23 ديسمبر، 2024 3:41 م

في كل الحروب، وفي كل الأزمات، يختار الكاتب الوقوف بجانب الضحية، وذلك أمر عادي بحكم كون الكتابة ترتبط دائما بالانتصار لقيم العدالة والسلم.

يُعيد كِتاب “امرأة في برلين : ثمانية أسابيع في مدينة محتلة”، سؤالَ تمثل الآخر، سواء كان مستعمرا، أو محتلا، أو جزءا من نظام انقلابي. واستطاعت صاحبة الكتاب، الصحافية الألمانية مارتا هيلرس، أن تقدم سيرتَها المؤلمة بشكل إنساني، بعيدا عن أي حقد على المحتل الروسي الذي كان مصدر جراحاتها وجراحات نساء برلين اللواتي استبيحت أجسادهن بعيد احتلال العاصمة خلال نهاية الحرب العالمية الثانية. مارتا هيلرس اختارت جبهتها، اقتربت أحيانا من حب مغتصبيها، غير أنها فعلت ذلك منتصرة لوجه الإنسان في العدو.

في كل الحروب، وفي كل الأزمات، يختار الكاتب الوقوف بجانب الضحية، وذلك أمر عادي بحكم كون الكتابة ترتبط دائما بالانتصار لقيم العدالة والسلم. لكن الأمر ليس كذلك دائما؛ ففي كل الحروب والأزمات ثمة أيضا من يختار الجبهة الخطأ، عن انتهازية أو سوء تقدير.

ففي الوقت الذي اختارت فيه مارتا هيلرس تدوين يومياتها، قبل أن تصدر بدون توقيع، فضلت جوقةُ من الكتاب الفرنسيين التعاون مع المستعمر الألماني بشكل معلَن، مدعَّمين أيضا بدور نشر ومؤسسات فرنسية. وتبدو لائحة الكتاب الفرنسيين المتعاونين طويلة، من روبير براشيلا الذي عبر عن افتتانه بالعبقرية الألمانية، والذي سيتم إعدامه، رغم التدخلات لصالحه لدى الجنرال دوغول، إلى لويس-فيرناند سِلين الذي أعلن استعداده لرمي كل اليهود والماسونيين والكهنة في البحر، إلى ألفونس دي شابريون الذي كان يَعتبر هتلر إلهً جديدا، إلى الكاتبة الشهيرة مارغاريت دوراس، التي اشتغلت كأمينة سر اللجنة المكلفة بممارسة الرقابة على الكتب الصادرة بفرنسا، خلال مرحلة الاحتلال الألماني. كما لم تخل الجهات الأخرى من جوقات المتعاونين، حيث كان يسيرا أن يجد رجالات حرب كفرانكو وموسيليني من يقاسمهم جنونهم.

ولأن الحرب هي الحرب، ولأن الأزمات هي نفسها، ولأن لكل كاتب مزاجه وقدرته على الالتزام، سيتكرر المشهد نفسه دائما. ذلك ما حدث، على سبيل المثال، بسوريا، حيث سيتجند كُتاب للدفاع عن النظام، تحت أكثر من ذريعة.

ثمة وجه آخر لموضوع الخيانة، أقصد ضحايا التخوين. العالم المغربي محمد الحجوي كان أحدهم، نتيجة موقفه المؤيد لنفي العاهل المغربي الملك محمد الخامس.الحجوي كان قد راكم تجربة علمية ومهنية، حيث كان وزيرا للمعارف، قبل أن يوضع اسمه ضمن لائحة الخونة. غير أنه بعد سنوات من ذلك، سيعود البحث المغربي إلى إعادة اكتشاف المشروع الفكري الاستثنائي للحجوي، الذي كرسه للجواب عن سؤال النهضة، والقائم على الإصلاح وعلى دعوته إلى الاستفادة من الغرب.

دُفن الحجوي بفاس، ولم يحضر جنازته أحد. وسُيخرَج من قبره لينقل إلى مكان آخر، بعد أن امتنع الناس عن الصلاة في مكان دفنه. كان ذلك مصير عالم لم ينصفه البعض من رجالات الحركة الوطنية، وأنصفه البحث العلمي.
نقلا عن العرب