23 ديسمبر، 2024 8:21 ص

الموضوعية في كتابة التاريخ

الموضوعية في كتابة التاريخ

تكشف اغلب الدراسات التي تتناول الموضوعية في كتابة التاريخ، غياب النهج الموضوعي عن مجالات الدراسات التاريخية. وهذا الكشف خطير، لانه يوضح عمق الازمة الحالية التي انعكست على تاريخنا بشكل واضح. فقد تحول التاريخ الى ميدان تمارس فيه الافكار المختلفة حريتها في التزييف دون رقيب ودون رادع علمي او اخلاقي او سياسي.
ان الاهواء الذاتية، هي التي تتحكم في نقل صفحات التاريخ الينا، وهذه مأساة حقيقية لانها تحجب عن الواقع رؤية جذوره والتعامل مع ماضيه بشكل موضوعي يلقي الضوء على الحاضر من اجل فهمه وفك الغازه وقراءة عناصر المستقبل التي تتشكل في رحمه.
ان اوراق التاريخ هي بشكل او بآخر تملك مفردات قاموس الحاضر اليومي وداخل سطورها واحداثها ترقد أجنة المستقبل.
التراكمات الذاتية الضيقة والحزبية الانانية، تزيف هذه الاوراق وتغير من معالمها، تقدم لنا تاريخاً غير واضح المعالم، ترسم لنا صورة لابطاله لا تطابق واقعهم من قريب او بعيد.
هذا الارتباك في التعامل مع اوراق التاريخ، يفرز لنا تاريخاً ليس له علاقة بالحقيقة، هو رؤى ذاتية خالصة لا يمكن اعتمادها باعتبارها مصادر حقيقية للاحداث التاريخية، او الشخصيات المؤثرة التي شكلت وقائعه.
ودائماً عندما يقرأ المرء انتاج هذه المدارس الذاتية غير الموضوعية، سيسأل:- اين الحقيقة في هذا الركام المصاغ بطريقة هدفها اثبات عقيدة سياسية ما او الترويج لفكرة عقائدية معينة؟
ان الكتابات التاريخية غير الموضوعية تسلب اشياء جوهرية من تاريخنا ولاسيما تاريخ ادوار رموزنا الوطنية، لا تلمس دورها الحقيقي في صياغة حركة سياسية لا تحاول هذه الدراسات نقل صورة موضوعية عن كفاحهم وافكارهم وانما هدفها منذ سطورها الاولى الهجوم والتشهير من اجل هدف وصولي محدد يدخل اصحاب هذه الدراسات في تضاد سياسي فكري، لذلك فان هدف كتابات هذا النفر تصفية حسابات لا اكثر..
هذه الطريقة ليس لها علاقة بالكتابة التاريخية، انها تدخل ضمن المناورات السياسية، لذلك من العيب والخطأ الشديد اطلاق صفة كتابة تاريخية على هذه الدراسات، من الافضل وصفها باسمها الحقيقي باعتبارها محاولة لهدم فريق سياسي ونسف اساسه الفكري وادعاءاته التاريخية.
لذلك، اي مؤرخ منصف يريد الاقتراب من تاريخ هذه الشخوص او الرموز الوطنية لا يهتم لهذه الكتابات، لان جهد مؤلفيها سياسياً تسقيطياً وليس تاريخياً، منحازاً وليس موضوعياً، فلم يكن هدفه اجلاء الحقيقة او الاقتراب منها.
وهناك كتب اخرى اصدرتها احزاب عن بعض شخوصنا الوطنية تستعمل منهج هذا النفر في التضليل بطريقة مضادة، مدح هذا الشخص وتأليه افعاله واجتهاداته، وتصويره بشكل يقترب من القديسين واولياء الله الصالحين.
هذه الصورة بدورها تبعد عن الكتابة التاريخية، انها تقترب من لغة الحكايا الشعبية التي يصوغها الوجدان الشعبي عن الابطال الذين يحبهم. ويضاف الى هذه الطريقة الانحياز السياسي الذي يقتل اي موضوعية ويقضي على اية رغبة في رؤية الاشياء كما هي وفي سياقها التاريخي والاجتماعي والاقتصادي.
هذا التطرف لا يسمح لنا بتكوين صورة موضوعية حقيقية عن هذا الرمز او ذاك، تبين ما لهذا وما عليه وما لذاك وما عنه.. اننا حتى الآن لم تتوفر لدينا دراسات موضوعية تاريخية تؤرخ لهذه الشخصيات في اطار من الموضوعية العلمية، يخلو من التطرف السياسي والمذهبي ومن التطرف العاطفي.
اننا بالتأكيد نحتاج لدراسة تاريخية نقدية تضع هؤلاء الشخوص الرموز كلٌ في اطار ظروفه الذاتية وفي اطار الواقع الذي تحرك عليه، تقدمه لنا كما هو بدون مبالغات حزبية عقائدية ولا ذاتية. اننا بالفعل نحتاج معرفة هذه الشخصية عن قرب، كيف كانت تفكر، ما هي العوامل التي اثرت في تكوينها، وما هي الظروف العامة التي حكمت توجهاتها ومساراتها وحركتها السياسية والفكرية.
ان شخصية بحجم نوري السعيد او عبد الكريم قاسم او عبد السلام عارف وحتى صدام حسين.. لا نجد عنها في المكتبات الا كتب غير موضوعية، وكتب الاتباع والمريدين التي هي الاخرى بدورها لا تقترب من الحقيقة ولا من اوراق التاريخ الصحيحة.
غياب التيار الموضوعي عن التاريخ مأساة لا يضاهيها الا غياب نفس التيار عن الواقع الراهن، واتصور انه في ظل نمو مؤسسات علمية تحاول نقل الواقع نحو استكمال كياناته وشخصيته، فان هذا التيار سينمو وسيفرض نفسه ليس على التاريخ فقط وانما على صيغة الواقع الحالي.
اننا نحتاج لنمو تيار الموضوعية في حياتنا، وهذه الحاجة تبرز كلما نظرنا الى تاريخنا التي تقدمه إلينا التيارات المنحازة التي تصر على تقديمه إلينا كما تشاء وكما تهوى. وهي تهدف من هذه الصورة الذاتية للتاريخ التحكم في الواقع حتى تصيغه على نفس الطريقة التي صنعت من خلالها احداث التاريخ.
ان الموضوعية مطلوبة ليس لقراءة التاريخ وانما لفهم حياتنا المتشابكة والمعقدة والتي يصر كل فريق ان يرسمها بألوانه الخاصة التي ليست لها علاقة بالحقيقة ولا بالتاريخ.