1-2
(*)
باب : مفردة تعبّر عن حاجز ملموس ومرئي وظيفته تسبغ صفات ٍ عليه. شخصيا كل باب يحيلني نحو الخارج لأن الباب يعني وجود خارج. أي ما هو خارج البيت. وبدوري كقارئ أقول مَن صنع الباب؟ الإنسان المهذب؟ أو الخائف؟ هل الأبواب صامتة؟ أو بعضها صامت والبقية تحسن الكلام حين نحسن الإصغاء؟ هل تصاب الأبواب بالشيخوخة والوحشة وتشرق بالمسرات وتقوم . وتغدو علامة حتى بعد محوها المادي؟ هذه الأسئلة عبارة عن منولوج يختلج في دخيلتي. كلما تأملت (مزاج المفاتيح) للشاعرة بلقيس خالد
(*)
المفاتيح في ثريا النص لها سيادتها المطلقة على الأبواب. فالأبواب تتعطل وظيفتها بغياب المفاتيح.. كما لمستُ ثمة تعادلية شعرية بين الثريا والنصوص : نجحت الشاعرة في الموازنة بين الطرفين.
(*)
(هل الكتبُ مِن الأبواب..؟)
اقترضُ هذا السؤال من السطر الأخير في الصفحة الأخيرة من (مزاج المفاتيح) تمعنت ُ في الجمعين : الكتب والأبواب. ثم تصفحتُ (مزاج المفاتيح)
فكانت حصة قراءتي : وفرة ً من الأبواب والمفاتيح في كتاب واحد. من صناعة الشاعرة بلقيس خالد .. رافق َ الوفرة َ غزارة التنويع في تعادلية الكم والكيف.
(*)
يستقبلنا نصٌ يتوسط الصفحة السابعة من الكتاب( مخاوفٌ كثيرة ٌ تتوارى خلف الباب) هذا الخوف الكثير يومئ لغياب راحة البال في وطن ٍ مستهدف من كل الجهات. خوف ٌ راسخ ُ فينا، بل تطور بفضل كاميرات المراقبة
التي جعلت الأجساد في البيوت والأعين في الشارع. الخوف يعيدني لسنوات الأمان التي كانت الأبواب مواربة ومفاتيحها خفة ُنقراتٍ وسعلةُ عافية ٍ..تردفها سلامٌ عليكم.
(أحيانا..
يُعطينا شيئا جميلاً، طرق الباب
يسمح لنا معاينة َ وجوه الناس.)/ ص54. لكن في كل الأحوال هناك الصفة الراسخة في ثبوتيتها : (حارس ٌ حديدي : الباب)..هذا الحارس لا يقدر على تعطيل محمولات مَن يقصدُ الباب َ. هنا تلمسُ قراءتي مهارات الشاعرة ليس في تبويب كتابها فقط .بل في تبويب النص الواحد. في النص التالي عين الكاميرا تشغّل الاحالة التكرارية :
(فتح الباب َ وجد َ ورقة َ تهديد ٍ
فتح َ الباب َ.. عساكرَ وسجوناً
فتحَ الباب.. بيد الطارق ذهبت تلابيبه
فتح َ الباب َ ساومه ُ الدائن
فتح َ الباب َ انتزعوا بناته
فتح َالباب…
فتحَ..
فتح ..
فتح الباب وجد َ القدر سعيداً
بوضع ِ كلَّ هذه التعاسات خلف الباب / 56)
البابُ بريء . شحنة ُ الرعب يبثها مَن يستهدفُ البابَ ..من يطرقه ُ أو يرفسه ُ. الباب يتحمل الأذى، قبل العائلة. الشاعرة تشعرن هذه الأبواب وهذا الفعل الشعري يوّسق كل أبواب كتابها. بالطريقة هذه تسبغُ على الأبواب فاعلية الأنسة ومشاعرها
(*)
تقدم للباب اعتذارها شعريا، والسبب هذه الجوقة المتباينة جاعلة ً من نصها التالي بنكهة ٍ مرحة ٍ وهذه الحالة نادرة في التعامل مع الكتابة لدينا أجمعين. فالمرح والفكاهة من المحرمات في القصيدة الراهنة خلافا لتراثنا الغزير لنستمع لصوت النص :
( لا أحدَ يعرف ُ مَن (أنا)..
