حسين عبد اللطيف : (أمير من أور) بالتجاور الشعري
مقداد مسعود
الورقة المشاركة في مربد الشاعر حسين عبد اللطيف 2019
(*)
عن بقية الأعمال الشعرية للشاعر والصديق الحميم،فقيد الحركة الشعرية العراقية (حسين عبد اللطيف) – طيّب الله ثراه – ينماز هذا الديوان/ ديوان القصيدة الواحدة والتي هي ثريا النص بالعلاماتيات التالية :
( 4) إقترضات شعرية خارجية
(*)
من خلال متابعتي للأعمال الشعرية للشاعر حسين عبداللطيف، وكتابتي عن بعضها، تستوقفني مناورة اتصاليات : الأكتشاف / الأحتجاب، لاحظت ُ أن الشاعر يناور بدقة ٍ متناهية ٍ ،في أرضه الشعرية الصغيرة مثل حبة رمل والواسعة مثل رؤية عين الإنسان المحتفية بالجديد اليومي وبشهادة حسين عبد اللطيف :
(أرغب
في أن أصبح
شجرة ً
وأرافق َ نهرا)..هنا شعرية الثابت والمتحرك : شجرة / نهر
(*)
يشتغل حسين عبد اللطيف في (أمير من أور): موضوعة واحدة، وهو أشتغالهالشعري الوحيد، المكرّس لشخص ولمهيمنته . وهذا التكريس منصة حسين لإطلاق: نفي النفي، فهو ينفي موت صديقه الحميم أحمد أمير، وتكون أداة النفي بمثنوي قصائد الشاعر ونسخ بالأبيض والأسود من لوحات التشكيلي أحمد.. بدءا من وجه الكتاب وإنتهاء بقفاه. وحدة الموضوعة لا تحتاج شهادة الشاعر حسين عبد اللطيف، وهي بالنسبة لي كقارىء نوعي غير مقنعة ..حيث يقول حسين في حقل (إضاءات القصائد) ص61 الكلام التالي (جميع القصائد بمثابة وداع لأحمد)، القصائد لا تودع أحدا.. القصائد تنتزع الغائبين من مخالب الغراب وتنفخ فيهم من روح الشعر الخالد الأبدي وضمن قراءتي المنتجة، لا أرى أحمد أمير ميتا، أرى في حياته نجمة ً خضراء متألقة في سماء من تصنيع قصائد حسين عبد اللطيف .
(*)
أقترض من علم السرديات، وأقول،تلمست ُفي (أمير من أور) توافقاً إتصالياًبين الراوي والمؤلف والبطل المحوري، كما تلمستْ قراءتي المنتجة، شعرنةالوقائعي المعيش هناك في كافة المتواليات الشعرية / قصائد المجموعة .
(*)
يقترض حسين من ديوانه (نار القطرب) قصيدة (دوّارة الرياح) المهداة إلى أحمد أمير في حياته وتحديدا في أيلول 1980 وهي قصيدة أسى وفراق كأن لا لقاء بعده بين الشاعر والتشكيلي،والرياح هي المفتاح الثاني في القصيدة، وهي النسق الأول من ثلاثية شعرية في القصيدة:
(الرياح التي من مراكش قادمة
وانتهى
في عذاب القرنفل والبرتقال
ذهب العائلة)
(كان سرب اللقالق أخضر َ نشوان تحت القمر
يعبر النافذة
نحو أي الطرق
سوف تفضي بنا السنوات
وتقود خطانا
نحن قد نلتقي أو يضيع كلانا)
هنا مثنوي لافكاك منه : اللقاء وهو مسبوق بإداة تحقيق (قد) أو ضياع الأثنين
: الشاعر والرسام.
قبل أن تستدير القصيدة نحو بداياتها، نلمس النسق الأول للرياح، يتكون من جملة متداخلة متماسكة بوشيجة واحدة، جملة شعرية في داخلها، وحدات شعرية صغرى، والجملة المركبة، بسعة صفحة من مطبوع .
تخاطب العنصر الطبيعي المتحرك / المتسارع، وتجعل العنصر الطبيعي مطوقا بالمضاف إليه، فالنص لم يقل،(يا رياح) بل طوقها بالزمني (يارياحالسنين ) وكذلك لم يكتف بل زاد على ذلك بمسائلتها
(يا رياح السنين
ما الذي – جئتنا – تحملين ؟
العقيق الكريم
الزمرد والترمالين
أم غصونا من الآس والياسمين !)
