما القصيدة : بصرة ..أعلن ملء الفم والقلب والروح: الرواية ُ بصرة . والوفاء للحلم الجماعي : بصري المنشأ : بشهادة صاحب الزنج والمعتزلة وأخوان الصفا ..والبصرة وبشهادة محبيها هي الآن فعلا ..(في أسوأ أحوالها .إشارات هلاكها مخيفة وخاطفة.لم تعد تتمدد كما كانت آمنة على زرقة مياه الشط ..لا وئام بين بصرتين بعد الآن، هناك أشياء بدأت تتخفى، تهرب خجلة. وأخرى راحت تزأر بقبحها، تنط ّ من خارج الحسبان. وحده الاحساس بالعاصفة أضحى ناقوس العيش في خرائب هذه العروس الموءودة ../383- عبد الكريم العبيدي – كم أكره القرن العشرين – معلقة بلوشي)..
(*)
الروائي عبد الكريم العبيدي هو من القلة الذين أجادوا الكتابة عن جحيم الطاغية،لأنه من أولئك الذين شاركوا في التصدي الجماعي الفعلي ضده .. وروائيا : من خلال تناول الجندي الرافض للمشاركة بالقتل الجماعي وهذا الجندي في روايته ، مثقف غير مؤدلج لأي طرف سوى إنسانيته الشعرية .ومن هذا الجانب الجميل يذّكرني العبيدي عبد الكريم بالروائي الألماني العظيم أريك ماريا ريماك في معلقاته السردية (كل شيء هادىء في الميدان الغربي) (وقت للحب وقت للموت) (ليلة لشبونة) (الأصدقاء الثلاثة ).. والروائي عبد الكريم وبشهادته الناصعة هو مطالب (بسرد غرائب وعجائب أعوام الهرب بكل فصول تشردها ورعبها وحرمانها ومنغصاتها ومكابداتها ومآسيها ../ 407) ..
(*)
في (معلقة بلوشي) يشعر القارىء النوعي أن المؤلف العبيدي هو من أمهر اللاعبين بالأنساق الزمنية الثلاثة :
*النسق الصاعد
*النسق المعترض
*النسق الهابط
ولا تقف مهارة العبيدي عند هذا الحد ،فهي تجيد استعمال الوثائقي والسياسي والجغرافي وتوظيف هذا الأستعمال في الموضع الحيوي أما توظيف الذات الأنشطارية فقد بلغت لديه شأوا مرموقا على مستوي ذات مولو وكذلك الرضة النفسية التي أصابت شقيقته الطبيبة ميا.. ومن خلال هذه الاشتغالات تصنّعت رواية عراقية بتوقيع البصرة ، فثمة روّاف افرار ماهر في ال(سده ولحمة،، ريافة بالطول والعرض، تستل الخيط ثم تعالج أشواط لعبتنا بالمربعات والسنن والنسج وتركيب العلامات تعالج كل الشقوق التي اعترضتنا../303) ..تواصل الريافة أعمالها و(الحائك البلوشي، مازالت أصابعه في حركة ال ،،سده ولحمة،، ريافة بالطول والعرض يستل الخيط من نفس المحنة، ثم يعالج الشق بالمربعات والسنن والنسج وتركيب العلامات / 375) فالريافة فن من فنون الخياطة / التجميلية فهي(ليست ترقيعاً أو خياطة فتق،ليست هذا اللابُد ّ الذي ليس منه بد.هي علاج ٌ بصري ٌ بارع ٌلكل ماهو تالف منها. علاجٌ تام من دون آثار جانبية،، طب عرب،، يأخذ عناصر الدواء من،، شماريخ،، أزقة هذه المدينة، ثم يعيدها إليهم بمهارة، فتعود البصرة إلى ماقبل الخراب ../ 93)..
(*)
من أجل التعبير الفاعل عن الواقع الموضوعي، قرر الفعل الروائي أن يؤمن بما هو أعلى من الواقع وهكذا تملصت الرواية بمهارة من فوتو سرد الواقع كما أن الشخصية المحورية أو سواها في المجتمع الروائي ضمن معلقة بلوشي ليس مستلة من وقائعية مطلقة، بل تتخلق في رحم مخيلة المؤلف إذن الشخصية مكون لساني تخيلي من هنا يمكنني القول أن الشخصية الروائية وحدة دلالية، مثل أي علامة لغوية، مثنويتها تتجسد في الدال والمدلول ..
