بقلم اليسا جي روبن
ترجمة عباس منعثر
لعشرة اشهر، تصارع سياسيو العراق من أجل تشكيل الحكومة دون فائدة، مما أدى الى غرق البلاد في الشلل السياسي أكثر فأكثر برفقة تفاقم مشاكل عديدة منها الجفاف (بسبب قطع تركيا وايران للمياه) ومطبات الفساد والبنى التحتية المتهالكة. وبعد انهيار المفاوضات في حزيران، ازداد الصراع الآن بتنافس الفصائل السياسية الرئيسية للحصول على السلطة. نتيجة لذلك، انسحب محبطاً رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، رئيس أكبر كتلة في البرلمان من المفاوضات، ثم وجّه اتباعه على النزول إلى الشارع للحصول على بعض المكاسب. تماشياً مع دعوته، تم نصب الخيام التي منعت البرلمانيين من الوصول إلى البرلمان لأكثر من أسبوعين للحيلولة دون التصويت على اية حكومة جديدة (بسبب هروب البرلمانيين من المنطقة الخضراء).
لم تكن هذه المرة هي المرة الأولى التي يقوم فيها الصدر بالتلويح بالعنف لكي يحصل على ما يريده. سابقاً، بادر مقتدى الصدر الى قيادة المقاومة الشيعية المسلحة للاحتلال الأمريكي في الفترة من 2003 الى 2009، ولذلك يخشى المسؤولون الأمريكيون الآن من أن العراق قد ينزلق الى دوامة العنف وعدم الاستقرار مرة أخرى.
ومما يثير القلق، فإنه على الرغم من جهود أمريكا لتوجيه الحكم الى مركز قوة شيعي غير تابعٍ إلى إيران بل متوجها أكثر نحو الغرب، فإن الصدر وغرماءه السياسيين الشيعة يتساوون في تفضيل نظام سياسي مؤسس على سلطة رجال الدين كما هو حاصل في الثيوقراطية المبنية على الطراز الإيراني. يقول روبرت فورد (وهو دبلوماسي امريكي سابق في العراق وباحث الآن في جامعة ييل ومعهد الشرق الأوسط): “نتوقع (نتطّلع الى) بداية النهاية للنظام السياسي الذي أسّسته الولايات المتحدة في العراق”.
كان العراق قد بدأ بالترنح لعقود بسبب الازمات المتتالية، وهي دورة تتناوب دون بصيص أمل بانتهائها. فبعد الغزو الأمريكي الذي أطاح بصدام حسين عام 2003، اندلعت حرب أهلية، ثم استولى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على أجزاء كبيرة من البلاد.
نتج عن ذلك أن ظلّ العراق، على الرغم مما يملك من ثروات ومن احتياطيات نفطية هائلة، غارقاً في الفوضى السياسية يصاحبه ركود اقتصادي جعل شبابه العاطلين عن العمل عرضةً للاغراء من قبل الحركات المتطرفة ومما سبّب في هروب الاستثمار او حذره من الوجود بقوة في العراق. تزامناً مع ذلك، توجهت دول الخليج بقيادة الإمارات العربية المتحدة الى تطبيع العلاقات مع إسرائيل ومضت لتكون مركز الثقل الجديد في الشرق الأوسط من الناحية السياسية والاقتصادية. من جهتها، تبدو رؤية الولايات المتحدة لمستقبل العراق في تراجع أكثر فأكثر. فمن المعلوم، ان إدارة الرئيس جورج دبليو بوش عام 2003، قد حاولت تشجيع القادة السياسيين العراقيين على إنشاء نظام نيابي يتقاسم السلطة ويتبادلها بشكل أكثر عدالة بين المكونات الرئيسية الثلاث في البلاد: الأغلبية الشيعية والأقلية السنية والكردية. يقول فورد: “كان الأمريكيون يأملون في تحقيق تحالفات عابرة للطوائف، تتعاطى الشأن السياسي بين الجهات السياسية(وليس الربحي والعسكري والطائفي)، غير أن الانقسامات الطائفية والعرقية انتصرت وازدادت: “بدلا من ذلك، تأجج الخلاف بين المجموعات الطائفية والعرقية فيما يخصّ تقسيم عائدات النفط في العراق.”
وهكذا، فإن الأزمة التي تحيق بالعراق في الوقت الحالي تضع مقتدى الصدر وأنصاره وهم في الغالب من الشيعة ضد تحالف الأحزاب الشيعية الأخرى (أي الاطارالتنسيقي) التي تضمّ الميليشيات المرتبطة بإيران في صراع مرير على السلطة. كانت حكومة تصريف الأعمال (الكاظمي)، مترددة في استخدام العنف، غير قادرة على إيقاف حصار الصدر (دخوله للبرلمان)، مما سمح للصدر أن بجعل البلاد كلها رهينة بقائمة شاملة من المطالب: حل البرلمان، وإجراء انتخابات مبكرة ، وإدخال تعديلات على قانون الانتخابات وربما اجراء تعديلات على الدستور. لكن في يوم الثلاثاء كان رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي قد دعا قادة القوى السياسية جميعاً إلى المبنى الحكومي “لإيجاد حلول للأزمة السياسية الحالية”. يقول النائب الكردي المستقل محمود عثمان عن محاصرة الصدريين للبرلمان: “كأنه انقلاب سلمي أو ثورة سلمية. أقول سلمية لأن أتباع السيد الصدر لا يحملون أسلحة. فالصدر أقوى من البنادق. إنه الآن الرجل الأقوى في الشارع، وهو قادر على فرض إرادته على الآخرين “.