تكاد مساءلة الرياح: تصبح معاتبة ً:(ما الذي – جئتنا – تحملين!) وتتحول الصيغة من علامة السؤال في النسق الأول(؟) إلى علامة التعجب (!)، ويكون العتب/ التعجب.. هو الأول والسؤال هو التالي
(يا رياح السنين
مالك ِ
مالك ِ
كلما تقبلين
نحونا
،، متأخرة ً دائما تقبلين ،،!!
(*)
القصيدة تتحرك بسرعة الرياح بين الأمكنة، وبمشيئها : مراكش، منزل الشاعر في البصرة، باريس، فينيسيا، الرفاعي، الشطرة، ثم تزداد سرعة الرياح وتصل ذروتها كعاصفة،وهنا تكتمل دائرة الرياح والقصيدة التي بدأت هكذا (الرياح التي من مراكش قادمة دخلت منزلي)..سوف تنتهي
(ثم إذ أنتحي جانبا كي ألوذ بنفسي…
من وطأة العاصفة
لا أرى الباب َ أو فُرجة َ الزاوية
لا أرى المنظر َ الجانبي.)
هنا استدار كلام القصيدة من المثنوي إلى الوتر :(ألوذ بنفسي) وهذا الوتر هو فاتحة القصيدة ( الرياح …. دخلت منزلي وانتهى … ذهب العائلة)
(*)
في (أمير من أور): الفعل الشعري في هذه القصيدة هو فعل تذكر محض ومحاولة مستميتة، في التصدي للرياح، من خلال تحصين الزمن الجوانيداخل الذاكرة، وهكذا يكون الماضي مستمرا/ تذكرياً ، والمعرفة هي هي منذ زينونا لأيلي : لا جديد تحت الشمس
(أعرف أن هذا مؤسف ومؤس ِ وفادح جداً
زلزال
ب 5 درجات على مقياس ريختر
وإن ما عرفته للتو
هو عين ما عرفته أمس
أو ما سأعرفه غداً/ 52-53/ قصيدة –أمير من أور )
(*)
أقف هنا مع : كيفيات التمويل الذاتي الشعري، لدى حسين عبد اللطيف …
بالنسبة لي أرى أن قصيدة (دوّارة الرياح) في (نار القطرب) ديوان حسين الثاني و قصيدة : (الفرارة) القصيدة الأولى في الديوان الأول للشاعر(على الطرقات أرقب المارة)
أولا : كلا العنوانين، يستعملان الوسيلة البلاغية نفسها :أعني( الالتفات) ونوع الالتفات هنا تشخيصي وليس تجريدا،فالشاعر لايخاطب ذاته كآخر،بل يأنسنالشيء ويصيره ذاتا تعي وتسمع وتجيب.
ثانيا : العلامتان : الدوّارة / الفرارة، يتحركان بالقوة وليس بالفعل، أعني لايوجد تسيير ذاتي، بل حركتهما مشروطة بإستقواء براني، الريح/ الرياح: فعل تحريك الدوّارة،والفرّارة نفس الشيء،
ثالثا : الفرق الوحيد أن جماليات حركية الفرارة، تحتاج قدمين بريئتين كالطفولة،
وتنماز الفرارة بألوانها المبهجة وتنتسب للأرض، بينما دوّارة الرياح كالحة، راسخة في مكانها مثل جندي معاقب
رابعا : الفرارة كعلاماتية مثلما تحيل للطفولة تحيل للبائع، المحذوف من العنونة،
ومثبت صوته في القصيدة ،لكن قراءتي لا تراه بائع فرارة، بل جوّاب مدن، يمتلك وعيا فلسفيا، وهذه النبرة الواعية جردته من الوعي المتآلف/ المؤتلف مع أنظمة السلوك الجمعي كبائع فرارة بسيط،، وهنا ترى قراءتي أن الوسيلة البلاغية (الألتفات)، سددت الكرة في العارضة وليس في المرمى:
(لا وجها أملكه ..
لا أنتظر..
