22 نوفمبر، 2024 8:36 م
Search
Close this search box.

اللاأبالية في ممارسة حقوق المواطنة العراقية

اللاأبالية في ممارسة حقوق المواطنة العراقية

غدت إشكالية ممارسة حقوق المواطنة والمطالبة بأبسط مظاهرها سمة شائعة بل متميزة لسلوك المواطن العراقي ، فهي قد أثرت بالسلب على سلوكه الوطني العام حيث جعلته أميل للعزوف عن الاهتمام بمهموم ومشاكل وطنه . هذا إلى جانب عدم تمسكه بمعايير المواطنة الحقة ذات الفعاليات المؤثرة على مجريات الإحداث … فضلاً عن جعله للتمركز الشديد في الذات واستغراقه في همومه ومشاكله الشخصية ، ومن ثم فرط إحساسه بالتوتر والإحباط النفسي ، بدى أقرب إلى العجز الواضح منه إلى التوفيق المتوازن والتكيف الملائم بين متطلباته الإنسانية والتزاماته المجتمعية.
وبناء عليه ، ولاسيما بعد التحولات السياسية الجديدة في العراق ، ترى هل تملك سلطة العراق – أية سلطة راهناً ومستقبلاً – أن تفرط في طاقاتها الاستراتيجية البالغة حوالي عشرين مليون نسمة ، فيسمح بتبديدها على مذبح السلبية واللاأبالية التي كانت متفشية بين أغلبنا قبل 9/نيسان ؟ وهل على هذه السلطة أن تكتفي بالتسليم المطلق لحالة أو ظاهرة تستشري شيئاً فشيئاً بين مواطنينا حتى لتكاد تصبح ميزة أو خاصية عامة جعلت العراقي يؤمن بـ “دع الأمور تجري في أعنتها” ؟!
هذا السلوك الاستسلامي وفي هذا الظرف الواقع علينا الآن ، ماعاد يعالج راهننا الخطير ، ولاسيما ونحن في وقت أمس الحاجة فيه إلى جهود كل مواطنينا المخلصة لتكوين جهاز دفاعي وقائي نشط يعمل على إلغاء اللاأبالية المستكنة فينا وعلى تثوير طاقاتنا البشرية المعطلة معنوياً إن لم أقل مادياً أيضاً ، فتثار رغباتهم الكامنة وتعمل على دفعهم للاهتمام لقضايا العراق المصيرية . هذه القضية المعقدة ذات العوامل المتعددة ، الظاهرة والكامنة ، تزداد حدة وخطورة كلما بقيت أحوالنا العامة الراهنة على ماهي عليه ، لأن تتشابك جوانبها المختلفة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والفكرية ، تجعل أمر معالجتها صعباً لاسيما وإننا نفتقد في العراق إلى مراكز قياس الروح المعنوية لهذه الطاقات وإلى مراكز صناعة العقول وتكييف اتجاهاتها توجيهاً امثلاً.
ولأننا سنقتصر هنا على مناقشة بعض جوانب السلبية واللاأبالية في ممارسة حقوق المواطنة العراقية المتمثلة في قلة الإدراك وفقدان الوعي السياسي وانعدام المتابعة الإعلامية والمعرفية ، لايعني اقتصارنا على هذه الجوانب أننا نقلل من أهمية الجوانب الأخرى لهذا السلوك وإنما لأن هذه الجوانب توضح بجلاء طبيعة العلاقة الجدلية بين المواطن وبين مراكز السلطة عندنا – ماضياً وراهناً – ممثلة في مؤسساتها ونظمها وقوانينها ، وكلها وضعت لتنظيم العلاقة بين الطرفين ، كما افترضت سلفاً طاعة المواطنين العمياء لكي تضمن حالة الاستقرار والأمن الاجتماعي.
