23 ديسمبر، 2024 4:42 ص

الكارثة الكهربائية :احرقت ماقينا ,انتهكت امننا ،كفرتنا بكل معالم حياتنا

الكارثة الكهربائية :احرقت ماقينا ,انتهكت امننا ،كفرتنا بكل معالم حياتنا

عراقنا أبو الليل الجميل ، صارت عاصمته بغداد ومحافظاته يرعبها الظلام، تهرب مسرعة نحو ملاذها ، تطلب الأمان المفقود ، اختفت اغلب معالم الحياة نهاراً كما اختفى النور فيها ليلاً . أطفالها يصرخون رعباً من ذلك الظلام الدامس، حيث تطفئ بغداد وبقية المحافظات يومياً بشكل شبه كامل تقريباً
إذ كل ما يمكن أن يقدم من الكهرباء هو عبارة عن ساعات معدودة لاتتجاوز الأربعة أو الخمسة في أحسن الأحوال يومياً . ولم تعد قصص الجدات عن عصر ماقبل الكهرباء تؤنس أطفال مدننا فوحدها سيُر المأساة تشد الأسماع وتعيد صياغة اللغة المتداولة في اغلب مدننا .
هذا وصف مأسارومانسي للكارثة الكهربائية التي ضربت اغلب مدن عراقنا فألغت فيها معالم الحياة، على الرغم من الجهود الخيرة لمنتسبي مؤسسات الكهرباء في إصلاح وترميم شبكات ومحطات توليد الكهرباء .
إن أي كلام عن عودة الكهرباء بشكلها الحضاري لن يتم وفق التصريحات الرسمية إلا بعد كذا سنة، من العمل المستمر في إصلاح مادمر. أما وأن الحكومة غير مقبلة على نهاية ما في الأفق المنظور ، فأن مدننا ستبقى تغرق في ظلام مرعب لم يحدث أن شهدته مدن في العالم المتخلف كله ، أعاد الناس إلى مرحلة ما قبل اختراع الكهرباء بفارق أن مولدات الكهرباء الحديثة حلت لدى البعض القليل محل وسائل الإنارة البدائية .
تنقسم أغلب مدننا الآن إلى إحياء وشوارع وأبنية يقاوم كل منها على طريقته الخاصة انقطاع الكهرباء . وتنشأ في هذا الإطار علاقات ومفاهيم وأوضاع تقترب من السوريالية حيناً وتحاذي البدائية أحياناً، تتسم بالعنف والعدائية في جزء منها ويغلب على جزء أخر السلم والتكافل والتضامن ، ويقوم المولد الكهربائي في تلك الأجزاء مقام الدماغ ، فبواسطته تنظم الحياة وتزود شرايين الجسم بالحركة والعمل . ولآن تلك الآلة هي السبيل الوحيد لمواجهة الانقطاع المستمر في التيار الكهربائي ، صارت الضامن الأساسي لسير دورة الحياة في بعض مفاصلها ، أما في قطاع المواطنين العاديين من ذوي الدخل المحدود والفقراء تتجه الغالبية منهم إلى استعمال وسائل اقل كلفة من المولد الكهربائي كالشمع ومصابيح النفط ( اللالات ) وبطاريات السيارات .. وكلها وسائل تفي بالحد الأدنى من الحاجة إلى النور ليلاً ولاتستعمل في توليد الطاقة اللازمة للعمل نهاراً .
وقبل الحديث عما مايولده انقطاع التيار الكهربائي من أزمات ومشاكل لاحصر لها ، ينبغي الإشارة إلى قافلة شهداء الكهرباء الذين سقطوا سعياً وراء إيصال التيار الكهربائي إلى منازلهم أو مراكز عملهم . أحدهم كان يحاول تركيب خزان وقود يغذي المولد الكهربائي في منزله حين وقع انفجار بسبب استخدامه اسطوانة أوكسجين لتلحيم الخزان غير مأمونة الصمام مما تسبب في مقتلة وجرح آخرين من أفراد عائلته مع بعض الأضرار المادية بمنزله .
أما عن أضرار انقطاع التيار الكهربائي فأنها باتت قدراً في كل القطاعات، ففي الميدان الصناعي منيت المصانع بخسائر فادحة لافتقادها الطاقة اللازمة لتسيير العمل . ويقول ذوي العلاقة بالتجارة والصناعة العراقية ، أن خسائر القطاعين باتت لا تحصى وان العديد من المصانع مهدد بالإقفال في حال لم تتوفر الطاقة الكهربائية وبالتالي اضطرارها لإقفال أبوابها وصرف العمال ، أما المصانع التي تعمل بواسطة مولدات الكهرباء فأنها مضطرة لرفع أسعار منتجاتها وتخفيض عدد العمال بالإضافة إلى اختصار ساعات العمل اليومي . ويخشى أصحاب هذه المصالح في حال استمرار أزمة الكهرباء أن يمنى القطاع الصناعي بضربة ذات آثار سلبية هائلة على مجمل الاقتصاد الوطني العراقي .