(*)
لهذه الرواية رياديتها في تنشيط السرد الروائي بكشف (الغطاء عن حفنة أعوام قاتمة،مليئة بأسرار عائلة بصريّة بلوشية ضاعت جزافا، في غمرة تاريخ مفزع لمدينة جنوبية ساحرة/ 10) وهذه العائلة هي الجزيء الذي يمثل الكل ومن خارج النص أضيفُ كقارىء للرواية :أختفى الثري عباس المدائني وعائلته بتوقيت صعود الطاغية للحكم ، بسبب ضابط وضيع أرا د إرغام العائلة بتزويجه أحدى بناتها التي كانت في الكلية الطبية، كما اختفت عائلة ميرزا محمود وكذلك عائلة محمد رضا سعيد البزاز في مناوي باشا..تهمة هذه العوائل أنها : تبعية إيرانية ورجال هذه العوائل من وجهاء المدينة الذين كانوا يعيلون الكثير من العوائل المتعففة ..ومِن هذه(الأقلية) مَن ساهم في الحركة الوطنية العراقية واستشهد شبانها أثناء التعذيب ولا تهمة أو ذنب لهم سوى : زهرة الرمان .. الجميل في الرواية لا يوجد نفس أيدلوجي فيها ، بإستثناء هذه الوحدة السردية الصغرى الوامضة ..(فهذا هو عصرنا، عصر الشماريخ المتجه نحو ختام صراعهم الطبقي ../302) .. توجد قناعات لدى غالبية شبان البصرة بعدم المساهمة في حرب مدفوع ثمنها من بلدان الريع النفطي ..وهؤلاء (تكتظ بهم غرف ٌ عبثية في الجمهورية والومبي والحيانية والمشراك والتنومة ../ 272) ..وهم من وجهة نظر ذي القرنين صارم شقيق العاهرتين : (البلوشي، وجماعته،، العركجيّة،، الأنذال /74)
(*)
في الرواية الأولوية لأشكاليات مولود، لكن مولو أو مولود ليس إنسان مضطهد لذاته، هناك شبكة علاقات روائية تحصنّه وترافقه وتذود عنه ،يطلق عليهم السارد العليم ،، الشماريخ،، وفي مقدمتهم : عزّام الذي كان (يغيب فجأة، يختفي عن الأنظار.لن أجده في أي مخبأ، وبعد شهر أو أكثر يعود ويظهر دون أن يأبه بحيرتي..يعود محملا بنماذج اجازات وهويات مزوّرة وكتب رسمية، وكان لايبخل في تزويدي ببعض ٍ منها ../80)وهناك الملّقب بالباشا الذي ينتحل دور شخصيات متنوعة من رجال نظام الطاغية ومن ينسى دور ضابط المخابرات مضر عبيجل ومساندته لمولو ؟! وفي هذه الشبكة يوجد أيضا (شماريخ ضالة. مخلوقات مغمورة شديدة اليأس، تدنو من حافة الحياة، وتعقد صداقات طارئة مع كل من يرافق عزام ليلا. ثم ترتدي أقنعتها، وتعود إلى عالمها السفلي، قبيل طلوع الفجر. تعود فَر ِ حَة على ما أظن / 82) ومولو يعلن عن استقواءه بهم (كنت بأمسّ الحاجة إلى أحاديث ،،سكراب،، الشيقة، والى عبث وبراءة،،خراميش عزاّم،، أوه…تسرني طقوسهم وحواراتهم /86)..من مواقف مضر البطولية والشخص الملّقب بالباشا وشبان ذلك البيت في محلة الجمهورية و…غيرهم من الأبطال من هؤلاء كلهم تنهض بنية النص الدلالية ، كلهم تماسكوا فيما بينهم ضد الطاغوت، وحين نفذت ذخيرتهم وضاق الأرض به هناك من انتحر (شكيب) وهناك من قرر البطل الشمروخ عزام، اخراجهم من العراق حفاظاً على شعلتهم الوهاجة .. منهم : مولو وغفار وسواهما وبالطريقة هذه تأثل التعاضد بين البنية الدلالية والعروة الوثقى وشماريخ البصرة .. وهذا التأثيل لاينهض من فراغ بل منبجس من مثنوية وعي : وعي ممكن / وعي فعلي .