4 فبراير، 2025 2:30 م

المخالفة الدستورية لـ “فرسان الموازنة”

المخالفة الدستورية لـ “فرسان الموازنة”

أورَدَ فُقهاء التَّشريعِ الماليِّ عدداً من التعريفاتِ للموازنة، وجدّنا أن أبسطها هو الذي عرّفها بأنها نظرة توقُّعية لنفقات وإيرادات الدولة عن مدة مقبلة تخضع لإجازة السلطة المختصَّة(1).

لهذا، فإن الموازنة، تحتوي على تقديرات لنفقات وإيرادات لسنة مالية مقبلة بقصد تحقيق أهداف معينة ومحدودة(2).

ويَتضحُ مِما تقدّم، أن الموازنة تنهضُ على ركنين رئيسيّين، وهما:

التقدير: الذي يتمثل بتقدير أرقام المبالغ التي يُنتظر الحصول عليها من المصادر المختلفة للإيرادات العامة وتقدير للأرقام التي يُتوقع إنفاقها خلال مدة زمنية مستقبلية، وعلى هذا الأساس فإنها تقدير احتمالي للنفقات والإيرادات، فالأرقام المُقدرة فيها تكون قابلة للزيادة أو النقصان؛ لأنها خُصّصت للمستقبل ولا يمكن الجزم بصحتها(3).

الإجازة: ويعني ذلك أن السلطة التشريعية هي التي تختصُّ باعتماد الموازنة أي الموافقة على توقعات الحكومة عن نفقات وإيرادات العام المقبل، فالحكومة هي التي تقوم بإعداد الموازنة، ولكن السلطة التشريعية هي التي تتولى اجازتها باعتمادها لها، وذلك قبل أن يعودُ الأمر إلى الحكومة مرة أخرى لتقوم بتنفيذها في الحدود التي صدرتْ بها إجازة هذه السلطة أي على النحو الذي اعتمدته به(4).

ونصت المادة (62) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 (النافذ)، على الآتي: “أولاً: يقدم مجلس الوزراء مشروع قانون الموازنة العامة والحساب الختامي إلى مجلس النواب لإقراره. ثانياً: لمجلس النواب اجراء المناقلة بين أبواب وفصول الموازنة العامة، وتخفيض مجمل مبالغها، وله عند الضرورة أن يقترح على مجلس الوزراء زيادة إجمالي مبالغ النفقات”.

والملاحظ من هذا النص، أن المشرع الدستوري لم يولِّ اهتماماً بالموازنة، ولم يُحدّد موعد تقديمها إلى مجلس النواب، ولم يُحدد ما تتضمنه على خلاف الكثير من دساتير المنطقة.

فلو نظرنا إلى دستور جمهورية مصر العربية لسنة 2014 (المعدل)، فنجدُّ أن المادة (124) تنصُّ على الآتي: “تشمل الموازنة العامة للدولة كافة إيراداتها ومصروفاتها دون استثناء، ويُعرض مشروعها على مجلس النواب قبل تسعين يوماً على الأقل من بدء السنة المالية…”.

 فيما نصّت المادة (83) من دستور لبنان لسنة 1926 (المعدل) على الآتي: “كل سنة في بدء عقد تشرين الأول تقدم الحكومة لمجلس النواب موازنة شاملة نفقات الدولة ودخلها عن السنة القادمة…”.

كما نصّت المادة (140) من الدستور دولة الكويت لسنة 1962 (المعدل)، على الآتي: “تعد الدولة مشروع الميزانية السنوية الشاملة لإيرادات الدولة ومصروفاتها وتقدمه إلى مجلس الأمة قبل انتهاء السنة المالية بشهرين على الأقل، لفحصها وإقرارها”.

وبالنظر إلى تلك الدساتير، فإنها بيّنت على نحو واضح أن الموازنة تقتصر على الإيرادات والنفقات، كما أنّها حدّدت موعد تقديمها إلى المجلس النيابي.

وبتخلي دستور جمهورية العراق لسنة 2005 (النافذ)، عن هذين الأساسين المهمين، فإن المشرع العادي قد عالجهما بموجب قانون الإدارة المالية الاتحادية رقم (6) لسنة 2019 (المعدل) حيث عرّفت المادة (1/ ثانياً) منه الموازنة بأنها “خطة مالية تعبّر عمّا تعتزم الدولة القيام به من برامج ومشروعات، تتضمن جداول تخطيطية لتخمين الإيرادات وتقدير النفقات بشقيها الجارية والاستثمارية لسنة مالية واحدة، تعيّن في قانون الموازنة العامة”، فيما نصّت المادة (11) منه على الآتي: “يتولى مجلس الوزراء مناقشة مشروع قانون الموازنة العامة الاتحادية وإقراره وتقديمه إلى مجلس النواب قبل منتصف شهر تشرين الأول من كل سنة”(5).