ترى ، هل هذه المراكز والمؤسسات السلطوية – سواء قبل 9/نيسان أو بعده– من العوامل لبروز هذا السلوك السلبي واللاأبالي وعلى هذا النحو الذي يشعر به المواطن العراقي ؟ وهل هي مسؤولة أيضاً عن إلهائه عن الاهتمام بقضايا الوطن المصيرية فتشغله بالاهتمام بأمور معيشته الضنكة والمضنية والتفكير بمستقبله المجهول ؟ أليس من الغريب حقاً أن تبلغ اللامبالاة بالعراقي إلى الصمت وعدم اتخاذ أي إجراء فعال إزاء ما يمارس ضده من تصرفات سلبية صادرة عن رموز من هم في السلطة والمنتفعين والوصوليين ، وكيف تتعامل معه بعنجهية واستعلائية واحتقار واستصغار . ترى ، ألا يعد هذا الصمت حالة مرضية من اللامبالاة ؟ أليست هذه الحالة التي تلفنا بعباءتها الثقيلة هي حالة من حالات اللاأبالية الخطيرة والغربة المدمرة ؟
قد يبدو عذر المواطن العراقي وجيهاً مقبولاً حين يرد عن نفسه التهمة فيقول:- وهل أملك إلاّ الصمت!! وهل أستطيع أن أتظاهر احتجاجاً أو أن أقوم بمسيرة أو أن أنخرط في صفوف تنظيمات أو اتحادات جماهيرية مستقلة ، إزاء سلطة (سابقاً) كانت قمعية و(راهناً) تستند في سياستها القهرية إلى شتى القوانين وعلى رأسها قوانين الطورائ ومايعرف بالسلامة الوطنية والقرارات الاستثنائية التي تمنع التجمهر والتظاهر وغيرها …
إننا ، وكما ذكرنا آنفاً … سنتعرض للإشكاليات التي حالت المواطن العراقي دون ممارسة حقوق المواطنة فتحول إلى طاقة معطلة ، وظهر بمظهر اللاأبالي واللامعياري مما أفقده القدرة على الأخذ بزمام المبادرة، وسوف أكتفي كما ذكرت بمعالجة:-
أولاً- إشكالية قلة الإدراك أو فقدان الوعي السياسي
يقصد بهذه الإشكالية جهل المواطنين بالطريقة التي تدار بها شؤون بلادهم الداخلية والخارجية وعدم استيعابهم للقوانين والقرارات التي تمس حياتهم . لهذا ، فإنه حين يقال أن بلداً ماقاربت الوصول لمستوى الديمقراطية السياسية الحقة ، فإن هذا المعنى لايقتصر على ممارسة مواطنيهم حقهم في الترشيح والانتخاب وعمليات الاستفتاء وإنما يعني بالدرجة الأولى مدى اقترابهم من موقع صنع القرار وفهمهم لمراميه وأهدافه واقتناعهم بأهميته واستحقاقاتهم في الدفاع عنه.
وفي هذا الإطار نفسه يقاس معيار المواطنة الفعالة المؤثرة بمدى وصول الموطنين لمصادر المعلومات لأنها تمكنهم من استخدامها بشكل أمثل . كما تشيع بينهم التفكير الموضوعي ، وبالمقابل حين يحرم المواطنون من المعرفة الصحيحة للمعلومات السياسية فسوف تغشي الضبابية أذهانهم وتنتشر السفسطة بين متعلميهم وتتوالد الإشاعات وتنتشر بينهم كالنار في الهشيم ، وكلها أمور تعرض روابطهم الاجتماعية للتفكك وتعرض كيانهم المجتمعي للاهتزاز وعدم الاستقرار وتوسع الفجوة بين السلطة الحاكمة والمحكومين وينتهي مسلسل التجهيل بإصابة المواطنين بتسطيح الوعي وانعدام الإدراك السياسي والفكري.
