23 ديسمبر، 2024 5:32 ص

المكر البرمكي: من قتل يحيى بن عبد الله العلوي؟

المكر البرمكي: من قتل يحيى بن عبد الله العلوي؟

كانت الرابطة وثيقة بين هارون الرشيد والبرامكة، وكانوا أثيرين لديه ويثق بهم، ويقربهم منه، ويمنحهم الصلاحيات الواسعة في ادارة الدولة. لقد تولّوا الوزارات ورئاسة الوزاراء، وتطاولوا في الامر والنهي والتعيين والعزل والتصرف في الاموال العامة، حتى غلبوا الخليفة على الخلافة، واصبحت الدولة دولة برمك الفارسية وليست دولة الخلافة العباسية.
من أهم القضايا التي جعلت الرشيد يعجل بالبطش بالبرامكة والتخلص من نفوذهم واساءآتهم : استغلالهم أو توظيفهم قضايا آل البيت لمصالحهم الذاتية، ومآربهم الفارسية. توظيفاً يضر بآل البيت وبالخلافة العباسية على حد سواء، لقد كانوا سعاةً لخلق الفتنة وألإحتراب بين ابناء العمومة العباسيين والعلويين. وهذا ألأمر اقلق الرشيد قلقًا بالغًا، لم يطق معه صبرًا على مايجري، فقرر الوقوف بحزم واستخدام مايتاح له من نفوذ، لإعادة الامور الى نصابها (شلع قلع)، وإنهاء تغول البرامكة.
توظيفهم لقضايا آل البيت يحتاج منّا وقفة بحث وتأمل، لأن هنالك توهم شائع يتبادر الى أذهان قطّاع واسع من الناس: ان الرشيد قاتل أئمة أهل البيت!. بمقابل أن البرامكة محبّون لأهل البيت. كيف؟ ولماذا؟. تعالوا لننظر بموضوعية الى الاحداث المتعلقة بهذه المسألة.
دولة الخلافة الأموية كانت من حيث ألإدارة والقيادة، سواء في العاصمة أو في الولايات، دولة طابعها عربي، اعتمدت فى إدارة مفاصلها ألأساسية على الكفاءآت العربية. فاستعان الخلفاء العباسيون بالفرس وأدخلوهم في الوزارات وشؤون البلاد مكافأة لهم. لأنهم وقفوا مع العباسيين في القضاء (وبوحشية بالغة!) على الدولة ألأموية. ووجد البرامكة عند العباسيين الفرصة مواتية لهم، لإعادة الامجاد الفارسية. فسطع نجمهم، وابعدوا الكفاءآت العربية من المناصب. واستخدموا بدلاً منهم انصارهم من الفرس ومتعصبيهم الشعوبيين، وتغلغلوا في كل مفاصل الدولة المهمة: المالية والإعلامية والعسكرية والأمنية، بل وحتى بلاط الخليفة ذاته. فكان البرامكة بمثابة طليعة متقدمة لحركة سياسية واسعة لبعث القومية الفارسية في العراق والمنطقة. وعملية التفاف فارسي على الخلافة.
غدت دولة الخلافة العباسية العربية تحت سلطة البرامكة، دولة العنصر الفارسي . وكلما تمكن البرامكة من الدولة أكثر، ازداد وضوح اهدافهم، في بعث الثقافة والعادات والتقاليد والنظم الفارسية المجوسية، وتمجيد ملوك الفرس والقومية الفارسية، واظهار الأحتقار لكل ماهو عربي: شعراً وفكرًا وملبسًا وعادةً. حتى سمى الجاحظ حال الدولة آنذاك: دولة عجمية خراسانية (البيان والتبيين 2/248). ”
لقد استحكموا في السلطة تمامًا، ولكي يضمنوا عدم ظهور منافس ينتزع منهم السيادة والريادة فعليهم مواصلة اضعاف وتهميش (العرب). وقد شرعوا بذلك من قبل مع قياداتهم الفارسية، حينما قادوا الحركة العسكرية المسلحة ضد الأمويين: فقاموا بضرب التجمعات العشائرية القوية بعضها ببعض، وتأليب الموالي الفرس على القبائل العربية الاصيلة، وإثارة النعرات العنصرية والعرقية بين اطياف الشعب. وما فعله ابو مسلم الخراساني لهو نموذج واضح. حيث عَمَدَ على تمجيد العنصر الفارسي بين الأهالي في المشرق الاسلامي، واثارة الكراهية نحوالعرب. وهذه النعرات العنصرية والقومية وغيرها، هي من ابشع وسائل التدميرالداخلي للأمم والمجتمعات. “وقد عانى العراقيون مثيلاً للنعرات المدمِّرة، في النعرة الطائفية عام (2005-2007)”.
