17 نوفمبر، 2024 3:41 م
Search
Close this search box.

الكتابة في الزمن الردئ .. سمو وعبء

الكتابة في الزمن الردئ .. سمو وعبء

الكتابة ، حرفة رفيعة يختارها ويألفها بعض الناس ، فيقدمون على ممارستها ، فأما ان يجيدوا ويفيدوا ، فيخلد ذكرهم ، ويذاع صيتهم ، وتعلو مكانتهم ، واما ان تتبعثر افكارهم ، فتتكلس اقلامهم ويكون مصيرهم الانزواء مع غيرهم في ركن النسيان .
وعندما يقدم الكاتب على اختيار موضوع ليعرضه على الناس ، فأن الأمر لا يتم هكذا عفوياً او بسهولة ويسر ، ولكنه يخضع لعوامل ودوافع ربما توجدها الصدفة ، وفي الغالب ما يكون الدافع علاج مشكلة ادبية او سياسية او اجتماعية او استعراض مسائل ثقافية او غير ذلك من نواحي الحياة .
فالكتابة اذن ، ترجمة لما يجول في حنايا الفؤاد وما يختزن في لب الكاتب من الفكر والمواقف التي مر بها . فالكتابة ، لغة تحدث بعيدة المدى ، وتجسيد للواقع والذكريات والمواقف والتجارب والابداعات والظواهر والمشاكل.. وصبها في قالب سهل التكوين ، عظيم الفائدة ، وتقديمها للقارئ .
وكل كتابة متسقة تفرض منهجها في خط تفكيرها او لحظة ابداعها في النظام او في الرؤيا ، ثم تجدها في مرحلة لاحقة وهي في الآن عينه متوازية ، فارضة لمنهج ومفهوم او مفاهيم عدة للتلقي ، للحوار واعادة البناء والهيكلة التي يقيمها معها قارئها ، ناشئاً كان ، هاوياً او محترفاً ، وبأسم هذا التعدد في مستويات القراءة يمكن للنص مثلاً ان يكتب ويؤول غير مرة .
فالكاتب المبدع هو الذي يتحسس الاشياء عن كثب ويطرح كتابته بشكل موضوعي بعيداً عن التكلف وبعبارات سلسة . فالكلام الذي يخرج من القلب لاشك انه يدخل القلب .
هذه المقدمة ، هي مدخل لما اريد ان اتوصل اليه ، وهو :-
لماذا يكتب الكاتب ، وكيف يكتب ، وماذا يكتب ، ولمن يكتب .. ؟
اسئلة مشروطة بالراهن العراقي ، بالظرف الواقعي . لكل كاتب ، لكل كتابة شرط ، بالضرورة . هنا الشرط هو حال العراق المزري اليوم .. ان يكتب تحت سقف الفساد والانحلال والانحطاطات بأنواعها .. وان يكتب من خلال المواجهة المباشرة ضد كل هذه الموبقات والرذائل والانحلالات..
شرط مسبق ، ومحدد ، وواضح جداً ، ولكنه لا يصنع اي سؤال من الاسئلة الاربعة السابقة ، لماذا وكيف وماذا ولمن ..
فالشرط العراقي الواقعي لا ينشئ الكاتب على شكله بالطبع او ضد شكله بالطبع ايضاً . يعني ، بالنسبة لي شخصياً ـــ انا لم اصبح كاتباً بسبب واقع العراق المزري ، ومن اجل مواجهة هذا الواقع فقط ، والا كان على كل كاتب ان ينشأ واقعاً منحطاً حتى يكون .
اكتب ، لماذا ؟ بالضبط ، لانني لا آخذ هذا السؤال بجديته الاولى المباشرة ، لا اتحسسه ، وافحصه ، واجيب عليه واصنع منه كتابتي .
