26 نوفمبر، 2024 10:11 ص
Search
Close this search box.

الكتابة المضادة

1
أنني أؤمن دائماً بأن التعامل مع الأفكار لا يمكن أن يؤدي مهمته إلا إذا تم داخل إطار الحوار المعرفي الصريح والمكاشفة، والكتابة، بكل أنواعها، هي نوع من وسائل العرض البنيوي لتحديد قيمة الأفكار المختلفة، فحين يريد الكاتب أن يقول شيئاً ما فعليه أن يقوله بمنتهى الصدق والجرأة بغض النظر عن الانطباعات التي قد تترتب عليه حيال ما يقوله أو يكتبه، لأن الكاتب المختلف لا يحتاج إلى عقار مهدئ لإيجاد رضاءه النفسي، فهذه مسألة أخرى لا علاقة لها ببحث الكاتب عن المعرفة أو الكتابة بها، فالفكرة المتحررة تصل دائماً بواسطة اللغة وبهذا تحمل إلى الآخر معظم ما يريد أن يقوله الكاتب، ومواجهة الآخر ضرورية على أن تتم من خلال صدقية الأفكار ونقاوتها، ثمة حكمة ساذجة تقال عادة للاطفال، لا تقرب النار فانها تحرق أصابعك، ولكنني أعتقد إن الحريق في مثل هذه الظروف هو نوع من الخلق الإبداعي على مستوى الفكر الإنساني لأن الكاتب المختلف يتعامل مع العالم بأصابعه، هذه الاصابع التي كتبت مائة عام من العزلة لغابريل غارسيا ماركيز هي نفسها التي كتبت أنشودة المطر للسياب .
ثمة كاتب يقول، أنني لا أجيد سوى حرفة الكتابة مثلما يجيد الطباخ الأيطالي صناعة البيتزا، وهذه المسألة حصلت نتيجة لظروفنا المختلفة وهي نتيجة من نتائج البيئة التي عشنا فيها وليس مجرد سبب لها، ثم يستطرد بالحديث ويقول، لقد حملت أفكاري وذهبت بها خارج البلاد وطوال هذه المدة التي أمتدت إلى أكثر من عقدين بقيت حريصاً على تطويرها تحت كل الظروف والملابسات التي أعترضتني، بحيث بقيت متفاعلاً مع كل ما حولي من تفاصيل مدهشة وغريبة وموجعة في عالمنا هذا، فعلى الآخر (الناقد) أن يفهم من أن الكاتب (المنقود) لا يكتب إلا لكي ينقل شيئاً يحس به ويوصله من أقرب طريق قد تصل به الفكرة حتى لا يكلف الآخر مشقة البحث والتأويل، وهذا الأمر على ما يبدو لي من أبسط البديهيات .
2
الأخلاق تعني بالضبط ما تعنيه كلمة رصيد بالنسبة لأي عملة نقدية، فالعملة النقدية لا تستمد قيمتها من ألوانها أو أشكالها بل من نوع رصيدها فقط بمعنى أن نقودك بدون رصيد ليس أكثر من أكذوبة، قد يبدو للقارئ غرابة هذه المقارنة ولكنني أقول أن الدينار المزيف يشبه الدينار الحقيقي في الشكل لكنه لا يساويه في القيمة ذاك لأن رصيده لا قيمة له وهكذا أيضاً رحابة الصدر تشبه رذيلة اللامبالاة لكنها تختلف عنها في الرصيد فرحابة الصدر لا تأتي إلا عن فهم حقيقي لطبيعة الاشياء وقدرة صاحبها على الصبر، أما اللامبالاة فإنها تأتي لا محال نتيجة تبلد الأحساس والافتقار إلى الوعي، ومثلما هو الأبيض والأسود فالرصيد هو الشئ الوحيد الذي يستطيع أن يقرر الفرق الحاسم ما بين تلك المتناقضات والمخلوقات .
يمكن لأي كان أن يتصور الحرج الأخلاقي والفهم السقيم اللذين وصلنا اليهما جراء هكذا ثقافة بحيث تصبح الكلمة المضادة من المحظورات، ليس نتيجة القراءة المغلوطة فحسب بل الامتناع القصدي الذي يمارسه الآخر على قبول الجديد والمختلف أو التجاوز بصورة عامة وهذا الأمر على ما يبدو لي مـرده إلى طبيعة الذهنيات أو العقائد الدينية والايديولوجية المغلقة الموروثة، فهذه السلوكيات تريد أن تفرض نسقاً ومستوى معين لأي فكر حر أو كتابة مضادة وبالتالي تضع أشتراطات محدودة للحوار الفكري الدائر في الاوساط الثقافية المغايرة المتحررة التي تمتهن النزاهة ولا تتعاطى مع الأخلاقيات المزورة وترفع المعرفة شعاراً لها ولا تتلقى دعما ما من أي جهة قد تحدد لها خطها العام .
3
بعض من المثقفين لا يعرفون في هذه المرحلة الحرجة غير أن يضيفوا للغة بعض الفذلكات المستعارة من تلك القواميس العمياء الفارغة من كل المعاني الإنسانية المتحضرة الباحثة عن إضافات رتيبة تشبه النفايات حتى ليبدو الأمر بالنسبة للمتلقي، غير الملقن، وكأنها سلة مهملات، فما دامت لغة الثقافي المؤدلج في عراق المفارقات قد وصلت إلى طور العهر اللفظي فإنها فقدت حصانتها الأخلاقية والدلالية والرمزية فكل قول ثقافي مباح سيكون له دليلاً يتجاوز الاعتباطية في المعنى وصولاً إلى أبعد نقطة من الزيف أو الإيحاء الأعمى وعليه أثبت الثقافي وبسرعة قياسية الذهنية القاحلة التي يحملها وهو يشن حملة شرسة من الممارسات الإقصائية الموروثة عبر ذلك التاريخ المستعاد الذي أدخله إلى دائرة الضوء ليكون حارساً للتلقين وللحرية والغرائز والمعاني المؤدلجة والعقائد المنطفئة وبهذا تصبح كلمة الحرية أو الديمقراطية أو التمدن مستباحة عبر منظومة الثقافي التوتاليتاري ونظرته الجديدة بحيث يأخذ من خلالها قسطه المؤجل للإقصاء وفرصته الذهبية النادرة المؤاتية لأبتلاع الصوت الآخر المختلف تحت مسميات غرائبية شتى، إنها أساليب طغاة الثقافة الجدد وهم يروجون لمشاريعهم ومقولاتهم المفترضة، الحاضنتان الأساسيتان للعواطف البليدة العمياء أو المؤوسسات الأيديولوجية الرسمية الصماء التي ستؤدي، بدورها، إلى المزيد من اليتم الفكري والجدب المعرفي .
اللغة اليوم هي منطق الرديكالية الثقافية الجديدة التي هي منتج وعامل فصل بين المجتمعات القلقة اللامستقرة، ما يبرر نجاحها التلقيني، تساميها المصطنع وتجلياتها الشكلية التي تُفصح عن المكنون الذي بدوره يلغي الآخر ويهيمن عليه حتى وأن حاول الأفلات والرفض أو الكتابة المضادة، هذه هي لغتهم الزاخرة بمختلف الدلالات المتقاطعة مع البراءة والمعرفة والتأمل والبحث والاستعارات الضمنية أو الإشارات الملتبسة التي تضمر ما يمكن الأعلان عنه في غفلة عابرة .

أحدث المقالات