كانت سياسة الرشيد في بداية عهده، تقوم على تجاوز الخلافات، وعلى المسامحة والصفاء والرفق بالعلويين. فبذل مشاعر الود والامان لهم. ولاثبات حسن النوايا، استوزرعلي بن يقطين بن موسى (احد اعيان العلويين توفى عام 182هـ بعمر يناهز 57 عاماً في مدينة السلام بغداد). واعلن العفو عن السجناء، ورُفع الحجز عن من كان رهن الاحتجاز من العلويين وغيرهم. غير ان هذا الصفاء لم يدم طويلا.
فقد حدث أمران (في فترتين متباعدتين نوعمّا)، عكرا هذا الصفاء، أولهما: وفاة يحيى بن عبد الله بن الحسن الحسن بن علي بن ابي طالب. (وهو موضوع البحث). والثاني: وفاة ألإمام موسى بن جعفر الكاظم (سيأتي البحث فيه لاحقا). والملفت للنظر انه في هذا الإطار، اُريد لقطّاع واسع من الناس ان تعتقد ان الفاعل المتورط في وفاتهما، هو هارون الرشيد، (دون دليل أو تحقيق). ومن ثم استحلوا بذلك: التشهير به وذمّه ولعنه وسبّه.
حادثة يحيى بن عبد الله :
هو احد زعماء البيت العلوي حيث خرج عام 176هـ (ثائرًا!) على الخلافة في بلاد الديلم.( شمال الهضبة الإيرانية قرب بحيرة قزوين وهي منطقة بعيدة عن العاصمة بغداد، وتضاريسها الجبلية مؤهلة لقيام “تمرد أوعصيان فيها”) وتجمع حوله المتشيعين لآل البيت، وأعلن المبايعة لنفسه هناك. ومن ثم قويت شوكته. وأدرك الرشيد خطورة الموقف، وكان راغبا في عدم اهدار الدماء، وان يُنهى التمرد أو الثورة (سمّها ما شئت) سلمًا. فأرسل الرشيد إليه الفضل بن يحيى البرمكي (اخو الرشيد من الرضاعة)، في خمسين ألف مقاتل. واوصاه بأن لا يألوا جهدًا في حل وانهاء الثورة سلماً، دون إهراق دم. واقناع الثائر يحيى بن عبد الله بترك الخروج على الدولة، وإرجاعه إلى حظيرة الخلافة. واستطاع الفضل بعد محاولات أخذ ورد، استمالة يحيى واقناعه بالصلح. فاستجاب يحيى وأبدى إستعداده للإستسلام، شرط إحضار ضمان أمان له من عند الرشيد. فطلب يحيى أماناً بخط الرشيد، فكتب اليه الرشيد الأمان بخطه، وشهد فيه القضاة والفقهاء وكبار بني هاشم. وأرفقه بالكثير من الأموال والهدايا. فنجح الفضل في حلّ الاشكال سلمًا كما اوصاه الرشيد. واعتبر ما قام به الفضل البرمكي من أفضل أعماله حيث جنب البلاد الإحتراب الداخلي، وحقن دماء ابن عمّه. ولما قدم يحيى بن عبد الله الى بغداد، تلقاه الرشيد بكل الحفاوة والحب والإكرام. واغدق عليه العطايا والهدايا، وانزله في دار الفضل بن يحيى البرمكي”قصر رئاسي”.
وبعد ان انزله عند الفضل مؤقتا، انزله في منزل خاص، وأجرى عليه الهدايا والارزاق عن طيب خاطر، وكان يتولى امره بنفسه، ويجالسه ويحادثه ويرعاه. وامر وجهاء البيت العلوي، وكبار مسؤولي بلاط الخلافة، بزيارته والتودد اليه والسلام عليه.
طالما تولى البرامكة الوشاية والسعي لدى الخليفة، لزرع التوجس والكراهية عنده من ابناء عمّه العلويين، المنافس البديل الذي لا يجب عليهم اغفاله. والكيد لزعاماته العربية البارزة، التي يمكن ان يلتف حولها اتباع و انصار، ومحاولة تصفيتهم.