الوعي الفعلي يتجسد في التضاد الحاد بين مولو وصارم وبين صارم وميا وبين عائلة صارم وعائلة حازم يتضح أكثر أثناء الجلسة العشائرية بين العائلتين ..وكذلك الجهود المبذولة من العاهرتين لإبقاء شقيقهما صارم في خلفيات الوحدات العسكرية الفعّالة أما الوعي الممكن فهو جماعي تجسده شبكة علاقات الشماريخ ضد الطاغية وأزلامه ومن تجسيدته القوية لحظة العثور على جثة ذي القرنين شقيق العاهرتين نهلة ونهودة والفعل الممكن الجماعي وبشهادة مولو وعزام (محاولة لإثبات الخراب /78) والشماريخ تواصل نضالها ضد الطاغية حتى بعد سقوطه من خلال وصية مولو بتكليف الملك الضليّل بتحريره روايته (كم أكره القرن العشرين – معلقة بلوشي – )
(*)
الخلية السردية الموقوتة التي تتشظى وتمنح الرواية سعة مشوّقة : هي وجيز قول العرافة في بداية الرواية ..(سيظل يتبعك مثل ظلك، سيقتفي أثرك أينما حللت ..سيظل يت…./57) وهذه الخلية تواصل بثها التكراري بين الحين والآخر في صفحات الرواية، كأن لها وظيفة الأنعكاس الشرطي وفق نظرية بافلوف ..أشهد أن جماليات هذه الرواية ثرة جدا ،رغم أن تقنية المخطوطة، شاعت بوفرة في الروايات العربية، لكن العبيدي أجتهد في الجديد أجتهاداً نوعيا كبيراً في اجتراح بصمة جديدة لتقنية المخطوطة فهو حوّلها من مساراتها الواضحة إلى مسارات تتوائم مع الملتبس الاجتماعي العراقي في البصرة جعل من البطل المنكسر في الرواية مولود مراد، لايتعامل مع الزمن وفق أمنية الروائي ألدوس هكسلي في روايته الفذة( لكي يقف الزمن ) ..بل (لإنقاذ بلوشيتي…من طرف دونيتها المستترة في قلوب القبائل من أولئك الذين يصفونها ب،، خطأ تاريخي،، شيء،،يتواجد،، يمكن قبوله على مضض، ولكن لايمكن الاتفاق على أنه موجود كأصالة قبلية، أسوة بعروبية قبائلهم المتشبثة بأعرافها../268) ..الآن بدأت أعيد الزمن الى منابعه، أخضعه لسلسلة من التشكل في معركة مباغتة كادت تحيل زمني كله إلى هباء)..ثم ينتقل السرد من الزمن الذاتي إلى الزمن الموضوعي متجسدا في ساعات الجنود اليدوية ..ثم يقوم السرد بإنسنة هذه الساعات ويجعلها في حاجة إلى (ذات استكشافية تعيد لها اعتبارها كشهيدات يُعد رحيلهن من أكثر الخسارات في قائمة المعارك ../269) وهكذا تصبح الساعات اليدوية للقتلى هي الهوية القومية للمحارب (لم أعد أأبه بعد ذلك بأي علامة في رأس أو بسطال أو بندقية، لأميزها بها عراقية الجثث عن إيرانيتها.ثمة ساعة ونصف بدت كافية جدا بين دولتين متنازعتين، منشغلتين في حرب ضروس طاحنة بين موت عراقي وآخر إيراني. بين ساعات الحروب الحيّة وبين مؤقتيها الميتين ) فالساعة التي تشير إلى الواحدة ظهراً تحملها جثث عراقية وساعات الثانية والنصف تعني جثث إيرانية ..