23 ديسمبر، 2024 12:41 ص

القراءة بالتحاور مع (ليس لي سرٌ لأ لغز ) للشاعر نصيّف الناصري

القراءة بالتحاور مع (ليس لي سرٌ لأ لغز ) للشاعر نصيّف الناصري

الى صديقي الجديد : الحمزة عبدالله

يتكون الكتاب من سيرتين للشاعرنصيف الناصري، السيرة الأولى تبدأ من ص 5 وتنتهي في ص235، وتبدأ السيرة الثانية من ص 237 وتنتهي في 414
(*)
لا علاقة لي مع الشاعر نصيف الناصري كما أنني لم أطلع إلاّ على القليل من قصائده التي كان ينشرها في الصحف العراقية في سنوات الحصار، رأيته مرة واحدة قبل مربدين في البصرة، على ذمة ذاكرتي،استعرت ُ من مكتبة شهريار (ليس لي سرّ لألغز ) الصادر في البصرة عن (دار المخطوطات للنشر )(المعقدين للنشر والتوزيع / العراق – البصرة – شارع الفراهيدي)، يتكون المجلد من (419) صفحة من الحجم الكبير،قرأت ٌ الكتاب ولم أتركه إلاّ بعد ليلتين، فهو متوفر على عنصر التشويق والدعابة والوضوح وهكذا ألتزم المؤلف الشاعر نصيف الناصري بالعنوان الثاني للكتاب وهو يلي العنوان الجمالي الذي يتموضع بالأصفر والأحمر، العنوان الثاني بوظيفته التفسيرية، يشترك مع اسم المؤلف بالبياض اللوني ..
(*)
ما يسرده حول خدمته العسكرية في شمال العراق، أعادني إلى مَن أكلت أجمل سنوات عمري حين كنت عسكريا: أعني الجبال التالية : كوميتان/ شهيدان/ نورا/ كنو/ بلغة/ قنديل، فأنا لم أخدم يوما واحدا في البصرة أو سواها، خدمتي الألزامية (1977- 1991). من وضوح البصرة وبساطتها، قذفتني مع مواليد 1958إلى تجاعيد الجبال وغموضها المرعب في أغلب الأحيان، لكن للجبال فضيلة واحدة ، جعلتني أكتشفتي بنسخة مزيدة، عند ينابيع المياه وصداقاتي لبغال المؤونة التي منحتني نصوصا جديدة في 1978 ولم تنشر هذه النصوص إلا في 1995 ، كما لدي مخطوطة سردية لم تنشر بعد، تتناول تلك السنوات الموحشة الأنفرادية .
(*)
أستوقفتني أسئلة الشاعر نصيف الناصري: البسيطة / الضروية، وهي أسئلة تفكرنا ونفكرها حين تتراكم خبرتنا وتتعمق في المعترك الثقافي :يتساءل نصيف (ما الذي يجبر الشاعر الشاب الجديد على رهن مشروعه الشعري الذي ينبغي أن يُكرّس حياته كلها مِن أجله، على التلطخ بمشروعات وثقافة السلطة الطائفية ؟ /352) ثم يجيب بأسئلة شتى : (أهي جنّة المال. الوظيفة، الفهلوة، الحصول على مغنم؟) في عراق التقلبات يوجد مثقفون، يصيرون طوعا من صباغين لأحذية السلطة والغزاة، وهؤلاء يتمتعون بمطاطية خرافية، هؤلاء مثل أولئك الذين يعزون العائلة المالكة في يوم 14 تموز وبعد تناول المفطح والقيمة، يغادرون العزاء ويقصدون مقر الحزب الشيوعي العراقي في شارع أبي نؤاس ويقدمون التبريكات بمناسبة الزعيم الأوحد !! ويتساءل نصيف الناصري( أيش الفائدة مِن ادمان الشاعر الحالم المثقف، للتلفزيون وبرامجه التافهة./ 353) هذا الأدمان بسيط مقارنة بمن كانوا مثقفين واليوم يتوسدون الفسيبوك وأخوته، على مدار اليوم!!