وفي مجال آخر ، تفيد الأخبار عن ضبط كميات كبيرة من المواد الغذائية الفاسدة يومياً في المخازن والمحلات الكبرى ، ويشار إلى أن هذه المواد تفسد بسبب عدم حفظها في البرادات مما يؤدي إلى تلفها السريع . والخسائر لاتطول فقط كبار التجار بل تنزل كذلك بالمؤسسات المتوسطة والصغيرة من مطاعم وباعة وكل ميادين التجارة .
أما في مستشفيات بغداد وبقية المحافظات العراقية ، فهناك من بدأ يتحدث بجدية عن الكارثة الكبرى، إذ أن استمرار انقطاع التيار الكهربائي في شكله الراهن يهدد بتحجيم عمل المؤسسات الصحية وبالتالي عجزها عن تقديم أي خدمة علاجية كاملة كونها تعتمد في جميع أنشطتها على التيار الكهربائي .
ولاتزال أصداء النداءات التي أطلقتها إدارات بعض المؤسسات الصحية لتزويدها بالطاقة تدوي في أذهان المسؤولين والمواطنين من له علاقة بذلك لكن لاحياة لمن تنادي ، وتعتبر هذه المؤسسات العصب الأساسي في القطاع الصحي ، ويشكل عجزها ضربة قاسمة للعراقيين في الظروف المأساوية التي يعيشونها .
وتعمل معظم المستشفيات حالياً بتوليد الطاقة من المولدات الضخمة ذات التكاليف الباهظة والتي لايمكن الاستمرار بالإيفاء بها مع تصاعد أزمة الوقود . ويقول أحد المسؤولين في إحدى مستشفيات بغداد ، أن الوضع بات لايحتمل ، فالساعات المحدودة لتوليد الطاقة عبر المولدات لاتكفي للقيام بعمل كامل في أقسام المستشفى، فكل شيء يحتاج للكهرباء ، ففي أقسام الطوارئ تعمل أحياناً على ضوء مصابيح البطريات مما يزيد من حدة المعاناة بالنسبة للأطباء والمرضى .
وفي هذا المناخ الأسود تحول الكهرباء إلى أهم سلعة في حياة العراقيين وباتت سعادة المواطن وتعاسته تقاس بامتلاكه هذا المولد أو عدمه وبات الطلب على شراء هذه الآلة من قبل الميسورين مزدهراً حتى أصبحت تشاهد الأرصفة والمتاجر مثقلة بها وهي تعرض كأي سلعة استهلاكية لاغنى عنها . وتشهد اغلب شوارع المدن العراقية مثل هذه الظاهرة إذ تمتد واجهات المتاجر والأرصفة المقابلة لها بكل أنواع وإحجام المولدات . وقد تحول عشرات التجار عن مهنهم السابقة إلى الإتجار بالمولدات المستوردة التي ارتفعت أسعارها بمعدلات سريعة حيث بلغ سعر المولد المنزلي ما يقارب الـ (700) دولار أمريكي . واللافت أن هذه السلعة لاتباع إلا بالعملة الصعبة مما يجعل الكثيرين غير قادرين على امتلاكها . وبفعل ذلك ارتفعت معدلات استهلاك الكاز والبنزين كما ارتفعت أسعار هذه المواد وبات من يملك مولداً بحاجة إلى استهلاك يومي للمحروقات مما فرض أعباء مالية إضافية .
وإذا مررت في أي شارع من شوارع مدننا العراقية فانك ستحاصر برائحة المحروقات والهدير والدخان الأسود المتصاعد من مولدات الكهرباء . وهذا ينسحب على بقية الشوارع والمناطق الأخرى . وباتت رائحة المحروقات دليل عافية ويسر في عرف البعض ومثار حسرة وبؤس في عرض الأغلبية . ولو تنصت إلى أية مدينة ليلاً لسمعت هديراً هائلاً ينبعث من أحيائها التي تعمل بواسطة المولدات الكهربائية ، كذلك فان الخيوط الأولى من نهار كل يوم لاتطلع إلا وتكون المولدات قد بدأت بالعمل مما يزيد من هموم العراقيين ومشاكلهم .
وليس امتلاك مولد كهربائي نعمة لصاحبه بل يتحول إلى نقمة ، فكثيراً ما تندلع مشاحنات كلامية بين أبناء الحي الواحد والبناية الواحدة نتيجة احتجاج البعض على هدير المولد ، فهناك من يريد الاستفادة من المولد بينما هناك من يريد أن يرتاح ، وطبعاً لاتحسم الخلافات أحياناً إلا بواسطة السلاح .
