في ظل زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي ولقاءه الرئيس الاميركي جو بايدن لاستكمال جولة الحوار الرابعة والمتعلقة بوجود القوات الأميركية في العراق ، لا يختلف اثنان في ان ثمار اللقاء لم تحمل ادنى مستويات الطموح لشريحة كبيرة جدا من العراقيين اللذين يتطلعون الى عراق آمن ومستقر ذو سيادة وخال من المظاهر المسلحة التي تملك زمامها جماعات موالية لايران . ومنذ توليه هرم السلطة التنفيذية يواجه مصطفى الكاظمي حزمة من التحديات التي لا يحسد عليها على المستويين المحلي والأقليمي ، فاليوم هناك تحديات اقتصادية و أوضاع صحية متدهورة وخدمات متعثرة وتهديدات أمنية لا زالت تفرض نفسها تارة من داعش واخرى من المليشيات المنفلتة التي تهدد كيان الدولة وهيبتها ، والهيمنة الأيرانية لازالت واضحة لكل متابع للشأن العراقي مستبيحةً كل الاعراف والتقاليد التي تحكم العلاقات المتوازنة والطبيعية بين الدول . إذ كان البيان الختامي للمحادثات دبلوماسيا ً من حيث الشكل في جزء كبير من مضمونه ، حيث تطرق الى إنهاء عمل القوات القتالية الاميركية بحلول اخر يوم من العام الحالي ، و سيقتصر دورها على التدريب ومكافحة الإرهاب ، وان الحكومة العراقية تؤكد التزامها بحماية أفراد التحالف الدولي لمكافحة تنظيم داعش، وأنهم موجودون في العراق بناءً على دعوتها ، وأن الولايات المتحدة تعتزم مواصلة دعمها للقوات الأمنية العراقية من أجل بناء قدراتها على التعامل مع التهديدات وإنها ملتزمة بتعزيز الشراكة مع العراق، و أن الدور الأميركي سيكون مقتصراً على تقديم الاستشارات، وتوفير المساعدة في مجال التدريب والتصدي لتنظيم الدولة الاسلامية . مما لا شك فيه أن الكاظمي كان قبل سفره كمن يسير عل حبل فوق وادٍ تملؤه النيران ، فحواراته المحلية المتعلقة بمستقبل الوجود الأميركي في العراق بكل تأكيد كانت صعبة وحساسة كونها واقعة تحت تأثير القوى السياسية المسلحة الشيعية المعترضة على هذا الوجود والمطالبة بتنفيذ قرار البرلمان المثير للجدل والداعي إلى الانسحاب الكامل للقوات الأميركية من العراق، وهو ما تدعمه طهران وتحرص على إثارته واستخدامه ضمن صراع النفوذ الذي تخوضه مع واشنطن على حساب المصلحة العراقية ، فقرار البرلمان العراقي باغلبيته الشيعية وبعض الاطراف السنية كان متناغما ً مع رغبة ايرانية بتصعيد الموقف ضد الوجود الاميركي في العراق رداً على قرار الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب بإلغاء الاتفاق النووي مع ايران . إن مشكلة السيد مصطفى الكاظمي الكبيرة كانت ولا زالت مع الاحزاب العقائدية الموالية لإيران ولم تكن لديه مشكلة مع باقي الأطراف ، فسياسيو السنة اليوم هم الطرف الأضعف في أية معادلة عراقية ، إذ لا دور لهم في صناعة القرارات المتعلقة بمصير العراق لأسباب عديدة اهمها ان المناطق السنية أفرز ت طبقة من السياسيين في معظمهم لا يأبهون لمستقبل وطنهم وابنائهم بقدر اهتمامهم بالصفقات المالية والعقود التجارية فضلاً عن حداثة تجاربهم الشخصية في معترك السياسة والعمل الحزبي ، حتى ان قسماً كبيراً منهم قد باع نفسه ، و بات دميةً بيد اللاعب الايراني ، بإستثناء الموقف الكردي الذي كان واضحاً جداً ومنذ سنوات في هذا الشأن ، وعلى لسان السيد مسعود البارزاني حينما حذر رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي عام ٢٠١١ من تبعات خروج القوات الاميركية في ظل أوضاع أمنية غير مستقرة وتحديات إقليمية خطيرة تحيط بالعراق.