اكتب ، لأنني مجنون كتابة ، هذا اولاً ، ثم صار بعد ذلك ان فلسفت كتابتي . الآن مثلاً ، ومنذ 9/نيسان/2003 ، صرت اقول : انا اكتب ، لانني احارب بالكلمة ضد كل ما يحيط بيّ وببلدي العراق من رذائل احط من الانحطاط .. وانا اكتب ، لانني اريد ان اشارك بالكلمة الوطنية الملتزمة في معركة الخلاص .
اكتب للكتابة اولاً ثم لكل الناس ، هناك مسؤولية الكتابة عن قضية ومسؤولية الكاتب في قضية.. ويستوجب على الكاتب ان يعي من اين تبدأ حدود المسؤولية الاولى واين تنتهي حدود المسؤولية الثانية .
الكتابة اولاً ، ثم هذا الالتزام .. وكيف ؟
بالجنون ذاته ، اذ لا يعقل حسب هذا المعيار ان ارضخ للراهن المزري مثلاً ، وأظن للحظة واحدة ان كاتم من هو ضد كتاباتي قادر على قتلي .. وان كل الاجراءات الاخرى قادرة على ذلك . بالعكس ، ازدادت الحماسة وصار لفقدان الدخل الشهري المنتظم وللجوع ، وللتشرد ، وللاضطهاد ، وللقمع .. نوافذ لوجدان الكتابة . يعني الشقاء كيفية معادلة للكتابة ، انا شقي ، فاكتب ، وانا اكتب فاشقى .
ببساطة رائعة ؟
ثم ماذا اكتب ؟
كل شيء ، فالشرط السابق لم يستهلك الحال ابداً .
ولمن ؟
للانسان المقهور ، الرافض ، للمنتفضين والعبيد ، للابطال والعاديين ، وللاعداء ، وللذين يسمعون ويقرأون ، والذين لا يسمعون ولا يقرأون ، لانني في الاساس ، اكتب للكتابة اولاً ، ثم لكل الناس ، والاشياء ، والاماكن ، والازمان .. .
الكاتب يكتب بعد معاناة ، لأن الكتابة احساس ومقدرة على ترجمة ما يمر به الكاتب في كتاباته وتقديمها للقارئ.
ان انتاج الكاتب بحاجة الى المعاناة والاكتواء بنار تجربة معينة تتفاعل مع وجدانه وثقافته وفكره. وعندما تضاف المعاناة الى تلك العناصر وتتداخل مع بعضها تحت درجة حرارة الاحداث الملهمة ، يبدأ التفاعل عند النفس المرهقة ، فتنتج مركباً جديداً اسمه الابداع .
فليس من امسك قلماً وسطر بعض الكلمات ، سُميَّ كاتباً . فالكتابة اسمى من ذلك ، انها فكر ، حي اولاً وقبل كل شيء .
وقد قرأت لاحد الكتّاب حيث أكد ان الكتابة لا يمكن ان تأتي الا بعد معاناة .. فهو كما يحلو له ان يحدث مشاكل مع اي كان حتى تتولد المعاناة لديه ، ومن ثم يصب غضبه في كتابته . اذ ان الكاتب لا يستطيع ان يسطر سطراً واحداً الا بعد معاناة مريرة ، وآلام لا تنتهي ، ورحلة مليئة بالعذاب والحسرة ، يمر بها الكاتب في حياته المليئة بهذه المتغيرات التعيسة .
اني اخالف الكاتب القائل فيما ذهب اليه في تفسير الكتابة ، ولكل شخص رأيه ، فالمعاناة لا تولد كتابة ولا تبرز كاتباً ناجحاً بل قد او ربما تنجب انساناً معقداً فاشلاً في حياته ، فكيف نتصور كائناً وحياته مليئة بهذه المتغيرات التي يحدثها او المشاكل التي تكون خارج كيان الاسرة ومبدعاً في نفس الوقت ؟ وبديهي ان ذلك سينعكس عليه بمردود من الصعب مقاومته .