وبمرور الهجومات ستكون لهذه العلاماتية الفارقة علاماتية جديدة (وحدها الساعات منحت أكوام الجيف انسانيتها، وحدها التي صححت مسارات ظنوني، وجعلتني أشعر من داخل عفونة الجثث أنني أتسلل بين جثامين آدمية لعراقيين وإيرانيين اشتبكت في أبشع لوحات الموت ضياعا وتحللت، تاركة لساعاتها مهمة حساب الزمن وفرز تجلياته ../ 270) ..لكن الفارق الزمني بين توقيتيّ العراق وإيران لم يصمد في ثبوتية الساعاتية اليدوية صار(يتقلص حينا ليبلغ أقل من ساعة، وأحيانا يتسع ليصل إلى مايقرب من ساعتين أو أكثر أحياناً. وصل الفارق بينهما إلى سبع ساعات ..) وسبب هذا التفارق هو(لم تول ِ وصية القتلى احتراما..)..هنا يغادر الزمن جهامة الموضوعي وينزياح شعريا / أخلاقيا إلى جهوية جديدة ..تشكّل علاماتية ثالثة للساعات . ولكن هناك صدمة العلاماتية الرابعة الذاتية والعدائية من منظور مولو البلوشي والتي ستمنح العلاماتية جهوية جديدة ومقززة !! وإذا كان زمن ساعات قتلى الطرفين يعني حالة طارئة تختزل أحلامهم ..فأن زمن العدو اللدود لمولو البلوشي ..العدو ذو القرنين عائليا، شقيق العاهرتين، العدو الموتور الذي كان الأذى كله لبيت البلوشي :(ارتبط زمن ساعات،، صارم،، بجريمة سرقته المحاطة بمبهمات فوضى الشلامجة ..لم يكن،، صارم،، يمتلك أي صلة بزمن الساعات التي سرقها /299) وسبب إنعدام الصلة هو (سرقة الساعات هي مصدر الهامه وليس زمنها) هو يندفع برغبة السلب والنهب في الهجومات.لكن صارم بسبب تفاقم شعوره بالنقصان خارج الزمن وبالدونية المجتمعية :
*لا وجود لزمن صارم ، لا وجود لقيمته في عفونة الجثة
*إذن صارم يسرق زمن الجثث / 300 ص : بشهادة عجلان وتأييد الشماريخ له
(*)
في ص43 يصادفنا في قراءتنا الأولى للرواية سرد ملتبس
*جثة مولو
*عوائده : ساعة – جزدان الحاج مراد – خاتم فضي كبير مرصّع بفصوص من العقيق الأحمر – طلسم الطلاسم
*ومن ضمن العوائد :صورة لمولود قرب أسد بابل في البصرة
*صورة الراقصتين شبه العاريتين (أقدمت ريا كعادتها على إغماض عينيها انصياعا لخجلها الفطري، بينما أخفت،، ميا،، فمها الفاغر براحة يدها وتأوهت .حدث ذلك ليس لأنهن شاهدن عري الجسدين الرخيصين، بل لأنهن تعرّفن على صاحبتيه بسهولة. تعرفن عليهن من أول لمحة نظر / 43) .. هذه الشفرة الملتبسة / صورة العاهرتين هي وجيز سرد سابق زمنيا ، سنصل إليه بفعل قراءة الربع الرابع من الرواية
(*)