وبالعودة الى نتائج الزيارة وبيانها الختامي المتواضع يبدو ان السيد الكاظمي لم يفلح على مستوى الحوار المحلي مع الفصائل الموالية لإيران
في التعامل مع ملف وجود القوات الأميركية ، وقد فشل في إقناعهم بأن وجود القوات الأميركية في العراق هو جزء من التواجد الدولي الذي فرضته ظروف إحتلال تنظيم الدولة الاسلامية لجزء كبير من العراق عام 2014 ، وأن حكومته لا تستطيع استهداف تواجد القوات الأميركية دون غيرها من القوات الدولية المنضوية تحت مظلة هذا التحالف ، خصوصا وأن تهديدات تنظيم “داعش” زادت في الأونة الأخيرة ، مما يحتم على حكومته الاستعانة بالإمكانيات العسكرية والتكنولوجية المتقدمة التي توفرها واشنطن في مكافحة الإرهاب ، كما انه لم يستغل المساحة الخاصة التي يملكها والتي تخوله بتحطيم بعض القيود التي كانت تكبل أسلافه من رؤساء الحكومات بحكم الظروف التي جائت به للسلطة وفي مقدمتها ثورة تشرين ومطالب ثوارها مما يجعله قادرا الى حد ما على فرض رؤيته محلياً .
كان عليه أن يجلس مع تلك القوى الولائية قبل شد الرحال الى واشنطن وان يضع نصب أعينهم بأن الأدارة الأميركية ومؤسساتها العسكرية والأمنية مستعدة لكل الخيارات ، وهذا من شأنه أن يخلق مأزقا كبيرا لحكومتة التي تحتاج إلى الدعم الأميركي الأمني والسياسي والأقتصادي ، فالإنسحاب الكامل من العراق سوف يطلق العنان لواشنطن في أن تتعامل بكل شدة وقسوة مع الفصائل المسلحة ، بسبب تحررها من الاعتبارات والتوازنات السياسية والأمنية التي تراعيها وهي موجودة في العراق .
كما انه لم يستفد من عدم وجود إجماع وطني حول قرار خروج القوات الأميركية ، وهذا لا ينسجم مع دعوات المرجعية التي تكررها دائما بأن القرارات الاستراتيجية يجب ان تحظى بإجماع وطني عام . لذا أعتقد بأن السيد الكاظمي قد أخفق في إستثمار اوراق لعب رابحة عديدة في حواره مع خصومه من قادة المليشيات المدعومة من ايران ، فالكرة قبل الزيارة الى واشنطن كانت في ملعب الكاظمي وكان بإمكانه استغلال هذه الفرصة والذهاب بورقة واضحة تمثل احد الخيارين اللذين لا ثالث لهما ، هذه الورقة تتضمن حرص حكومته على بقاء القوات الاميركية في العراق وتعزيز هذا الوجود لينتقل الى الجوانب الاقتصادية والصحية والتعليمية ومشاريع الطاقة والاعمار ، والتأكيد على الانتهاكات الفاضحة للديمقراطية وحقوق الانسان وسلب حرية التعبير عن الرأي التي تقوم بها المجاميع المسلحة ، وطرح الورقة العراقية كجزء مهم في محادثات ڤينا من حيث تأثير وتدخل ايران في الشأن العراقي ، وان الانتخابات المزمع اجراءها بعد شهرين ستكون بلا شك غير شرعية في ظل وجود المال السياسي والسلاح المنفلت وعمليات التزوير الممنهج كما حصل في انتخابات عام ٢٠١٨ ، وهو أمر معروف للجميع ، لذا اعتقد انه خسر هذا الخيار ولم يبقى أمامه سوى خيار العودة الى مربع الخوف و المجاملة لكل الاحزاب والفصائل الموالية لإيران وهذا من شأنه ان يسير بالعراق نحو المزيد من الفوضى والمستقبل المجهول . كنت وغيري من الملايين في العراق نتطلع لطرح هذه المحاور المهمة والمفصلية التي من شأنها لو أُستثمرت بشكل سليم ان تنقل العراق الى مرحلة اخرى أكثر قبولاً وأهلية وان تضعه على الجادة الصحيحة التي يحلم بها شعبه بكافة اطيافهم . وحتى ذلك الموعد علينا ان نترقب ما سيجري ، لكن من المؤكد ان اميركا ستدافع عن مصالحها ومصالح حلفائها في المنطقة بكل قوة ، واذا ما استمرت عملية استهداف المصالح او القواعد الاميركية او مصالح الحلفاء ممكن التكهن بان تكون هناك ضربات استباقية امريكية او إسرائيلية وبتنسيق مشترك ضد ايران ومليشياتها الموالية في عموم المنطقة
، وهذا بدوره مرتبط بما ستُسفر عنه محادثات ڤينا ، وعلى كل الفصائل الموالية لايران في العراق ولبنان وسوريا واليمن ان تفهم حقيقة واحدة مفادها ( سيأتي اليوم الذي تتخلى فيه طهران عنهم لأن النظام في ايران يفكر بطريقة براغماتية تماماً ) ، لذا فمن المتوقع ان نسمع عما قريب خطاباً من هذا الفصيل الموالي او ذاك
يتقاطع مع المصلحة الايرانية ، ولنا في قادم الايام كلمة اخرى تتحكم بها مجريات الاحداث .