في البصرةِ كل طارق ِ باب ٍ
اسمهُ : أنا)
والطرافة يجسدها النص التالي الذي التقطته الشاعرة من اللغة اليومية. هذه الطرافة تعلن الوظيفة التي يشغلها الباب :
(لمن تضعونها.. إن لم تفتحوها؟
: جارتي الثرثارة لا تكتفي بالطرق/ 14)
هناك علامة مبثوثة تمنح الباب طاقاتٍ مشرقة ً كما هو الحال في الباب التالي
(رائحة ُ الشاي بالهيل
تخبر الجيران : الطارق : محضر خيرٍ)
هنا فاعلية المواقتة بين فعليّ : الرائحة / الطرق وكلاهما في طية الموروث الشعبي يفككان الشفرة. . هناك علامة نصية تحيل إلى التعجب المستفز
(في شارعِنا.. الأبوابُ مغلقة ٌ
هل الأوقات كلها
ليل !!)
نحن هنا أمام بلاغة المحذوف نصيا. والتي تحيلني إلى سنواتٍ أفلت كانت الأبواب معظمها مواربة. ويعاضدني في قولي النص التالي :
(بسلسة ٍ غليظة ٍ قيدتُ باب َ..
أبتسم جاري :
أبوابها حصير، كانت بيوتنا!)
هناك قيدٌ من طرازٍ ثان (صيّر البابَ قيداً ضياع المفاتيح)
الباب يبأر شعريا ويغادر هندسته ُ المتفق عليها ضمن أنظمة السلوك الجمعي في النص التالي: (الأبوابُ : جسرٌ بين الداخل والوافد) هنا نقلة من العمودي إلى الأفقي والنقلة من منتوجات المخيلة الشعرية لدى بلقيس خالد.
هناك باب ينضح نصه بالندى المخضر ويكتنز بنعومة التوت :
(طرقاتٌ ناعمة ٌ
وحريرٌ يتناغم
فتحتُ البابَ..
فتيات ٌ مِن جمار ٍ بصوت ٍ واحد
: آس مِن حديقتكم نريد..)
وضمن السياق اللذيذ يأتي هذا النص المبهج والمحتفى به بشكل قدسي مجتمعياً
(صوتٌ نسويٌ أعرفه
يتناغم مع الطرقات
فتحتُ الباب َ
: ناولتني (خبز العباس)
جارتي)
تشعرُ تأملاتي النوعية في(مزاج المفاتيح) أن الشاعرة . تلملمٌ الموروث والأسطوري والميداني والميتافيزيقي والديني من خلال رصدها الشخصي
للباب كشخصية لها تاريخها المتنوع في حياتنا اليومية. وأقول هنا أن الجزء يمثل الكل. فهذا النص (استراحة مرفوضة) هو جزء نصي من الكلية النصية (مزاج المفاتيح)
(نعد النوم َ من الأبواب
حين يطوقنا الألم
ولعلنا نستريح.. نفتح بابا
في غفوتنا
جدران تتهدم، تستغيث بنا وتنهار
أقدامُ حفاة ٍ تتجرح في سعيها
نعلٌ ضائعة
أبوابٌ موصدة
شارعٌ مقفرٌ نقطعهٌ بترقبٍ متلفتين
نهرب..
نركضُ بأقدامٍ واقفة ٍ
نتعثر..
نسقط
ثمة مَن يلاحقنا
نصرخ ُ بصوت ٍ مجفف
تظللنا غابة ٌ
مِن وسائد َ جرحت خواصرَ أشجارها
كلمتان : أحلام سعيدة)
والجملة الاخيرة تحيلني إلى هذا النص للشاعرة في مجموعتها (بقية شمعة قمري):
(أبداً…
لم أرها…
ظلت عبارةٌ، مطرزة ٌ على وسادتي
: أحلام سعيدة)..
يتمازجان في النص الكابوس والواقع . التشكيلي الفني والمخيلة الشعرية
مرتان المفردة جمعاً : أبواب ترد في السطر الأول وفي السطر الثاني
ومرة الثانية بالمفرد : بابا. الباب في هذا النص ليس عاطلا. بل معطلا من قبل جهة تسببت بذعر جماعي لأناس بلا ذنب اقترفوه. هذا النص يعلن شعريا عما نحن فيه منذ سنواتٍ وسنوات ٍ . المحذوف في النص هو راحة البال التي غدت المستحيل العراقي الرابع
(*)
للباب أحاسيس ومشاعر. هذا ما يخبرني به النص التالي :
(صبية ٌ يلهون بطرقِ الباب ِ
طارقُ متعجل ٌ
طارق ٌ متأهب ٌ للشجار
طارقٌ دائن ٌ
.. الغريبُ
.. القريبُ
عن كل ذلك أعتذرُ لبابي/ 58)
(*)
دفاعاً عن الباب. تسددُ بلقيس خالد خطابا نافراً إلى كل الطارقين. النص لا يفضح هوياتهم . النص يكتفي بطردهم ويحيلهم إلى جهتين ضمن التراتب الأعلى ثم يشتغل النص على التنقيط مكتفيا بالمضاف إليه.
