22 ديسمبر، 2024 6:06 م

“كقاعدة عامة… المعلومات التي يتم تلقيها وسكبها بتلاعب وانتظام… لا تساهم.. لا في النمو الروحي والفكري.. ولا تحجب الزيف… فليس لها طباع المنحى… ولا تستند إلى أية حقائق.. ولا حتى نظريات جادة… ونحن نصدقها… لأننا بحاجة… للوهم !!!

التلاعب بوعي الناس يعد من أكثر المشكلات التي اتقدت في عصرنا، وتتناسب الأهمية المتزايدة للقضايا المرتبطة به مع العواقب المدمرة التي تنتجها التقنيات المتلاعبة في المجتمع المؤدية لتدمير المعايير الأخلاقية المقبولة وتغيير القيم والمثل الاجتماعية وانتشار العنف وزراعة الاستهلاك الهائل وما إلى ذلك، عبر ان يتم استدعاء التأثير الكامن على المرسل إليه من أجل تكوين أوهام اجتماعية في فكره ونيته واسلوبه وبشكل مختلف في مصادر مختلفة، ولكن غالبًا ما يتم استخدام مفاهيم وتقنيات التلاعب لندرك انه مجموعة من العمليات الكامنة التي تشكل أو تغير وعي شخص أو مجموعة من الناس أو المجتمع ككل في الاتجاه الذي يقدمه مناور من أجل تحقيق إعادة معينة للنتائج في تشكيل المواقف التحفيزية والمعايير الأخلاقية ونوع السلوك والخصائص النفسية الأخرى للشخص المتلاعب به. ولن نعتبر التلاعب عنصر تحكم أو تأثير ولكن كنظام تحكم أو تأثير، وعند الحديث عن التلاعب يفهم أنه التأثير النفسي الخفي لمرسل الرسالة على المتلقي من أجل تغيير سلوكه ونواياه أو يتم تقديمها على أنها تقنية للتغلب على الانعكاس النقدي للأفراد لغرس الأفكار والأهداف والقيم التي حددها المتلاعب فيها كأساس لإعادة إنتاج الممارسات الاجتماعية، وبما أن المتلقي لا يعرف في كثير من الأحيان عن هذا التأثير فإن سلوكه لا يتزامن مع رغباته واهتماماته. ومع ذلك فإن عملية التلاعب معقدة للغاية ولا يمكن تقييمها في الانقسام الى جيد وسيئ، لأنها عملية مصطنعة الخلق من قبل أوهام الموضوع حول الواقع المحيط أو عن نفسه، وتعتبر القدرة على خلق أوهام والتلاعب كعلامة ترسيم للشخص، ونحن جميعًا نعيش في عالم من الأوهام والتلاعب، وهذا العالم الذي يميزنا عن الحيوانات مفاده أنه مشتق من الأوهام ولا ينفصلان عنهما باعتباره نظامًا للتأثير النفسي يركز على زرع رؤية وهمية للعالم.
نلاحظ أن العنصر الوهمي دائمًا ما يكون متأصلًا في الوعي الإنساني وهو يؤدي وظائف معينة كالتعويضية والتكاملية والتي قد تكون إيجابية الأوهام الاجتماعية غير انها ليست سوى مظهر واحد من مظاهر هذه الظاهرة، لذلك فهيا تمثل مكانًا هامًا في المبادئ السلبية والتي تؤدي دورًا مفككًا ومحبطا. وان الأوهام الاجتماعية ظاهرة اجتماعية ثقافية تتجلى في تكوين أو عدم وجود أو إعادة إنتاج حقيقة غير ملائمة عن الذات وعن الواقع الاجتماعي ككل من جانب فرد معين او من جانب مجموعة اجتماعية وهذه الظاهرة الروحية مرتبطة إلى حد كبير بعالم اللاوعي، وان من اهم العوامل في تشكيل الأوهام الاجتماعية هي تكنولوجيا التلاعب. ويعتقد البعض أن الوهم والتلاعب أكثر إنسانية من القمع المفتوح الذي تسلكه السلطات تجاه المعارضة، لأنهما يحلان محل العنف، ويرون فيهما شكلاً خفيًا من الإكراه، ويعتقد أنه يحرم الفرد من الحرية إلى حد أكبر من الإكراه المباشر، وعلى الرغم من حقيقة أن ظاهرة التلاعب يمكن اعتبارها ظاهرة متناقضة وبفضل تقنيات الوسائط المتخصصة التي مكّنت من تسريع نقل أية معلومات بالإضافة إلى توسيع نطاق وصول الجمهور المستهدف فلذا لا يصبح المجتمع الحديث غنيًا بالمعلومات وينفذ إليها فحسب بل يعتمد عليها أيضا لذلك أصبحت مشكلة التلاعب في مجتمع المعلومات عالمية، ولذا فإن تأثير وسائل الإعلام يمكن أن يعد العالم الداخلي للشخص لقبول أوهام عن طريق استبدال الفردانية بمعايير خاطئة، ونتيجة لتطور المنتجات الإعلامية لهذا تكون لدى الفرد رغبة متزايدة في تأكيد الذات وفهم الهلوسة للعالم والعدوانية مما يؤكد تواجد اعتبارات الامتثال الفطري للوعي البشري الفردي للتأثير الخارجي.