مؤثرية تراسل العين بين الدكتورة ميا والرجل الغريب ..(ظل المريض يميل برأسه يمينا وشمالا لاقتناص أي فراغ ..وراح يدعك عينيه الواسعتين بشدة، كأنه غير مستوعب لما يرى ، ربما دفعته رغبة شديدة لرؤية وجه الطبيبة، وجهها لا غير../ 17) .. هل الرغبة تقتصتر على رؤية الوجه ؟! أم على رؤية ماوراء الوجه ؟! أم ستكون الرواية بصيغة مسح عام للوجه ثم تستقر العينان في عينيّ الوجه الآخر ..مصحوبة بصعق روحي (لكنه شاهد وجهها للحظة من غير شك، ثوان مكتظة بالطنين، رفعا فيهما الاثنان رأسيهما معا،) ثم يركز السارد العليم على مؤثرية التراسل (ألتقت عيناهما لحظة ) ستعمد قراءتي إلى تعديد المؤثرية كالتالي نقلا ً عن النص نفسه :
* برقت فيهما رغبة منفلتة غريبة
*تشابكت الإشارات والحركات
*فانقبضت نفس الطبيبة فجأة
*عرقت يداها
*واحمر وجهها
*شعرت بغصة
*وبتسارع في ضربات قلبها
*ورفيف جفنيها
* استشعرت خطراً قادما منه
من خلال تراسل النظرات ستحدث صدمة إنشطاريات في ذات الطبيبة ،، ميا،، وعلى ذمة السارد العليم ..(بدت الصعقة أكبر من جلادتها، لدرجة لم تسطع معها الاحتفاظ ب،، ميا ،، الطبيبة. فرّت ،، ميا مراد،، اختصاصي طب وجراحة العيون من طيّات صدريتها اللاهثة، وانزلقت بخفة في خيال جارف، وبانت كأنها ومضة من حلم، شيء من وهم، صورة صفراء خداّعة، ربما ستسقر أخيرا في مهملات ذاكرتها، حيث مثواها المريح الأقل جدلا ../ 18)..وفي الربع الرابع من الرواية سيكرر السارد العليم الفقرة ذاتها بتراسل نظرات الطبيبة ميا مع الرجل الغريب ، ويأتي التكرار بتوقيت علاجها النفسي على يد زوجها الطبيب الاستشاري بالأمراض النفسية والعصبية.. نعود إلى الوحدة السردية في ص17 ستكون نهاية الجملة هكذا (كأنها سمكة هي الأخرى استشعرت خطرا قادما / 17) ..أما الجملة نفسها فستكون من نتائج العلاج النفسي بالصيغة التالية ..(برقت فيهما رغبة منفلتة غريبة، ثم تشابكت الإشارات والحركات، فأشار ميزان الخريف الى التساوي ../ 352) ..
(*)
في الصفحات الأولى من الرواية يخبرنا السارد أن مولود شقيق الطبية ميا من شهداء الحرب / ص22، ثم سيقدم لنا السارد تفصيلا دقيقا في الصفحات(23- 24- 25- 26- 27- 28) لأستشهاد مولو البلوشي وفقدان صارم الزنبور ..في معارك الشلامجة ..وما سوف يتم سرده لنا سيتكرر ثانية قبل نهاية الرواية أعني مشاهد الغريب (المرابض قرب قبر المرحوم مولو ../ 34) .. وسيطعن بهذا السرد ..سرد آخر في الرواية وتتكشف لنا الخبايا / ص351
(*)
الدكتورة ميا أثناء تصفحها لمخطوطة مولو، كانت منشغلة بالثانوي في المسطور، فهي تساءل نفسها (كم من الحشرات تغذّت على هذه الدفاتر؟ وتركت فضلاتها تشوه وتمحو ../37)..(أحصت الدكتورة العديد من الأخطاء الإملائية والكلمات المحذوفة وتابعت تحول الخطوط ..حتى أن جملا كثيرة بدت عصية على الفهم،مليئة بفوضى السهام والحذف والأخطاء والتصحيح ../ 39) .. كما أنها مشوشة في كيفية التعامل معها،وعلى ذمة السارد العليم (حتى الآن، لا تدري الدكتورة كيف ستبحر في أسرار الدفاتر الثلاثة؟ لا تعرف متى تستطلع وعيد المفاجآت الذي تلوّح به حروفها؟ انها تقف في ذيل المحنة، تلامس حواف أسرارها الساخنة، لكنها لا تنوي أن تقود هذه البداية المدججة بالضلالات لتحصل على نصف رؤية ممكنة، نصف اتضاح، لمعالجة غموض الدفاتر وأسرارها../ 42)