(*)
يحدثنا عن غباء الرقيب مع (أناشيد مالدورو) للشاعر الغرائبي العظيم الكونت فيدور دوكاس، الذي عرفناه باسم (لوتريامون) الكتاب صار بين يديّ الرقيب العراقي في 1982 وبفضل الرقيب (مُنَع الكتاب من النزول إلى المكتبات بحجة أن لوتريامون يتغزل بالقملة والرياضيات ../356) وهنا تستعيد ذاكرتي نسخة ً مخففة من الرقيب، في 1993، كنت في زيارتي الأسبوعية إلى معهد المعلمين في البصرة، أتوجه مباشرة إلى صديق عمري ومستشاري الثقافي وأستاذي الفذ الشاعر مجيد الموسوي(طيّب الله ثراه) كالعادة أراه في مكتبة المعهد، الشمس تلقي بذهبها على خزانات الكتب: هدوء يخالطه صمت ُ زكي الرائحة، اسلمه كتبا ويسلمني كتبا، اسلمه نصوصي الجديدة، يسلمني قصائده الجديدة، أعيدها إليه ليقرأها بصوته العذب .
ذلك الضحى كان بين يديه كتاب لوتريامون، استعاره من استاذنا الشاعر كاظم الحجاج، الذي استعاره بدوره من الشاعر حسين الحسيني، منحني الموسوي يومين لقراءة لوتريامون، حتى يعيد الكتاب إلى الشاعر كاظم الحجاج…………………………………. بعد يومين اعدت ُ أناشيد مالدورو، تأملني الموسوي، تأملته وخاطبته بصوت منكسر: هذا الكتاب الرائع تأخر عني أكثر من ربع قرن.. تساءل الموسوي وهو يقرب وجهه نحوي : قصدك ؟ أجبته بحسرة : ماكو شي..ومن أجل أن يمحو أساي، قال لي سأضحكك: (أحدهم تصفح الكتاب، واخذه ليقرأه هنا
بعد دقائق أعاد الكتاب، وهو يقول لأذهب وأكمل أطروحتي….) !! صاحب الأطروحة الآن دكتور في أحدى الجامعات العربية… يا لبهجتي في آب 2016 وأنا التقط كتابا للمعلم الأكبر غاستون باشالار، عنوانه (لوتريامون) ترجمة حسين عجة، عن دار الروسم/ 2015 عدد النسخ 500 نسخة فقط، وهنا ألتقط جملة، جملة واحدة من باشالار (وكيف لا نُصدم، عند قراءتنا ل،، أناشيد مالدورور…/64)
(*)
مسك ختام كتاب الشاعر نصيف الناصري، بعنوان( بيان اعتذار) يقول نصيف الناصري (أعتذر الى الشعب العراقي وخصوصا ضحايا النظام الدكتاتوري وضحايا المقابر الجماعية، واعتذر الى الشعراء العراقيين أيضا عن تلك القصيدة السخيفة التي أجبرتُ على كتابتها في عهد الميلاد المزعوم للطاغية …في 28/4/ 1992،واشتراكي مجبرا في مهرجان ،، الميلاد العظيم،، الذي أقامه منتدى الأدباء الشباب ../415) يبدو أن الشاعر نصيف الناصري،الوحيد الذي يعتذر عما أقترفته يداه شعريا.. وتلك فضيلة المفرد على الجملة …
(*)
ما يقوله في الربع الرابع من ص13 لا يمكن الأتفاق معه (أضع جميع المقدسات في المرحاض) هنا يحذف الشاعر والإنسان نصيف الناصري، حرية سواه، ويستفز مشاعر الكل بلا مبرر .. وكذلك يقول (منذ طفولتي لم أخضع الى مقدس في العائلة. والمجتمع.الدين .الآلهة،الثقافة،العمل .السياسة.الدولة. عشت حياتي كلها حّرا ولم أتورط بالتقليد /345) لكنه سرعان ما يتخذ دور حراس المعبد المتشددين ..(فأنا أود دائما طرد القارىء من قراءة القصيدة /345) ويبرر ذلك بتهمة يوجهها / يعممها :(لأنه بصراحة غبي ويود أن يفهم) وهنا يقف الشاعر نصيف ضد تفهيم/ إفهام القارىء،دفاعا عن الشاعر أي شاعر (واذا مهّدنا له مهمة الفهم فأنه يدمر عمل الشاعر ) ثم يعود الشاعر لما ينكره من مقدسات (في جميع العصور كان جمهور الشعر الحقيقي قليلا. وهنا تكمن قداسته وجذوته المستمرة أبدا/ 346) إذن الشاعر نصيف الناصري – حسب منطق الديالكتيك – : يمارس قانون نفي النفي،فهو يقوم بنفي المقدسات كلها، ويعتصم بمقدس !!