(*)
التنقيط يشمل ثلاثة أبواب. يمكن لفعل القراءة أن يسهم بتثبيت المحذوف المناسب. السطر الأول هو السطر الأخير مكتملاً بياء التملك وهكذا يكون لدينا ثلاثة أبواب واضحة المعالم وثلاثة مجهولات المعالم. وبهذه الشبكة التنسيقية يتحصن الباب ومَن خلفه ِ
(أذهبوا بعيدا ً..
أطرقوا باب َ الرب
.. باب َ السلطان
باب َ…
باب…
باب..
أذهبوا بعيدا ً عن بابي/ 60)
بالمقابل في ص61 هناك بشارة تغمرُ الباب بالندى. فيها يتمفصل نصٌ صغيرٌ رباعيا
طرقٌ.. وزعيقُ صغار ٍ
بِلا نعلين هرعت ُ
فتحت ُ الباب َ
نجح َ.. نجح َ
وأصابعهم نحو حفيدي / 61
(*)
(مزاج المفاتيح) حركته ثرة تأخذ مسارات متنوعة وتغلق مدورة الكتاب بتلك الأبواب المحسوسة الملامسة لطراوة القلب الندي .. أبواب راسخة في الوجدان..
(لأني لا أملك ُ إلا وزري
طرقتُ بابك َ مطمئنة/ 93)
الملكية هنا سالبة : الوزر. لكن الطرق على الباب المتسامي هو الشحنات الموجبة للبشري. ويتصاعد الوهج الصوفي أثناء الطرق على هذا الباب الملامس لشغاف القلب
(إلهي..
ما أكثرهم..
وما أوحدني حين لا أعثر عليك/ 96)
(*)
اجتهدت الشاعرة بلقيس في تشكيل منحوتتها الشعرية، فهي تكدح شعريا، بفهرسة مفردة الباب. أليس هذا الجهد يمكن تنضيدهُ ضمن الواحد المتعدد؟
(*)
بتوقيت خطوتها الشعرية الأولى (امرأة من رمل) وهي توبوب كتبها الشعرية . الباب لديها : عنوان فرعي تنتظم بعده، قلادة من القصائد
من ستة أبواب تتكون مجموعة (امرأة من رمل) وأوّل قصيدة عن الباب عنوانها( انتظار) في مجموعتها الشعرية الأولى..
(أنصب ُ
الرجاء
: خيمة
وأنا أنتظرُ
طرق الباب/ 17)
في تجربتها الشعرية الرابعة (دقيقتان ودقيقة واحدة) هناك عنوانُ فرعي لفت انتباهي (وحده الذي هجرته الأسئلة ينتظر مفتاحا/ 27) في ص41
يستقبلني هذا الها يكو
(أغلقته جيدا ً باب الدار
مِن أين يدخل ويسرق غفوتي
..الكابوس؟) في ص89 يستقبلني العنوان الفرعي (حيث يستفيق الصمت) يلي العنوان الها يكو – 4- (هو مفتاح وقفل كل باب)
في ص94 نقرأ الها يكو التالي ( نبضٌ يدق في باب السماء : أسئلتي)
بعد العنوان الفرعي(شهقة في رئة المكان) يسطع ُ هذا الها يكو
(أرقب ُ الباب َ
لأحرس البيت/ 100)
هذه العينات الشعرية تجعلني أقول أن وصول الشاعرة إلى كتاب(مزاج المفاتيح) جاء بالتدريج المتمهل فقد كان مضمراً في هذه النصوص التي قطفتُها من تجربتها الشعرية المنضّدة في دواوينها
(*)
التنويع لا يتوقف عن غزارته بل يزداد ثراءً بعد كل قراءة لهذه الموسوعة الصغيرة المعنية بمفردة الباب. اجادت الشاعرة بلقيس خالد في توسيع المديات والدلالات لهذه المفردة. نفضت عنها غبار المعاجم وشحنتها بشعرية العلاقة بين الدال والمدلول
بلقيس خالد/ مزاج المفاتيح/ دار المكتبة الاهلية، البصرة/ ط1 بيروت/ 2022