عبء الكتابة ، معاناة ، لكنها عذبة الموارد ، وحملها ثقيل . لأن الكتابة هي من اصعب الطرق للوصول الى الحقيقة ، واول هذه الاعباء انك كاتب ، والكاتب محرم عليه ان يقول الحقيقة كلها، فأن قال ( نعم ) رد بـ ( لا ) وبالعكس . لكنه يمضي الى عالمه لا يبالي بايجابيات ( نعم ) ولا بسلبيات ( لا ) فهو منذ قرر ان يخوض عالم الكتابة ، ادرك رسالته وخلاصتها :- انه مع الكل اذا رأى ، وضد الكل ان هاج الكل في فورة الزمان .
ان الكاتب الناجح هو الذي يعيش في جو يتحسس المشاكل والظواهر الثقافية والاجتماعية والسياسية غير المرغوب فيها اجتماعياً والتي تواجه المجتمع ويطرحها مصحوبة بالحلول في عبارات قريبة من فهم القارئ . وان الكتابة تتولد لديه من احساس جياش يجول في حنايا دواخله وقدرته على ترجمة ذلك الاحساس بشكل موضوعي وبعبارات سلسة لها وقع مؤثر في نفسية القارئ .
كذلك ، ان يضع الكاتب نفسه في محل القارئ عند انتهائه من الكتابة ، وهل فعلاً ما كتبه يقدم فائدة ام انه مجرد كلمات ضائعة في اسطر . فالكتابة لابد ان تشبع حاجة القارئ الى الثقافة وتنمي معلوماته من خلال ما يطرحة الكاتب من خواطر .
ان عبء بل اعباء الكتابة تتمثل في :-
ان الجميع يريد ان يضم الكاتب اليه بينما هو يرفض الاصطفاف مع احد ، ايماناً منه بأن الفردية فيه تعني الكلية ، ولا احد يعلو الكلية الا هو ، لانه الاصل في البدء والبدء في الاصل ، لذلك حاول الكل ان يتهمه بالغرور والوحدانية والغطرسة ، وهو ليس من هذه بشئ ، انه فقط داعية وكان عندما بدأ يمارس الاشتغال بالحقيقة ، اعلن ان العالم بلا حقيقة ، ثم صرخ :- من يحرر الحقيقة ، واجاب بنفسه ـــ ان لا احد يحرر الحقيقة الا الحقيقة ، فسخر منه الجميع .
وثاني هذه الاعباء ، ان الكاتب وحده يستطيع ان يكشف اسرار الحرية ، متى تولد ومتى تختفي ومتى ينبغي ان تنطفئ فيها الشعلة الازلية . ولهذا السبب تثار عليه التهم ، تهمة اثارته للفتن ، وتهمة تحريضه على اقطاعيات المجتمع ، وتهمة انتمائه لحزب مرذول . واخطر التهم التي تناله في لحظات الفوضى ، تهمة الالحاد ، وتقوم لجنة من قضاة مخنثين برميه بالزندقة او الغنوصية او القرمطية ، وربما اعادوا عليه تهمة الحلاج ـــ صوت الحقيقة المصلوب الذي توضأ بفجر الدم ـــ
وثالث هذه الاعباء ، ان الكاتب يقيم تحالفاً سرياً مع المظلومين ، وان لم تربطهم رابطة الدم ، وهو يرى في المظلومية هاجسه الروحي الذي يحلق به في سمات الصفاء الانساني ، ودائماً يسمى المظلوم :- الحر او الخالد ، لانه الوحيد الذي تجرد من الانانية البشرية ، ولأن في معنى الحر والخالد يتسرب معنى الحرية ، وهو الكاتب نفسه افاد من فقه المظلومية عندما شاهد الحسين المظلوم وسقراط المظلوم، وعندما رأى الشهيد يتلوى من وجع الكون .. وهؤلاء كلهم ظلموا خارج الرحمة النبوية وعذبوا على مرمى من عيونه التي تبص سراً .