منفيّ أتغرب في المدن
أتوزع مثل شظايا العبوه)
وهنا ينهض السؤال التالي ما الذي افتقده البائع : الوجه؟ أم القناع؟! إن كان هو بائع فرارات فوجهه معلن من خلال مهنته؟
(وجهي
يتسكع في الحارات
يتجول في الأسواق وفي الطرقات)
وإن كان غير ذلك فالقناع متوفر أيضا وتجسده الفرارة ذاتها وهذا البائع الجواب، يحيلني الى ذلك الذي على الطرقات يرقب المارة، هو يكتفي بالمراقبة، والناس بشهادته :
(يغدون ويروحون
لم يعبأ بي أحد منهم)
(*)
الفرارة مبهجة بألوانها وبساطتها،وهي تزوّد أولاد الفقراء بأجنحة ملوّنة وتدربهم على الطيران السعيد. خلافا لذلك تكون دوّارة الريح: كالحة موحشة، معاقبة بلا سبب بصفعات الريح والرياح والمطر، ومن هذا المثنوي تتشكل روح الشاعر
(*)
هكذا تعامل حسين عبد اللطيف وهو يخاطب الرياح بنسق ثلاثي والرياح بوظيفة سارد عليم بخصوص الشاعر، فهي تسبر أغواره وتخاطبه :
(أقلبك زهرة دفلى
وجرح
ونجم يغور
ولا يتفتح صبح
ولما أرتطمت
بكيت ُ
كثيراً
بكيت / من قصيدة /الريح لا تعرف القراءة )
(*)
دوّارة الرياح وكذلك الفرّارة ، كلاهما من حيث دلالة المطابقة في موضع الالتفات ، وهذا ينطبق أيضا على قصيدة (أيها البحر يا راعيا ياصديقي) في ديوانه الأول فقد قام الشاعر بتذويت البحر وتشخيصه وأنسنته، كما لدينا تراسل مرآوي بين الذات والآخر والذات والأشياء، وكلا التراسلان المرآويان، يؤكدان حقيقية واحدة هي : لا يحدث التماهي إلاّ لأن، هو: نحن بنسخة ثانية،غير مطابقة تماما لكنها مجاورها وبها نكتمل ونتحقق وجوديا،فالمتكلم في النص هووليس البحر، هو يؤدي دور البحر في مسرحة القول :
(إنه البحر
ومِن عادة البحر – الزيارة) : هنا صوت الراوية
ثم ينتقل الكلام للبحر
(وأنا أعرف وجهي
سفناً تعلو
وأخرى
في الهبوط)
هنا حسين عبد اللطيف (يتقنع عن ذاته فيصادرها ويختفي مستفيدا من قدرة الالتفات على الالتحام والتحويل)..والألتفات كوسيلة بلاغي نلمسها بينة جداً ، بدءاً بعنوان قصيدة (الشخص خارج القوس)، وتثليث الواحد، فالواحد متوفر في الضمير المتصل، تاء الفاعل في (تذكرتُ) و(أفعله)وياء التملك في (حياتي) و(أغنياتي) وهذه الوفرة بالتوازي مع الشخص الذي خارج القوس، والشخاذالغريب الباكي
(لو تذكرتُ
قليلاً
فقليلا
ماالذي أفعله الليلة أو بعد سنين
من حياتي
كان شخصا.. خارج القوس.. يغني أغنياتي
وعلى الشارع، شحاذ غريب
كان يبكي)
(*)
(دوّارة الرياح) بالتجاور التسموي تعيدني إلى قصيدة (أدراج الرياح) ومن التجاور تعيدني لعصيرها الشعري المكثّف والتجاور الاتصالي دلاليا :
(قد كان ماكان ..فما للأسف
الآن من معنى
قد يلمس الأعمى
قرارة الهاوية
ويألف السكنى )
(*)
من (دوّار الرياح) كذلك أصغي لعواء السطر التالي :(تمضي القطارات بيمتلاحقة ً كالقطا..عاوية )..فأستعيد قطارات، أولها قصيدة حسين عبد اللطيف(أغنية قطار الحمولة)، وهو قطار لا يحتاج محطات وقوف، وله صفات يلتقطها الشاعر ويشعرنها