وعند الاطلاع على قوانين الموازنة العامة الاتحادية التي شُرّعت في العراق، نجدُّ أن الكثير من نصوصها ليس له علاقة بالنفقات والإيرادات، بل أن البعض منها يتضمن قواعد قانونية مجردة ومستمرة لا تنتهي بانتهاء السنة المالية.

وبما أن قوام المخالفة الدستورية، هو تعارض النص القانوني مع النص الدستوري، فهذا قد يُبرّر من الوهلة الأولى إدراج مواد ليس لها علاقة بالنفقات أو الإيرادات على أساس أن الدستور العراقي قد أغفل عن ذكر مكونات الموازنة في نصوصه.

إلّا أن هذا القول غير صحيح، لأن حشر نصوص لا علاقة لها بقوانين الموازنة لم يقتصر على العراق، بل شمل الدول الأخرى، ولكن القضاء الدستوري ومنذ سبعينيات القرن الماضي تصدى لهذا الانحراف التشريعي وعمل على إبطال النصوص الدخيلة على الموازنة التي أصبح يطلق عليها تعبير (فرسان الموازنة)(6).

ويمكن تعريف (فرسان الموازنة)، بأنها المواد التي يتضمنها قانون الموازنة والتي لا علاقة لها بالموازنة(7).

وهي تسمى أيضاً بمُلحقات الموازنة التي يعرّفها الفقه بأنها عبارة عن نص أو مجموعة النصوص يُلحقها المشرع بقانون الموازنة العامة، وتتضمن تلك النصوص موضوعات بعيدة عن جوهر الموازنة المتمثل بتقدير إيرادات الدولة ونفقاتها خلال السنة المقبلة(8).

والمثال على ذلك، فإن المجلس الدستوري اللبناني درج على الحكم بعدم دستورية مواد وردت في قانون الموازنة ليس لها علاقة بالموازنة، واعتمد في قراره على خصوصية الموازنة في القانون المنظّم لتشريعها، وهو قانون المحاسبة العمومية.

وجاء في أحدث قرارات المجلس الدستوري اللبناني، أن “قانون المحاسبة العمومية المتعلّق بتحديد أصول إعداد موازنة الدولة عرّف في مادته الخامسة قانون الموازنة بأنّه ((النص المتضمّن إقرار السلطة التشريعية لمشروع الموازنة. يحتوي هذا القانون على أحكام أساسية تقضي بتقدير النفقات والواردات، وإجازة الجباية، وفتح الاعتمادات اللازمة للإنفاق، وعلى أحكام خاصة تقتصر على ما له علاقة مباشرة بتنفيذ الموازنة))، وحيث إنّه يقتضي، عملاً بهذا النص وصوناً لخصوصية الموازنة العامة وتماشياً مع الاجتهاد الدستوري المستمر، استبعاد كل مادة قانونية غير مشمولة بتعريف المادة (5) المذكورة أعلاه من قانون الموازنة وذلك في سبيل سلامة التشريع ومنعاً لتمرير على عجل بعض المواد القانونية التي لا تمت بصلة للموازنة العامة دون تمكين المجلس النيابي من مراجعتها ومناقشتها في إطارها المستقل وبيان الأسباب الموجبة التي أدّت الى اعتمادها، وحيث يقتضي اعتماد التفسير الضيق لمفهوم فرسان الموازنة وحصره بالنصوص التشريعية الخارجة كلياً عن تعريف المادة (5) من قانون المحاسبة العمومية والتي ليس لها طابع مالي وأي تأثير بشكل مباشر أو غير مباشر على واردات أو نفقات الخزينة العامة”(9).

وللمحكمة الاتحادية العليا في العراق سابقة في موضوع الحكم بعدم دستورية نصوص في قانون الموازنة ليس لها علاقة بالموازنة، جاء في قرار لها ما نصه: “وجدت المحكمة بأن مجلس النواب أضاف مادة إلى مشروع القانون وهي المادة (46) حيث ألزمت هذه المادة وزارة الخارجية مراعاة النسب السكانية لكل محافظة اثناء التعيين والقبول في دورات معهد الخدمة الخارجية دون أن يكون لهذا النص علاقة بقانون الموازنة العامة الاتحادية ودون أن يكون ذلك من صلاحية مجلس النواب وأن الموضوع يدخل ضمن صلاحيات السلطة التنفيذية المقررة في المادة (80) من الدستور ومخالفاً بذلك المادة (60) من الدستور، وكذلك الحال بالنسبة إلى المادة (47) من القانون حيث الزمت المحافظات بفتح حساب باسم المحافظة في البنوك والمصارف وهذا الامر ليس له علاقة بالموازنة..”(10).