بعد فترة من الزمن بدأت زيارات ولقاءآت العلويين والاتباع ليحيى، تثير حولها الريبة والشك. وبدأت تصل للرشيد الاخبار والوشايات، (الصحيح منها والملفق) التي تؤكد ان يحيى اظهر ما يوجب نقض الأمان الذي اُعطي له سابقًا، وانه يعمل سرًا لخلع الخليفة، وتنصيب نفسه بدلاً عنه. وأن عنده من يتولى (خلايا) تقوم بهذه الدعوة . فأمر الرشيد بحبس يحيى بن عبد الله، عند جعفر بن يحيى البرمكي، “فيما يسمى اليوم بالاقامة الجبرية”. كي يكون تحت رقابة احد اعمدة الأسرة البرمكية. (المفترض انها عين للخليفة!). “لاحظ قارئي الكريم انه حتى هذه اللحظة وبرغم كل ما وقع فيه يحيى من الخروج على الخلافة في زمن المهدي، والخروج في زمن ابنه الرشيد، وبرغم الاخبار التي تصل الرشيد عن “التآمر” أو نقضه لعهد ألأمان، مازال الرشيد لا يريد تصديق ما يسمعه. وما زال محافظا على الود مع ابن عمه، ويسكنه القصور الفارهة المخدومة”.
مكيدة شيطانية برمكية:
قال المؤرخون: ذات ليلة اجتمع يحيى بن عبد الله مع جعفر البرمكي (البرامكة وزراء الدوله المتنفذين فيها)، وما زال به حتى أطلق جعفر سراحه. وزوده بالمال اللازم لخروجه من بغداد، وبمرافقين كأدلاء للطريق. فوصل الخبر للرشيد، فغضب غضبًا شديداً، لأنه اعتبر هذا التجاوز خيانة عظمى للدولة:
1- ان هذا التصرف في أحد أوجهه اشارة واضحة لتآمر أو تعاون وتواطؤ آل برمك مع الخصوم العلويين (الخارجين على الدولة) والذين يهدفون لإزاحة العباسيين عن الخلافة.
2- خيانة اوامر الخليفة بإطلاق سراح (ثائر خطر) خرج على الدولة واشغلها وكلفها مبالغ طائلة. واطلاق سراحه بدون اذن الخليفة، الذي أمر بالتحفظ عليه وحبسه، قضية تمس أمن الدولة. وهذا ما لاينبغي ان يتسامح فيه الرشيد، لأنه يعني ان أمر الخلافة قد خرج من يده.
كتم الرشيد غضبه. ( وكان يحسن كتم الغضب)، واعتبر هذا الخطأ الجسيم خطيئة تضاف الى رصيد الاخطاء والتجاوزات التي تلبّس بها جعفر البرمكي وباقي الأسرة البرمكية. وربما عجلت هذه الحادثة بوقوع ما يسمى نكبة البرامكة. (راجع البحث السابق بعنوان، “البرامكة: خيانة، ودعوة مظلوم”). وأما يحيى بن عبد الله فقد القي القبض عليه، واقتيد الى الحبس.
لماذا اطلق جعفر البرمكي سراح يحيى:
1- لم يكن اطلاق جعفر البرمكي ليحيى بن عبد الله ، ومخالفته قرار الخليفة لإثبات قوته وسلطته الذاتية إزاء قوة وسلطة الخليفة – كما يزعم البعض- فقد اثبت جعفر قوته وسلطته على الخليفة من قبل في مواقف عديدة، وشاعت له سطوة في البلاد. ولا حاجة لمزيد تبجح واستعراض، في قضية غير مضمونة العواقب.
2- ولم يكن إفراجه عن يحيى بن عبد الله تعاطفًا دينيا، مع سيد من سادات البيت العلوي، – حيث يتوهم البعض ان البرامكة محبون لآل البيت- وانما هو ستار تستروا به لإثارة الفتن، ولضخ الضلالات والبدع في الأمّة. وهم يعلمون ان التستر بادعاء المحبة لآل البيت، يجعلهم مقبولين عند الناس. ووشاياتهم على وجهاء البيت العلوي، وتوظيفهم لقضاياهم، تكشف زيف ادعاء المحبة. والسؤال هنا يفرض نفسه : ” من كان شأنة حمل راية العنصرية الفارسية، هل سيحفل بحياة عربي او قرشي هاشمي مهما علا قدره؟. منطق ألعنصرية لا يقر ذلك).
3- ولم يكن رقة من جعفر وتعاطفا مع يحيى تعاطفًا انسانيًا. (كما يعزوا العديد من المؤرخين!). فإن كانت رقة هي سبب الأطلاق، فلِمَ لم يأخذ عليه التعهد، بعدم الخروج المسلح مجدداً على الدولة؟. وإن كان رق لحاله كان ألأولى به ان يتوسط لدى الخليفة، وليلتمس منه اطلاق سراحه. فجعفر مسموع الكلمة لدى الخليفة. ومن المستبعد أن يرفض له الرشيد طلبا. ثمّ إنّ هذه الرقة لا تستقيم مع تاريخهم وقياداتهم الفارسية التي تشهد بالقسوة، وبالفضائع التي اقاموها في مشرق العالم الاسلامي، بحق العرب (الصغار والكبار، الذكور والاناث) وبخاصة ضد الامويين، الى درجة الابادة الكاملة.
