لافت هذا التحريض الذي نلمسه من قبل من مثقفين إزاء زملاء لهم عبر صفحات التواصل الاجتماعي (الفيس بوك) لمجرد اختلافهم معهم لأسباب عديدة ربما يقف البعد الطائفي، والتنافس على مواقع معينة في مقدمتها، المثقف يفترض أن يكون أكثر اتزانا وكياسة بحكم وظيفته العضوية وهويته القائمة على النزعة النقدية، وليست النزعة التحريضية.. نعم تنطوي النزعة النقدية للمثقف على تحريض بمعناه الإيجابي، تحريض يتخذ من التبيان الفكري والمعلوماتي أدوات لتحريك الساكن في الرأي العام، النزعة النقدية لها صلة بمهام المثقف التي تميزه عن غيره من الفاعلين في ميادين المجتمع، يقول ادوارد سعيد “أصعب عمل تقوم به كمثقف هو أن تكون نقديا” و” أن تبدا بنفسك” وحسب فهم ادوارد سعيد ” ان جوهر المثقف لا هو عنصر تهدئة ولا خالق اجماع وانما هو انسان يراهن بكينونته كلها على حسه النقدي المسالم، وعلى الإحساس بعدم قناعته للقبول بالصيغ المبتذلة والسهلة أو الأفكار الجاهزة بل أن يرى في الحرفة الفكرية الرافضة للعنف حفاظا على حالة من اليقظة المتواصلة”
اذن فمن غير المنطقي ان يلجأ المثقف للاساليب العنفية المضمرة او على التحريض بمختلف اساليبه وتلك مفارقة حقا! .. لنقرأ اولا هذا الخبر، الذي يجعلنا نلامس وازع العنف المضمر، والذي يبدو بالظهور تدريجيا عقيب استفزاز بعض المثقفين والذي يمكن ان يتطور ليتخذ شكلا مكارثيا قاتلا يجنح الى السعي الغريب لتصفية الآخر!
” الخبر يفيد بإقدام شاب روسي على قتل صديقه، بعدما تجادلا حول رؤيتهما لقصيدة النثر.. المحققون قالوا إن الصديقين كانا يتناولان الخمر، في منطقة جبلية بمدينة إربيت الروسية، عندما احتدم النقاش بينهما، ليتطور ذلك إلى جدال عالٍ بشأن أيهما تمثل الشعر الحقيقي قصيدة النثر ام القصيدة العمودية ؟”
تصاعد الخلاف (الأدبي) بين الصديقين ليتحول إلى مشاجرة، ويقوم شاعر القصيدة العمودية الخمسيني بطعن صديقه المدرس شاعر قصيدة النثر، بسكين حتى الموت، الشرطة لاحقت القاتل في وقت لاحق بعدما اختبأ في بيت أحد أصدقائه فاعتقلته.
…………….
هو عنف .. بل ارهاب ثقافي لدى شريحة يفترض انها تسلك الحوار المتحضر سبيلا للتعاطي مع جميع الاختلافات والخلافات! هذه الشريحة تدعي بانها ابعد الناس عن اساليب القوة، والعنف فيما يعمد الكثير من (المثقفين) الى اساليب تصفية معنوية مستترة ومتنوعة، فلو اتيحت لهم الفرصة لاجترحوا القتل الجسدي لأقصاء (الآخر) كما حصل مع صاحبنا الشاعر الروسي في الخبر المار! ، ولعل المناكفات والصراعات التي تنشب بين المثقفين لدواع تتصل بذواتهم النرجسية هي خير دليل على ما نقول !
في هذا المعنى استوقفتني عبارة رائعة لميلان كونديرا تقول:
(إذا أتيح لكل إنسان أن يقتل بشكل خفي وعن بُعْد، فالإنسانية يمكن أن تختفي بدقائق)!
فعلاً هي مقولة مؤثّرة ومعبّرة عن حقيقة ما بات يعتري الكينونة البشرية، في راهننا الذي يعج بحالة سعار من التنافس غير الشريف، بين مختلف شرائح المجتمعات، حتى تلك التي يمكن تصنيفها ضمن خانة المثقفين! بل إن هذه الشريحة ربما هي الأكثر نزوعاً نحو توظيف أسلحتها وأدواتها المتاحة لـ (قتل) من يختلف معها، أو من تجد أن ثمة (مزاحمة) لديه يمكن أن يتهدد وجودها الوظيفي الذي تستمد منه عوامل وجاهتها الاجتماعية.. القتل هنا يمكن أن يغادر مسألة التصفية الجسدية، ويعمد إلى اجتراح أساليب أخرى لا تقل خطورة عن سفك الدم، في عملية إهدار روح أو مروءة الآخر، لاسيما أن المثقف يتمتع بأسلحة أو قوة ناعمة تتيح له التنفيس عن نوازعه وغرائزه في (قتل) المختلف، بل وقتل الآخر الأرجح منه لأنه يستشعر بأن وجود ذلك الأرجح ما هو إلا تهديد على (كيانه)، فحين يعجز عن مطاولة المقدار الذي بلغه ذلك (الأرجح)، فيحاول قتله معنوياً، واعتبارياً، بكل نعومة لتصفيته وتسقيطه!
إذن.. هل يمكن عزل الثقافة والمثقفين عن كل الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية؟ كما ابتعد الساسة في معترك تنافسهم الميكافيلي، عن الاعتبارات السوية وراحوا يبررون وسائلهم مهما انحدرت إلى درجات دونية من حضيض الواسطة، إذا كان ذلك يوصلهم إلى ضالتهم أو الغاية المنشودة! نتساءل هل يمكن عزل الثقافة والمثقفين عن كل الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية؟! الجواب بالتأكيد لا وإلا وجدنا أنفسنا إزاء غابة كبيرة تسمى غابة المثقفين ! .. وحتى لا تختفي الإنسانية في دقائق كما قال صديقنا ميلان كونديرا.