(*)
من جانب آخر كان الشاعر نصيف الناصري، من المحظوظين فقد توفرت له مساحات من حرية النشر وحرية الانعتاق من الجبروت مقارنة بنا نحن الذين أحتملنا كل شيء في الداخل وأكتفينا بالأقل من القليل. وبشهادته هو :(بعد مغادرتي العراق في 14/12/ 1994 بمساعدة كريمة من أمل الجبوري../ 29) ..ثم يقوم (بتمزيق الدعوة التي جلبتها لي /164) وبشهادة نصيّف نفسه (عام 1993بعد أن عادت من اتحاد من الأردن،جلبت لي دعوة من اتحاد الأدباء في الأردن حتى يتسنى لي مغادرة العراق من دون أن أدفع مبلغ الضريبة الكبير التي لو أبيع أمي وأبي ومنزلهما لايكفي لسفري الى الأردن../164) في تلك السنوات التي يتحدث عنها نصيف، كنا نحن الأدباء البصريين المجايلين للشاعر نصيف لا نذهب إلى بغداد إلا بشق الأنفس وإذا ذهبنا لا نمكث أكثر من ليلتين في أردأ الفنادق، ومتعة بعضنا الكبرى، في مهرجان المربد الشعري فالسفر والمبيت ووجبة الصباح مجانا، وبعد تمزيق نصيف للدعوة المجانية بالسفر سيحصل من الشاعرة نفسها (عام 1994 عادت من الأردن من جديد وجلبت لي دعوة أخرى من أجل مغادرة العراق../165) لا يستطيع القارىء إلاّ أن يثمّن الموقف النبيل من الشاعرة.
وبعيدا عن الحسد والغيرة، لابد من المقارنة، بين تمزيق دعوتين لمغادرة العراق مجانا وبين أدباء بصريين دخلوا الرضوانية على الشبهة فقط ورأوا في الزنزانات نجوم الظهيرة
(*)
والكلام نوجهه إلى الشاعر نصيّف الناصري :عندما رفض مدير دائرة التأليف والنشر في دائرة الشؤون الثقافية في وزارة الثقافة والاعلام ، طبع مجموعتك الشعرية (جهشات)، استطعت بمجهودك الشخصي،أن تطبع 50 نسخة، واستطعت أن توصلها للداخل والخارج، حيث نشر لك الشاعر والكاتب سليم بركات 7 قصائد في مجلة الكرمل عدد 18/ 1986 وشملك الناقد حاتم الصكر برعايته النقدية، وشاركت في مهرجان جرش، وعرفك الصكر إلى الشاعر والروائي عباس بيضون ..وهناك من وقف معك من الكبار منهم سعدي يوسف وعبد الوهاب البياتي.. لكننا في البصرة كنا نكتب ونخزن أعمالنا الشعرية والنقدية والسردية، وما ننشره، آنذاك نحن بقية أخوان الصفا وأصحاب صاحب الزنج علي بن محمد، كان لا يمثل إلاّ ذرة من المخزون، وكنا ننشره في الصحف المحلية،ومجلة الأقلام والأديب المعاصر بخطوات متزنة، خوفا من الوقوع في شراك الرقيب. ونحن نعلم جيدا وبشهادة المبدعة آندرية شديد (لايمنحنا الشعر الشهرة ولا الجاه ولا السلطان، لكنه معلق بين أهدابنا ويدلنا على تلمس الفجر) في تلك السنوات كانت مجموعة من قصاصين البصرة يصدرون على نفقتهم الخاصة من 1991- إلى 2000 كراسا قصصيا (البصرة في آواخر القرن العشرين)
(*)
يلتقط نصيف ، المقطع الخامس من قصيدة (عذاب الحلاج) :
في سنوات العقم والمجاعة
باركني
عانقني
كلّمني
ومدّ لي ذراعه
ثم يعلق نصيف بطرافة قائلا (طبعا بعد المباركة والعناق والكلام لازم يمدّ له ذراعه، قابل يمّد له (….) ؟ هذا الشعر لايعني بالاشارة ويعني بالتقرير/ 350) في هذا الصدد أرى أن هذا المقطع مشروط بالتقفية، فقد أنتهى السطر الأول بكلمة : المجاعة، فيجب أن تكون الكلمة الأخيرة من السطر: ذارعه ..أو قناعه، أو أشاعة ..أو اذاعة وبهذا الصدد،قدّم الشاعر والناقد فوزي كريم دراسة فريدة ً عن تجربة البياتي والسياب وأدونيس في كتابه القيّم (ثياب الأمبراطور)