من كانت هذه قسوته على العرب، كيف يتعاطف مع ثائر عربي سجين يطلق سراحه، ليقود (ثورة أو تمرد) على دولة هم حكامها وقادتها. إن هذا لا يتسق مع سعيهم الدائم بإتجاه الهيمنة والاستحواذ الكامل على السلطة بدون منازع. إن هذه الهيمنة لا تتماشى مع وجود عناصر ثائرة على السلطة، تشكل خطرا وعائقًا امام الطموحات السياسية للبرامكة في “فارسَسَت” الخلافة. إذ المتوقع ان يتخذوا من الإجراءآت ما هوعلى العكس تماماً، اذ يستوجب عليهم التحرك مسبقًا لردع ومنع اي تحرك عسكري، وعدم التهاون مع العناصر الثائرة. فكيف إذًا يُطلق سراحه، ويمول بالمال، وبأدلاء طريق الهروب؟.
اراد جعفر البرمكي بتهريب يحيى وتمويله بالمال والأدلاء، تحقيق عملية اغتيال سياسي له وللخلافة الهاشمية. باستغلال حالة هذا العنصر الثائر من البيت العلوي للتخلص منه أولاً (وقد رأى البرامكة إكرام الرشيد له). وللوقيعة بين الهاشميين، (البيت العلوي والبيت العباسي) ثانياً. فجعفر البرمكي يدرك ان خروج يحيى على الخلافة هو عملية إعادة تأجيج للصراع العلوي العباسي، الذي هدأ واستقر في عهد الرشيد. وهذا الصراع الجديد سيضعف طرفي الصراع، ويجعل كل منهم يأكل الآخر. فينفرد البرامكة المحتلين بالدولة حيث لا منافس لهم يحسب له حساب. والتساؤل هنا موجه لمن يقول ان البرامكة محبون لآل البيت، هو: هل يرتجى منهم بعد ان يتمكنوا منها، بطموحاتهم الفارسية، ان يسلموها بعد ذلك من جديد لأي ثائر من الهاشميين (علويين أو عباسيين)؟!”.
مكاسب برمكية:
1- لطالما إستغلوا مخاوف الخليفة من خروج العلويين على الخلافة. ومن ثم يلجئوه للإعتماد عليهم اكثر فأكثر كمنقذين ومطفئين للفتن الداخلية. وهذا ما فعلوه في مسألة خروج يحيى بن عبد الله في منطقة الديلم. وبما ان البرامكة اقرب الناس الى الرشيد ويشيرون عليه، فمن الطبيعي ان يشيروا عليه، أو يؤيدوه بتوجيه الفضل البرمكي تحديدًا. ومنحه للصلاحيات لمواجهة الثائر واطفاء الفتنة. وهذا يعني انهم كانوا مدركين لكيفية إنجاز النصر على يحيى بن عبد الله، والذي سيتم من خلال الاتصالات الواعدة معه، ومن خلال تحييد واستمالة الحكام المحليين في مناطق الديلم (الحاضنة الشعبية) بالترغيب والترهيب، وإغداق العطايا عليهم، لاقناعهم بإخراج الثائر من ارضهم، وجعله يفضل السلامة والاستسلام. وهذا ماحصل، وكان للفضل البرمكي ما أراد.
2- تحرك الفضل البرمكي يشير الى الثقة في قدرتهم على انهاء الثورة المسلحة وسحق العارضة. ولذلك اصطحب الفضل الشعراء والرواة والادباء والابواق الدعائية الاخرى، كقنوات اعلامية، قاموا بتمجيد اعمال الفضل (قبل وبعد الانتصار). فالمكاسب هنا تجيّر لصالح سمعة البرامكة، وليس للخليفة الرشيد صاحب الأمر والتوجيه. ولا حبًا في الوطن بانهاء تمرد يهدد استقرار الخلافة.
3- ارتفاع نجمهم بالنصر، ورفع رصيدهم في اوساط الرأي العام. والحصول على المزيد من المكاسب في النفوذ والسلطة. فحصل الفضل ابتداءً، على تفويض بكامل ولايات المشرق الاسلامي و بالتصرف في الحملة وما رصد لها من اموال كيف يشاء.