(يرين عليك الغبار الثقيل
ويعلو صداك الانين
وهذا الحديد
يصر
ويعوي
وأفعى الطريق
طويلة )
(قطار الحمولة
قطار الليالي
قطار السنين الخوالي
إلى أين تمضي بركابك الميتين؟)
هنا رؤية لا تخلو من غنائية شاعر يكتفي من الطرقات بمراقبة المارة.أما بالنسبة لي يحيلني قطار الحمولة،إلى (قطار الموت) بعد حركة حسن سريع في تموز 1963 ثالثة سأقرأ القطار وجيزا في قصيدة للشاعر البصري، عبد الحسن الشذر:
(رحلتُ في قطار موت لا يعود بالمسافرين للديار
مختومة بالقار كل قاطرة
مختومة بالعار كل قاطرة)
وسأقرأ (قطار الموت) نفسه بالتفصيل الشعري، معطرا بجراح الشاعر الكبير ألفريد سمعان
(ها أنت
مشحون بصندوق الحديد
تغادر صدرك الأنفاس
تخنقك الرؤى السوداء
والأحزان والحسرات والذكرى
وتأريخ تكبله السجون والأصفاد
والغضب الدنيء/ ألفريد سمعان / القطار/ مطابع دار الأديب/ عمان – الأردن/ ط1/ 2011)
(*)
أعود إلى قصيدة (دوّارة الرياح): الدرس الشعري الذي تلتقطه قراءتي: الشعر هنا بوظيفة ردم فترة المسافة بين آخر لقاء بين الشاعر والتشكيلي، وكان الثاني يحاول إعانة الاول ليسافر إليه ويلتقيان ..في سنوات الحصار،بشهادة الشاعر حسين عبد اللطيف آنذاك. وشعريا يتساءل حسين وهو يوجه خاطبه للتشكيلي بعد رحيله وخاطبه يتماوج فيه الآن / كان كما نلاحظ أن الشاعر في هذا الديوان، يستعيد، المكين والمكان وكلاهما بمشروطية الشخص الراحل، ومن خلاله يستعيد شريطا من أسماء أدباء لهم علاقة مع الأثنين : الشاعر والتشكيلي، وسوى حسين لا يوجد فيهم أديب من البصرة !!
(ألا توجد طريقة ، ألا يوجد عنوان ؟)
(ليس صحيحاً أنها هناك أو في أيّ مكان
آخر .
لكن أين ؟)
(ألست في المرتبة التي تؤهلك لذاك ؟)
(وماذا يعني لو أنه نجح مرة ً في الاختباء)
(سحابة أمس فقط ؟!
من إذن سيشاطرني فرحي
برذاذ أيلول؟)
(ألا توجد طريقة، ألا يوجد عنوان؟)
والأسئلة هل نجد خليتها الموقوتة في السطور الأخيرة من الصفحة الأخيرة :
(لقد قضي الأمر
ولا سبيل للاستدارة أو الرجوع
ولكني – مع ذلك – أريد
أن أعرف وجهة نظرك بي
وأنا أتحطم كآنية )؟!
(*)
شخصيا أرى شعرية حسين عبد اللطيف،مكتفية بتمويلها الذاتي، إذ توسعت هذه الشعرية في الاشتغال على الحدث نفسه، الذي اشتغله في البدء بصيغة قصيدة
( أمير من أور) وهي قصيدة كتبها حسين في 16/ 6/ 1994 ثم نشرها في الاقلام، ثم تجاورت معها قصائد أخرى كأنها تشققت منها، فأكتملت شعرية الرثاء بجهد حسين عبداللطيف الفردي أما المقبوسات من نصوص الآخرين: فهي تزينية عاطلة عن الوظيفة بل لها مع مصدات كونكريتية أمام السلسبيل الشعري المتوفر في قصائد حسين عبد اللطيف.ذات جهوية تحاورية مع الشخص الغائب/ التشكيلي أحمد أمير الجاسم..
(*)
خلافا لذلك كانت الأهداب النصية/ ما بعد المجموعة الشعرية المنضّدة تحت عنوان (إضاءات – القصائد) تعين القارىء في فك الشفرات الشفيفة .
* حسين عبد اللطيف /أمير من أور/ دار الينابيع/ دمشق / 2010