(*)
يؤكد الشاعر نصيف حرصه على حياة الشاعر من الإدمان، من خلال تجربته معه وكيفية معالجته من الكحول في السويد، ثم يتساءل (هل نحتاج الآن الى ثقافة جديدة نتخلص عبرها من الأدمان الذي يدمر حياة الكاتب والشاعر والفنان؟ /352).. يواصل الشاعر نصيف انتاجه لأسئلة هي حقا ضرورية، فهو من وجهة نظره، يفند الإشاعات شعرية كانت أو أيدلوجية، وكذلك يفنّد مقولة بودلير حين يعرّف الشعر أنه( الطفولة المستعادة قسرا) وتفنيده ضمن قوسه حرية وعيه كشاعر حداثي ، ثم يطرح السؤال الحق (ما العمل الآن من أجل ترك الشعر يحلق بعيدا عن الأقفاص التي يحاول البعض حشره فيها../ 174) ثم ينتقل مؤكد (العشق في الزمان النفسي طاقة مبطنة والسهر تحت ظلالها يمدّنا بالقوة الدائمة ) والسؤال هنا ألا تدخل الطفولة والصبا والشباب ضمن الزمن النفسي للشخص ؟ ثم يقترح نصيف الوصفة التالي (للتسلط على لحظاتنا الخائبة في العيش. ينبغي للإنسان أن يقذف نفسه في البركان../175) وأين يقع هذا البركان الآن في المنافي القديمة حيث الاستقرار والضمان الاجتماعي، أما المنافي الجديدة حيث العبور بزوراق مطاطية والغرق والهلاك والذل وقسوة المهربين ؟ وها نحن في بصرة الانتفاضة في أيلول 2018، اقتحم أولادنا البركان واستشهدوا وواجهوا رصاصات أخوتهم بصدور عارية في الاغلب..أو بما صنعته أياديهم من ذخيرة بدائية،
(*)
يلتقط نصيف مقولة ً من كتاب سارتر (الوجود والعدم) والمقولة هي (يكون وحيدا في العالم مع المحبوب كي يحتفظ الحب بطابعه كمحور اشارة مطلق ) في لحظتنا العراقية الدموية هذه، مابين القوسين لا نكترث له لأنه غير موجّه لنا، نحن آباء المخبوزين بالهراوات وبالقنابل المسيلة للدموع ..نحن آباء الجرحي وأخوال الجرحى وأعمامهم . نحن مع ما قاله أبو العلاء المعري :
(وبالعراق وميض ٌ يستهل دما وراعدٌ بلقاء الشر يرتجز) ومايقوله المعري مثبت لديك في ص179
(*)
الشاعر نصيف يسأل ويجيب :(هل تغيرت نظرتنا نحن العرب الى فهم طبيعة الشعر وجوهره منذ عصر المعلقات الى الآن ؟/ 364) يرى نصيف أن المتغير الشعري ضئيل وبطيء الحركة، فقد أرتبطت القصيدة بقوى التحرر، وهذا قدر المثقف العراقي والعربي، يتنامى وعيه الشعري بتوقيت ما يجري في مجتمعه ،فهل يصغي فقط لما يقوله الشاعر العظيم بول فاليري(التفكير في القصيدة يقتلها) أوما يوصينا به مالارميه (القصيدة تصنعها الكلمات وليس الأفكار) معك أنا أيها الشاعر نصيف.. معك في القصيدة التي تعتني بالصورة والمجاز والانزياح والمفارقة والغرابة …معك يانصيف فيما تقول ولكن أين الناقد الذي يدافع عن هذا التيار الشعري، وأين المجلة التي تروج له؟ وإذا توفرت هذه المجلة ستنشر لمن وتحذف من ؟ بقناعة تامة علينا أن نؤثل لبصمة جديدة ومتنوعة لهذا القطع المعرفي الشعري، ولتكن المواقع الثقافية الجادة هي حارس الفنار ..
*قسم من هذه المقالة منشورة في/ طريق الشعب/ 27/ 11/ 2018
*نصيف الناصري / ليس لي سرُّ لألغز / الطبعة الثانية / دار مخطوطات للنشر و المعقدين للنشر والتوزيع – البصرة – شارع الفراهيدي