إذن ، كيف يمكن إحداث عملية تنوير المواطن حتى يلغى تسطيح وعيه وانعدام إدراكه السياسي والفكري؟ أو بمعنى آخر ، إزالة أميّته السياسية ؟
لنتفق منذ البداية على شيء أساسي في هذا الصدد ، هو:- أهمية توسيع معرفة المواطنين العراقيين لمبادئ القراءة ومن ثم الفهم والوعي كيما يتمكنوا من استقائهم للمعلومات التي تمس حياتهم وحياة وطنهم من مصادرها الصحيحة وفهمها فهماً واعياً وتوظيفاً هادفاً وبالتالي فإن تفشي الأمية الأبجدية بنسبة (60 – 70%) والأمية الثقافية (95%) بين سكان العراق سوف يجعل من الصعوبة إن لم يكن من المستحيل وصولهم أو حتى الاقتراب من شروط مستوى الديمقراطية الحقة ، وحتى يفترض امتلاكهم لحقوقهم السياسية الدستورية التي تكفل حقهم في التمثيل النيابي.
غير أنه مع التسليم الكامل بخطورة جهل المواطن بأبجدية القراءة ، الأمر الذي يسبب تعطيل ثرواته الكامنة ويعطل مواهبة ويشل تفكيره ، فإن الجهل بأبجدية المعرفة/الثقافة وبالتالي بأبجدية الحقوق المدنية ، يبدو أكثر خطورة ، لأن هذا المواطن سوف يساق سوقاً إلى صناديق الاقتراع ، وهو غير مؤهل للمساهمة بذكاء في اختيار الشخص المناسب في المكان المناسب ، وفي تشكيل ، اتجاهات الرأي العام.
إن تحرر المواطن من ظلام الجهل حين يعرف ماهي حقوقه وواجباته وماذا يجري حوله ، كل ذلك يخلق منه مواطناً ذكياً واعياً موضوعي النظرة ، متحرراً من سيطرة التفكير الخرافي.
ثانياً- إشكالية عدم القراءة والمتابعة الإعلامية والمعرفية
لم تعد ظاهرة انجذاب المواطنين للوسائل الإعلامية قاصرة على أمييّ القراءة ولكن تعدتهم للمتعلمين أنفسهم ، أولئك الذين اتسموا بالعزوف عن قراءة الكتب غثها وثمينها بحجة ضيق اليد والوقت . وقراءة الكتب تتطلب تركيز وبذل جهد ومعاناة ومثابرة .. وكلها سمات تحتاج تدريباً وتعوداً منذ نعومة الأظافر حتى تصبح عادة القراءة ملازمة لهم طوال حياتهم ، وهذا ما يفتقده بالكامل (95%) من المواطنين العراقيين.
إضافة لذلك ، ماتولده الآثار السلبية الناجمة عن الإقبال الشره على الوسائل الإعلامية غير العراقية خصوصاً المسموعة والفضائيات ، لاترجع لكونها تملأ مساحة كبيرة من أوقات فراغ المواطنين العراقيين الأميين والمتعلمين ، فتعطل الكثير من قدراتهم ، بل لكونها تحول دون تنمية القدرة على التحليل والاستنتاج لديهم فيميلون لتصديق كل ما تبثه لهم من أخبار ومعلومات ، فإذا ماحدث ، وكثيراً مايحدث، وفشلت وسائل الإعلام العراقية في تحري الصدق والموضوعية في موادها الإخبارية ، تحول العراقيون إلى وسائل إعلام أخرى تروج الضلالات . فتخيل أي تشويش سيصيب عقل مشوش في الأساس!؟
وكثيراً مانجحت هذه الوسائل الإعلامية الموجهة في عملية غسل أدمغة العراقيين وأثارت روح الشك في نفوسهم تجاه العديد من القضايا الوطنية وعملت على تثبيط روحهم المعنوية ، الأمر الذي جعلهم وكأنهم يواجهون حرباً باردة تزيد فيهم حالة الشعور بالذعر والخوف من القادم المجهول ، كما تزعزع ثوابتهم وتحبط آمالهم في الوطنية وقضاياهم المصيرية وحتى بتراثهم الثقافي.
الواقع أن هذه الوسائل عند تصويبها لأسلحتها الدعائية كثيراً ماجعلت المواطن أشبه بالكائن المنوم مغناطيسياً ، فضلاً عن تغييبه عن الوعي والميل لتصديق كل مايقال له دون تمحيص لاسيما وقد خلت الساحة الإعلامية العراقية من توجه مضاد هدفه كشف سبل الزيف في المعلومات التي تكون منها نسيجاً من الأوهام المدمرة.