4- الابقاء على حياة الثائر يحيى بن عبد الله. تساوقاً مع الحالة الراهنة التي أمر بها الرشيد، قد تلهمهم بكيد جديد، وربما يستفيدون من الحالة بشكل أو بآخر مستقبلاً. وهذا لا يعني ان يحيى يأتمر بأمرهم وخاضع لهم (حاشاه). ولكنهم يستغلون ظروف الثائر والثورة، ويوظفونها لتحقيق المصالح الذاتية. وهذا ما حصل من جعفر البرمكي مع يحيى بن عبد الله حين اطلق سراحه، وزوده بالمال، قبل ان ينكشف الامر ويبلغ الرشيد الخبر.
الوقائع تبين ان البرامكة الفرس إنتهجوا سياسة (صناعة الخارجين على الخلافة، اوعلى ألأقل استغلال الخارجين ودعمهم)، وما زالت هي نفس السياسة المعتمدة اليوم في صناعة “داعش وغيرها من التنظيمات المسلحة” فهناك من يصنعهم ويستخدمهم ويدعمهم. وقد يعمد الصانع أو ألممول الى تدمير اجزاء من نشاطهم وطاقاتهم. لاغراض تكتيكية أوسياسية، قد يراها ضرورية. وذلك مثلاً: حين يصلب عودهم ويشتد خطرهم، او يتجاوزوا الخطوط الحمرالمرسومة لهم، أو إنتهاء دورهم المرحلي. ولكنهم على اي حال غالباً مايبقون على حياة القادة البارزين من الخارجين، لضمان استمرار عودتهم وعودة نشاطهم مرة اخرى عند الحاجة. ولتبقى خيوط اللعبة بأيديهم.
وفاة يحيى بن عبد الله:
ويبدو انه لم يعش طويلاً بعد تراجعه عن حركة الخروج، بل الظاهر انه توفي في نفس العام. وكان عمره آنذاك 65 سنة واختلفت الروايات التاريخية في تحديد الحالة التي توفي عليها .هل كان في الحبس، أم كان حرًا طليقًا. هنالك روايتان على المشهور:
الاولى: رواية الطبري في تاريخ الرسل والملوك 8/251- 251 وغيره من المؤرخين، وتقول ان وفاته كانت في محبسه.
الثانية: رواية ابن كثير في البداية والنهاية 13/582 وتقول ان الرشيد اطلق سراحه، واطلق له مائة الف دينار فكان جملة ماوصله منذ استسلامه، اربعمائة الف دينار من بيت مال المسلمين. وعاش يحيى بعد ذلك شهراً ثم مات. وانا أميل الى ان رواية إبن كثير اكثر دقة. للتفصيلات التي تضمنتها، ولأن الفترة الزمنية القصيرة التي عاشها يحيى بعد اطلاق سراحه، لم تسعف في انتشار خبر خروجه من محبسه، وانما تلقى الناس الخبر الاهم خبر وفاته ومشهد الصلاة عليه ودفنه. وتناقلوا ذلك، ففات نقلة الاخبار والمؤرخين انه كان مطلق السراح حين توفي.
وعلى اي حال، سواء أمات في السجن أم خارجه. فإنه لم يثبت، ولم يعرف عن الرشيد انه عذّب أو سمّ أو قتل سجينه يحيى بن عبد الله. وقد كان يستطيع ان يفعل ذلك، دون خوف من أحد من الناس. فهو ملك لأعظم دولة في العالم . فممّ يخاف، فلو أراد قتل يحيى لقتله علناً. الا ترى انه لم يخف من البرامكة الذين كانوا يشكلون مراكز القوة في البلد، ومع ذلك قطع دابرهم في وضح النهار. ولم يخف حتى من أحتمالية ثورة مضادة لنكبتهم، لأنه يتحرك بحكمة وتعقّل. ذاك هو (الرشيد) هارون، وكما عُرف بعظمته عُرف كذلك بتقواه وعدله ورفقه بابناء عمومته.
علامَ إذاً يَسهل على البعض، اطلاق الإتهام زوراً وبهتاناً: بأنه قاتل أهل البيت. (وهذه صورة من صور تعامله مع “الخارجين عليه” من أهل البيت، فكيف اذاً بمن لم يخرج؟). ماالذي يملكه الرشيد من المسامحة وسعة الصدر اكثر مما اظهره مع سجينه. دعونا لا ننساق مع العاطفة والهوى ولنتحاكم الى العقل. فيامن تستنكر، وتستكثر على الرشيد حبس يحيى. إسأل نفسك: ماذا لوكان يحيى هو الخليفة، هل كان سيرضى ان يثور عليه الرشيد، وينتزع منه الخلافة؟. وهل كان سيكتفي منه بالحبس فقط؟.