تجدر الإشارة إلى أنه حتى وقبل الوقت الذي كان للإعلام فيه أهمية كبيرة في المجتمع فقد كانت الأوهام الاجتماعية موجودة ولعبت دورًا مهمًا في المجتمع، كما ان القدرة على خلق أوهام ليست ملكًا لوسائل الإعلام وحدها، انما هي إعادة إنتاج الملكية العامة للوعي البشري لتحويل المعلومات في عملية نقلها. وحقيقة ان تشوه وسائل الإعلام بالإضافة إلى الاتصالات الفردية التقليدية، جوهر الرسالة، وبالتالي تسهم في خلق أوهام، وعلى الرغم من أنه لا يوجد شك في أن الإمكانات التقنية لوسائل الإعلام إلى حد أكبر من الوعي الفردي تفتح مجالًا للتشويه المتعمد لرؤية العالم والتفكير الإنساني، ولذلك فأن الأوهام التي يتم إنتاجها ونقلها عبر وسائل الإعلام، تسمى الأوهام الاجتماعية ذات الطبيعة التكنولوجية والتي من خلالها تفهم مجموعة متنوعة من التقنيات المتلاعبة لتشكيل صورة مشوهة للواقع من خلال تفسير الأحداث الحقيقية في وسائل الإعلام باستخدام الرموز الثقافية مثل الأسطورة والقوالب النمطية لحل مشاكل سياسية معينة والتأثير على الرأي العام.
وسائل الإعلام مع انها دوما ما تقوم بنشر المعلومات التي لا تؤدي إلى رفع القيم الروحية ولا تسهم في رفع التوجه الاجتماعي للناس غير انها تكون تهدف من ذلك إلى تحقيق مصالح أخرى غالباً ما تكون متلاعبة، وإن تعزيز تأثير تقنيات المعالجة يتناسب طرديا مع الزيادة في كمية وشدة تأثير تكنولوجيا المعلومات والتي تنقل المعلومات عبر الإنترنت وهم التواصل الدائم والملكية وإنشاء قنوات اتصال مستقرة تتطلب مشاركة مستمرة، وكلما كان لدى الشخص وقت أقل للتفكير والوعي، كلما أدى إلى ضمور القدرة على تكوينه لرأيه الخاص، وخاب في الدفاع عن وجهة نظره. وعند الحديث عن آليات تكوين الأوهام الاجتماعية فأننا نكشف عن جوهر منهجية إدارة الوعي العام، ووصف التقنيات لتغيير موقف المجتمع إلى القضايا المحظورة على الإطلاق للمجتمع، ولكل فكرة أو مشكلة في المجتمع ، هناك ما يسمى بـ “نافذة الفرصة” التي تنتقل تدريجيًا ، بشكل غير محسوس بالنسبة للمجتمع بالانتقال من مرحلة إزالة اللامركزية عن موضوع أو آخر إلى موضوع آخر أكثر قبولًا، وعبر نشر الاوهام يشهد التوزيع الكمي والتنوع النوعي للتأثير الخفي للتلاعب بالوسائط على الوعي الجماهيري على توزيعها على نطاق واسع ومثل هذا التأثير المحجوب هو تقنية غير مرئية لإدارة الحياة العامة والتي تتخلل اليوم حرفيًا جميع مستويات التفاعل الاجتماعي من السياسية والقانونية إلى الشخصية، وعبرها يتم تشكيل رجل المجتمع الحديث ويعمل في فضاء اوهام وتلاعب المعلومات الضخمة التي أنشأتها وسائل الإعلام.
كقاعدة عامة المعلومات التي يتم تلقيها بانتظام لا تساهم في النمو الروحي الشخصي، وليس لها طبيعة عملية المنحى، لا تستند إلى أي بحث ونظريات جادة ، وتثير مشاعر قوية ، وتحتاج إلى تحديث مستمر. وإن مشكلة التأثير المتلاعب على الوعي الجماهيري بهدف لتشكيل صور وهمية معينة من خلال وسائل الإعلام خطيرة للغاية أيضًا لأن مثل هذا التأثير يمكن أن يصبح سلاحًا نفسيًا خطيرًا للمعلومات في أيدي القوى المدمرة، وإن الأوهام الاجتماعية التي تم إنشاؤها وإدخالها عن قصد باستخدام تقنيات التلاعب في الوعي الجماهيري لا تؤثر على أداء المؤسسات والأنظمة الاجتماعية الفردية فحسب، بل تؤثر أيضًا على المجتمع ككل، ولذلك لا تعد تحسين كفاءة الإعلام وثقافة المعلومات ككل أمرًا مرغوبًا فيه اليوم، وانما تعد جانباً ضروريًا للحفاظ على أمن المعلومات وبقاء لكلا من الانظمة والدول بأكملها. وكآلية تحمي المجتمع من التأثير الاستعبادي للتكنولوجيات المتلاعبة، فيمكننا اقتراح طريقة لتشكيل “مرشحات” غريبة في الوعي الجماهيري والتي تجعل من الممكن التعرف على التلاعب وبالتالي منع تكوين أوهام اجتماعية غير مرغوبة في المجتمع، وأساس هذه الالية يكون عبر النشاط التربوي والتعليمي بتقديم المعلومات للجمهور حول الأساليب والأشكال والنتائج المحتملة لكل من الآثار الصريحة والكامنة على الوعي الجماهيري، واضافة الى شرح مختص لآليات العمل التكنولوجية الداخلية المدمرة للدولة والمجتمع، ووصف للأشكال الحماية من هذا النوع الاوهام والتلاعبات وحجب تأثيرها على المستوى الفردي والمجتمعي.