إن المواطن العراقي على مايبدو ، سيبقى اليوم كما كان طيلة العقود السابقة منذ تأسيس دولته ، بينه وبين سلطاته الحاكمة خط فاصل يحول بينه وبين التعبير عن إحساسه وإرهاصاته ، الأمر الذي دفعه إلى أن يرفع يديه ويسحب ثقته كاملة بهذه السلطات التي لم تمثل أية واحدة منها توجهاته الداخلية والخارجية لكثرة ماوجد منها من قمع وتعذيب واختفاءات قسرية وتهميش بالكامل ، ناهيك عن الوعود الخاوية الجوفاء.
إن الإنسان الحر هو القادر على الانطلاق بالمجتمع مدافعاً عن مكتسباته محققاً النتائج الباهرة ، أما الإنسان المكبل بالقيود فإنه إنسان مهزوم وهو غير قادر على أن يمنح وطنه شيئاً مفيداً . والمحصلة النهائية هي إما أن يرتد هذا المواطن ويتفجر غضبه عاجلاً أم أجلاً ، وتدخل البلد في معارك طاحنة مبددة للقوى والإمكانات أو أن يرحل بعيداً عن وطنه بعد أن تأكد له أن حالة وطنه ميئوس منها.
إن إشراك المواطن العراقي الآن في صنع القرار وممارسته الفعلية للسلطة هو في الأساس حق مشروع تقرّه الأعراف والدساتير ويتصدر أهداف كافة الثورات الجماهيرية ، إلاّ أن الراهن جاء مع الأسف مخالفاً لكافة هذه النصوص ، فقد بدأ المواطن العراقي يحس ويلمس أنه يعيش في أجواء رديئة بل أبشع من الأجواء التي كانت قائمة أثناء الانتداب البريطاني والحكم الملكي ، ولعل أسوأ المقارنات تفضيله تلك الفترة على حكم مابعدها لما كان فيها من إيجابيات لاتنكر.
مثل هذه الأجواء كرست الهزيمة في نفسية المواطن العراقي ، وهي التي ساعدت على إقامة الحكومات غير المنتجة المشتتة المنهارة سياسياً وأمنياً واقتصادياً واجتماعياً ، ناهيك عن الانقلابات الدموية التي تديرها وتحيكها أيادي خفية . وقد تنبهت بعض القيادات الحزبية والقوى الجماهيرية إلى ذلك الخلل في علاقة المواطن بالسلطة فبدأت تدعو إلى تصحيح المسار متلمسة الطريق الأفضل وهو ضرورة إشراك المواطن في مسؤولية الحكم والسلطة.
مثل هذا السلوك/المنهج لو طبق في العراق الآن سيكون له انعكاس ايجابي في نفسية وإرادة المواطن العراقي الذي غيّب دوره وعومل على مدى سنوات النصف قرن الماضية على أنه (كم) لايعتد به مما أدى بنضالاته السياسية أن تجهض ويخرج منها بحكومات دكتاتورية رعناء لاتتقي الله في الوطن والمواطن ، تنتهك ثرواته وحقوقه الإنسانية المشروعة ، وتحول المواطن إلى رهينة ، وتحول الوطن إلى زنزانة كبيرة.
والعراق اليوم بفضل أبنائه يتلمس نوعاً ما أول طريق الديمقراطية ويتنفس نسمات الحرية ويبدأ رحلته الطويلة نحو البناء الديمقراطي ويفجر الكفاءات الذاتية في مواطنيه . كما أن السياسة لم تعد حكراً على من بيده الصولجان بل ستصبح بعون الله وعزم أبناء العراق مسؤولية جماعية لأن الوطن للجميع . والعراق اليوم سيحقق إنجازاً مهماً على درب الحرية وعلى طريق الديمقراطية ، وبالتأكيد فإنه اختار السبيل الصحيح الذي من شأنه أن يخلق المواطن حر الإرادة القادر على البناء.

أحدث المقالات