(*)
سرديا أن السارد الأول هو مولو وسردياته موّثقة في دفاتره،وما سوف يقوم به السارد الثاني أعني (الملك الضليل) هو تنفيذا لوصية من مولو نفسه، إبداعياً ..في ص399سيكون السارد الجزئي زوج الطبيبة ميا وبعد مكالمة وجيزة مباغتة ، سيعرف الزوج (بسر الدفاتر،وبعودة مولو من جبهات القتال حيّا ..) ومرويات زوج الطبيبة، وهما الآن في هولندا زمنياً تنتسب لوجود الطبيبة وزوجها وابنهما يوم كانوا يسكنون بغداد،وما يجري في الصفحات الأولى هو توزيع السرد بين مكانين وزمنين مختلفين
*الجدة سليكة في البصرة تتفقد كيس ودائع لمولو بعد دفنه
*طبيبة العيون ميا مراد شقيقة مولو في بغداد وهي قصرها المنيف مع زوجها وولدها المسمّى باسم خاله مولو تتفحص كيسا سلمه الغريب الأعرج لأم بان لتسلمه بدورها للطبيبة … لدينا قراءتان لدفاتر مولو
*القراءة الأولى هي قراءة ميا (36- 37- 38 – 39- 40) وفي ص42 تكتشف ميا أن هذه الدفاتر مخطوطة رواية (لمحت اسم شقيقها في أعلى الصفحة فانتابها فزع مفاجىء، ثم قرأت اسم الرواية فداهمها شعور قوي بالخوف والعجز، وبتنميل في الجسد. قلّبت الصفحة بصعوبة، وحالما فاحت رائحة البلوش هتفت بلا شعور: أخيرا فكّر شقيقي المرحوم أن يرد لي المعروف، أن يجعلني مجنونة مثله، أن يحيلني إلى آخر هيئة لي، وأنا أرتعد !)..
*القراءة الثانية هي أستعمال الدفاتر لأنجاز الرواية إبداعيا من قبل السارد الثاني الملّقب(الملك الضليّل) 🙁 سلّمت للعائلة مخطوطة الرواية مطبوعة /404) هذا مايخبرنا به السارد ثم يخبرنا عما جرى بهذا الخصوص مع الطبيبة ميا ..(قلت ُ للدكتورة : استجاب الله لدعائك .ألهمني الصبر وأعانني على فك طلاسم الدفاتر والأوراق ..) وهكذا نفّذ الملك الضليّل وصية مولو البلوشي كما جاء في الوصية (لم أترك شيئا لأوصيكم به. فقط سلموا دفاتري وأوراقي الى ،،الملك الضليل،، هو يعرف عائلة البلوش. يعرفنا أكثر مما نعرفه، ومازال متشوقا ومتحمسا لكتابة رواية عن ،،الشماريخ،، ..قولوا،، للضليل،، هذه وصية ميّت فلا تفرط بها ../410)
(*)
في المناصة المعنونة (موجز اتفاقية هاولير) وعلى ذمة السارد العليم : الملك الضليّل (في اليوم الأخير من تلك الرحلة العجائبية، منحتني السيدة بحضور زوجها، حقيبة صغيرة، زعمت أنها تحوي الكيس الملغوم الذي حدثتني عنه، مع رزمة أوراق مليئة بهذيانات واستذكارات ووقائع كتبها شقيقها في المستشفى ..ثم تضرعت الى الله،وسألته اعانتي على فك طلاسمها والصبر على قراءتها../ 10) وهكذا وفرّت الطبيبة ميا للسارد الملك الضليّل كل المواد الأساسية للأنتاج السردي.