ورابع هذه الاعباء ، ان الكتابة ، الجيدة المربحة ، تؤول النص بمعنيين ، ويحمل بتفسيرين ، لأن الكاتب يكتب لجمهورين ، وهما على خلاف ـــ جمهور يفسر الاشياء بذوق صوفي وتصدق رؤاه ، وجمهور آخر يختزل المعنى بالالفاظ والحروف ، ويبقى الكاتب هو الضحية ، جمهور يشتمه وجمهور يتذوق معانيه ، وهو لا يريد ان يخسر حتى الذين يشتمونه ، لانه بولادته جاء يعلم حتى البكم والصم والعمي والاراذل .
والاراذل في معجم الكاتب ثلاثة :- خصم يتهمك بلا دليل ، وخصم يكره فيك الحق لانه ليس من الحق ، وخصم انزل فيه الله الكراهية لانه ممجوج شقار ملعون ، ولولا هؤلاء الخصوم لما اشتهر الكاتب ولما برع في صياغة الخطاب .
ومنذ حداثته ، تعلم الكاتب ، ان للحكمة ثمناً باهضاً ، وان الكتابة التي تنطوي على رمز الحكمة بحاجة الى نفس طويل وعريكة مخضبة بحناء النذور ، وتعلم ايضاً ان خطاب الحرية لابد من ان يتفاعل في الصبر النبوي، وان الحرية نفسها لابد من ان تمتحن في البلاء الحسن كي تنتصر على استخفاف الخصوم .
ويتسائل الكاتب :- ما معنى الحياة ، ومتى تنهزم ، ومتى تنتصر ؟ وبشجاعته يجيب :- اننا مهزومون وينبغي تحرير انفسنا . فأن لم تتحرر الحرية من الحرية ، اي ان لم تتحرر الحياة من ذات الحياة فلن يستقيم شيء فينا، ونحن حين نقوض الظلم وفساد الذمم ، نلتقي الحق الطبيعي، ويصبح بعد ذلك حقاً طبيعياً للجميع .
وهنا تصبح الكتابة وفقاً لذلك ليس عبئاً بل تصبح فرضاً مقدساً يؤديه الكاتب بسلاسة الروح وهدوء الدم وبنبرة قدسية عالية كما اداها اصحاب المدن الفاضلة ـــ افلاطون والفارابي والافغاني وماركس ـــ اولئك حرضوا على قتل الرذيلة وهي تعشعش في مكانها او هي تفقس في مراكز القوى الظالمة ، اولئك ايضاً ربحوا شرف الكتابة اولاً والحرية ثانياً والمقدس ثالثاً .
وحين تخيم اعباء الكتابة على الكاتب .. يجوع ويعرى ، لكن نفسه مملوءة بالرضا ، اذ لا نسمع الا الصهيل القوي في كل مسام روحه المعذبة الفوارة بينما نفوس خصومه لا نسمع الا العويل ونداءات الهجرة الى اقاليم الخارج .. وهنا ينتصر الكاتب على الحرية المقننة ويعلو على العابر ويجتاز الضفاف اليابسة الجرداء الى مدينته الفاضلة النابتة في رياح الروح .
وآخر الاعباء التي تترنح امام الكاتب ، انه يرغم بحسب وظيفته المقدسة على رفع سبابته الذهبية ، ويتهم :- هذا يحسب نفسه اطرش فيعزف عن سماع الحق ، وهذا يحسب نفسه معفياً من الحرام فيفسد في الادارة وينهب اموال القاصرين ، ثم يسرع الكاتب في خطاه ليدق ناقوس البلاغ المبين ويعلن :- ايها الناس لا حرية في نص كاذب او في نعش كاذب ، ولا حرية في حزب نصفه اعمى ونصف مُسير .

أحدث المقالات