حتى اللحظة، ليس هناك عنف، والحصار للبرلمان سلمي. إذ أن عدة آلاف من الصدريين يملأون المخيمات بالتناوب. انهم يتجولون ويستمعون إلى خطب رجال الدين المنددين بالفساد الحكومي ويأكلون الشاورما والعنب والبطيخ الذي وصلهم عن طريق تبرعات المتعاطفين. وها هم يستريحون في الخيام من حرارة النهار اللاهب في العراق، منتظرين التعليمات التالية التي تصلهم من مقتدى الصدر عبر تويتر (تغريدة) وهي وسيلة الاتصال المفضلة لديه. في خضم ذلك، بقي السنة والكرد على الهامش. يقول أستاذ العلوم السياسية مؤيد جبير المحمود: إن عدداً كبيراً من السنة يُعبّرون عن شعورهم بالحرمان من حقوقهم ولا يرون أي دور يستطيعون القيام به في مستقبل العراق. ويتساءل الكثيرون فيما اذا كان من الأفضل أن يتقسم البلاد ويحصل السنة على اقليمهم، في معقل السنّة مدينة الرمادي في الانبار. ويكمل المحمود: “مع شديد الأسف، ليس هناك مستقبل آمن ومزدهر لبلدي”، واصفاً العراق بالدولة الفاشلة التي تسيطر عليها الميليشيات المرتبطة بإيران: “نحن الآن قلقون من انتقال الدولة من سيطرة الميليشيات إلى سيطرة الصدر”.
بالانتقال الى المواقف الأخرى للولايات المتحدة ومعظم الدول المجاورة، فقد التزمت الصمت إلى حد كبير عما يحدث من فوضى في العراق. لكن إيران هي الوحيدة التي حاولت التدخل والتقت مع خصوم الصدر من الشيعة وشجعت المفاوضات رغم أن الصدر، الوطني، قد اتخذ موقفاً مضاداً للنفوذ الإيراني بقوةٍ خاصةً في السنوات الأخيرة. غني عن البيان، أن آخر ما تريده إيران هو الحرب الشيعية الشيعية لكي لا تقع في خطر انفلات السلطة من يدهم، الأمر الذي قد ينتهي إلى تهديم نفوذ طهران في العراق نهائياً. رغم ذلك، كان هناك عدد لا بأس به من مواقف للصدر تتماشى مع طهران. فكلا الطرفين يريد اخراج القوات الأمريكية المتبقية البالغ عددها 2500 من العراق، وكلاهما يعارض التطبيع إسرائيل وكلاهما يجرّم المثلية الجنسية. وكما ذكرنا، فقد لجأ الصدر إلى التظاهرات الجماهيرية سابقاً، لكنه هذه المرة يستخدم الاحتجاجات في الشارع لإجبار البلاد على إجراء تصويت جديد رغم اكتمال الانتخابات السابقة مما قد يعيد نوابه إلى السلطة من جديد.
قبل ذلك، وبالتحديد منذ عشرة أشهر، كانت نتائج الانتخابات البرلمانية جيدة بالنسبة للصدر، فقد فاز تياره بأكبر عدد من المقاعد متجاوزاً القوى السياسية الأخرى وكاد أن يشكل ائتلافاً عابراً للطوائف والقوميات مدعوماً من الكرد والسنة. ما تبقى من مشروع الصدر هو الخطوة الأخيرة أي طرح مرشح حكومة الأغلبية (يقصد انقاذ وطن) للتصويت لكي يحصل على الموافقة. لكن خصوم الصدر الشيعة (الاطار التنسيقي) رفضوا حضور جلسة البرلمان وحرموه من النصاب القانوني اللازم للتصويت. وبسبب الإحباط، طلب الصدر من نوابه الاستقالة احتجاجاً على ذلك. ان الأحزاب التي حصلت على عدد أقل من الأصوات وخاصةً خصومه الشيعة (الاطار التنسيقي) قد استحوذت بعد ذلك على المقاعد التي تركها أتباع الصدر، مما قد يمنحهم السيطرة على الوزارات والمكاتب الحكومية ويترك الصدر خارج السلطة. فما كان من الصدر الا ان دعا اتباعه الى حصار البرلمان لمنع التصويت على حكومة جديدة.
تقول رند الرحيم (سفيرة العراق السابقة في الولايات المتحدة ورئيسة مؤسسة العراق المدنية): “في هذا الوقت قرر مقتدى الصدر انه إذا لم يُسمح للإجراءات الديمقراطية أن تُستكمل، فإن الرد سيكون ثورة”.