(*)
العلاقة بين صارم ومولو : أشد العلاقات وحشية بسبب عداء صارم شقيق العاهرتين لعائلة مراد البلوشي لأن هذه العائلة تشترط الشرف قبل كل شيء في المصاهرة وهذا الشرط غير متوفر في عائلة صارم لذا سعى بكل نذالته إلى ملاحقة العائلة واقتحام بيتها للبحث عن الفرار مولود، كما راح يشوه سمعة ميّا في كل مكان ..بأختصار العلاقة مشتقة من جذر لغوي(أبد) : صارم يسعى لإبادة العائلة بكل الوسائل (لا أصل ولا فصل ..،، لفو،، بلا حسب ولا نسب / 309) سيكون رد فعل مولود بنفس القوة وهو يرى صارم مقتولا بمعارك الشلامجة فيخاطبه بين أشلاء الجثث (هويتك القذرة محصورة بساعتك، وخاتمك الذهبي، وقرص الهوية ومحفظتك الجلدية، والعلك ، لماذا لا أدفن كل هذه العلامات الخردة في الحفرة؟ سأدفن هويتك بدلا عنك، لتغدو منذ الآن جثة مجهولة الهوية، لا أصل لها ولا فصل، تماما مثلما وصفتني عائلتك مرارا../309) ثم ينتقل مولو إلى مخاطبة ذاته هو (لا تتخاذل يامولو.. لا ينبغي لزنبور أن يغدو شهيدا بعد الآن .هذه ليست حصته من الحياة . ان من أكبر الفضائح أن يكون،، صارم،، شهيدا ..) ثم يعود إلى مخاطبة جثة صارم ..( ألا ترى أننا تعادلنا في لعبتنا الآن؟ كلانا غدا لا أصل له).. للأسف نلاحظ هنا ثمة خلل لدى مولود في فهمه المبتور لشجرة عائلته!! والأسف الثاني سيقره مولود نفسه في قوله (مازلت ُ أميل الى استحضار شروري .ان من يتبارى مع الزنابير على مدى عقد من المعارك، عليه أن يتوقع ترحيله من ضحية الى جلاد../310) والتعادل الأخير بين الجلاد صارم والضحية مولود هو القبر/ المنفى ..مولود نفى جثة صارم في مقبرة البلوش في (مقبرة الحسن البصري) وسيموت مولود في المنفى ويدفن في مقبرة هولندية
وهنا صدقت نبوءة العراقة (يطاردك عدو لك يا اااه كم يكرهك، كن حذرا منه، فسيظفر بك يوما )
صارم سعى لأبادة عائلة شاه مراد البلوشي ———– مولود أبّد صارم في مقبرة البلوش
لكن مولود منح صارم اسم مولود وقرص هوية مولود وساعته وخاتمه الفضي وحرزا ومحفظة جلدية وهكذا انغمرت جثة صارم بوثائق ثبوتية تعود لمولود ..أن هذا التبادل المضاد يحتاج قراءة انتاجية خاص بنوازع مولود وتهشمات ذاته المستلبة ..
(*)
لضيق المساحة في صحيفة يومية أجلنا الكلام عن المفهومات التالية :
*شخصية القزم الذي لايراه سوى مولو
* السرد الكاذب
تكذيب السرد سيكون في 330
*جهويات متغيرات للسرد /266- 267- 284- 286-295- 296- 297 -308 – 313 -315- 315
*توجيز السرد /288
*جيب وجيب تمام / 271
*275/ بصرة
*الأنتقام /309 -310- 311 – 314
*الروافة /
*سرد الشاهدة / 344
*أنتقام البلوشي من صارم / 345
*تدوير سرد الصفحات الأولى / 352
*تدوير سرد الشطرنج : / 378
*تكرار سرد الحدث الرئيس /348- 354- 356
*اشكالية (بلا) / 357- 359- 360- 361- 367
*سرد مزدوج الأنتقال من حيز مولود إلى حيز ميا : 362- 363 – 382
*تكرار السرد بإيجاز /410
* آليات سرد
*الغرامافونات / 372
(*)
البصرة لا تأخها سنة ولا نوم ولا إطار يسع لوحتها : (في الغروب، انسحبت البصرة لتلعق جراحها. ترنّح سحر نخيلها،، الخطيّة ،، لم يعد قادراً على تحمّل كلفة الدمار. البصرة طفلة باكية، لها ضفائر تاجيّة مقلوبة ..مدللة ياناس . لاتحتمل أكثر من هودج وجمل ومختارة ! هي،، خشّابة،، ومراكب و،،كسلة ،، و،، جراديق،، لكنها معتزلة وأخت الصفا وحريق أيضا../ 275) ..
*مفصل من هذه المقالة، منشورة في (طريق الشعب) 19تشرين الثاني 2017
*عبد الكريم العبيدي / كم أكره القرن العشرين – معلقة بلوشي – / دار قناديل – بغداد – ط1- 2017