وعلى الرغم من هذه الصور السلبية لما يجري فأن ظواهر كهربائية تعبر عن ايجابيات لدى العراقيين ، ومنها ظاهرة التضامن بين أبناء الحي الواحد على مواجهة انقطاع التيار الكهربائي . فقد ابتكر البعض وسائل تعاونية مثلى في الحي الواحد عن طريق مساهمة عدد من العائلات لشراء مولد كهربائي جماعي يستعمل في أوقات محددة . وقد جرت مبادرات مماثلة في عدد من إحياء بغداد المرفهة على عكس نقيضها التي لم تستطيع توفير هذا الأمر لمحدودية دخلها .
وطلاب العلى هم الضحايا الأولون لهذه المأساة ، إذ لا يستطيع الطالب العراقي متابعة دروسه بعد عودته إلى منزله مما يحمله من أعباء إضافية خلال النهار لايستطيع في الغالب بالإيفاء بها . أما الذين يضطرون للدراسة في الليل فإنهم يستعينون على ذلك بضوء المصابيح النفطية والشموع حتى تتورم مآقيهم . ويلاحظ مسؤولون في المدارس والجامعات العراقية أن انقطاع التيار الكهربائي قد أثر بشكل سلبي على عطاء الطالب ، فبالإضافة إلى الآثار المترتبة عليه كمواطن من الناحيتين العلمية والنفسية فان غياب الكهرباء يدفعه إلى إهمال واجباته ومتابعة دراسته . ويقول هؤلاء أن ذلك بدأ واضحاً في نتائج الامتحانات الفصلية خاصة لدى طلاب المدارس الابتدائية والثانوية .
ولدى الأسرة العراقية يصبح للمسألة بُعد أكثر دراماتيكية ، فقد ابلغنا رب أسرة أن اضطرابات بصرية بدأت تظهر لدى أربعة من أبنائه الصغار . ويعزو ذلك إلى اضطرار أولاده إلى متابعة واجباتهم المدرسية بواسطة ضوء المصباح النفطي .
وتتعدى الأزمة هذا الميدان لتضرب العراقيين في نفوسهم وأفكارهم . إذ يقول طبيب لديه عيادة للعلاج النفسي ، انه بدأ يستقبل العديد من المرضى الذين يشكون من تهيؤات ليلية وكوابيس تكاد تحول حياتهم إلى جحيم .
ويذكر واحدة من زبائنه ، فتاة تبلغ من العمر (23) عاماً لاتستطيع النوم بمفردها بسبب العتمة وأنها تنام إلى جانب والدتها ولا تفارقها حتى بزوغ الفجر . ويشير إلى أن مريضته لا تتوقف عن سرد ما تراه في أحلامها من كوابيس وأشباح مما جعلها تصاب بحالة اكتئاب دائم .
ويتحدث الطبيب ذاته عن آثار العتمة على الأطفال من ناحية التخيل والسلوك والعلاقة بالأب وإلام والآخرين . ويثير الطبيب قضية الخلافات الزوجية والعائلية بسبب انقطاع الكهرباء ، ويقول :- إن ذلك يحدث غالباً بين الأسر الفقيرة التي لاتملك إمكانية الحصول على وسائل الإنارة الحديثة . فمن الهموم والاحتكاكات التي تولدها العتمة إلى الشكوى من عدم الحصول على مولد كهربائي مروراً بغيرة الزوج أو الزوجة من حصول الجار أو القريب على تلك الآلة إلى خلافات أخرى قد تتسبب بمشكلات خطيرة داخل البيت .
وبالإضافة إلى ذلك ، فأن المواطن ينحو إلى العزلة منكفئاً إلى أسرته أو إلى ذاته . فقد ضمرت العلاقات الاجتماعية وندرت الزيارات المتبادلة بين الجيران والعائلات بسبب غياب الكهرباء وبالتالي فإن الانتقال في الشوارع المظلمة بات يدفع سكان بغداد إلى عدم المخاطرة بالتجول ثم أن ترك الأطفال وحدهم في البيت جريمة لاتغتفر .
مدننا من شمال الوطن إلى جنوبه صارت تنام في ساعة مبكرة ، أسواقها ومتاجرها ونواديها ، تقفل عند المغيب استعداداً لليل طويل كثيف السواد . ولايجد أطفال المنازل الغارقة في هدوء صارم غير متابعة أخيلتهم التي يعكسها ضوء المصابيح النفطية حتى يتعبوا ويناموا في حضن العتمة أملاً بفجر جديد .

[email protected]