ورغم أن دستور جمهورية العراق خلا من نص ينطوي على حظر تشريع مُلحقات أو فرسان الموازنة، لكن هناك اتجاه يرى إمكانية إيقاع المخالفة الدستورية بحق هذه النصوص بالاستناد إلى القواعد العامة التي بمقتضاها تعد الموازنات برامج مالية سنوية تتضمن تقديراً لإيرادات الدولة ونفقاتها ولذا يتعين تطهير الموازنة من الموضوعات الغريبة عنها استجابة لطبيعة الأشياء والفهم السليم لروح الموازنة(11).

ولذا، نحن نؤيّد الاتجاه الذي يذهب إلى عدم دستورية المواد التي تدرج في قانون الموازنة ليس لها علاقة بالموازنة، على أساس خصوصية هذا القانون في أنه يضمُّ شقين وهما الإيرادات والنفقات، ويكون ذلك بالعودة إلى دستور جمهورية العراق لسنة 2005 (النافذ) الذي حدد الجهة التي تتولى تقديم الموازنة والجهة التي تتولى تشريعها وقانون الإدارة المالية الاتحادية رقم (6) لسنة 2019 (المعدل) أو أي قانون يحل محله، لأنه بيّن تفاصيل الموازنة من حيث تعريفها واقسامها وموعد تقديمها وتنفيذها وآلية الرقابة عليها.

هذا بالإضافة إلى أن الموازنة هي قانون مؤقت ينتهي بانتهاء السنة المالية، وتزول جميع أحكامه معه، فليس من المنطق القانوني وضع قواعد عامة مستمرة فيه.

وقد تأيّد ذلك بقرارات للمحكمة الاتحادية العليا نذكر منها قرارها الذي نص على أن “المادة (132/ خامساً/ ج) من قانون الموازنة للسنة المالية 2017 . قد تضمنها القانون رقم (44) لسنة 2017 (قانون الموازنة العامة الاتحادية لجمهورية العراق للسنة المالية 2017)، وتم تنفيذها خلال سنة تنفيذ الموازنة المذكورة لذا أصبح النظر في الطعن الوارد خارج اختصاص المحكمة الاتحادية العليا المنصوص عليه في المادة (93/ أولاً) من الدستور والمادة (5/ ثانياً) من قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم (30) لسنة 2005 وهو (الرقابة على دستورية القوانين والانظمة النافذة)”(12).

………………………………….

الهوامش

1- د. سوزي عدلي ناشد، المالية العامة، دارس الجامعة الجديدة للنشر، مصر، 2000، ص275.

2- د. أعاد حمود القيسي، المالية العامة والتشريع الضريبي، الطبعة التاسعة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الأردن، 2019، ص89.

3- د. عادل العلي، المالية العامة والقانون المالي والضريبي، الطبعة الثانية، اثراء للنشر والتوزيع، الأردن، 2011، ص233.

4- د. عادل أحمد حشيش، أصول المالية العامة، مؤسسة الثقافة الجامعية، مصر، 1983، ص308.

5- الوقائع العراقية بالعدد: 4550، بتاريخ (5/ 8/ 2019).

6- د. أمين عاطف صليبا، أهمية التصدي لما يُعرف بفرسان الموازنة، مقال منشور في الموقع الالكتروني للمحكمة الاتحادية العليا بتاريخ: (18/ 4/ 2024).

7- د. وليد عبلا، تعليق على قرار المجلس الدستوري رقم (2/ 2018) بإبطال قانون الموازنة العامة والموازنات الملحقة لعام 2018، الكتاب السنوي للمجلس الدستوري اللبناني، المجلد: 12، 2018، ص66.

8- د. حيدر وهاب، عبود، مُلحقات الموازنة وآثارها السلبية في المالية العراقية، الطبعة الأولى، دار المسلة، لبنان، 2019، ص16.

9- قرار المجلس الدستوري اللبناني رقم (3) لسنة 2024.

10- قرار المحكمة الاتحادية العليا رقم (25/ اتحادية/ 2012).

11- د. حيدر وهاب عبود، مصدر سابق، ص63.

12- قرار المحكمة الاتحادية العليا رقم (149/ اتحادية/ 2017).

أحدث المقالات

أحدث المقالات