17 نوفمبر، 2024 1:39 م
Search
Close this search box.

القاضي بين ” الاجتهاد في مورد النص” و”الاجتهاد في البحث عن النص”

القاضي بين ” الاجتهاد في مورد النص” و”الاجتهاد في البحث عن النص”

عندما تُعرض الواقعة المتنازع فيها على القاضي ليصدر حكمه فيها، فإنما يعرض الواقعة بوقائعها وادلتها وتكييفها على نصوص القانون التي تحكم الواقعة ورائده في ذلك قاعدة” لا مساغ للاجتهاد في مورد النص ” فلا يكون لاجتهاده نصيبا في الحكم، الا في الموارد التي غاب فيها النص فيتحول، الى المراتب التي ترتبت بعد النص (فإذا لم يوجد نص تشريعي يمكن تطبيقه، حكم القاضي بمقتضى مبادئ الشريعة الإسلامية، فإذا لم توجد، فبمقتضى العرف، وإذا لم يوجد، فبمقتضى مبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة.) المادة/1 الفقرة 2ـ من القانون المدني النافذ.
إن قاعدة ( لا مساغ للاجتهاد في مورد النص) نص عليها القانون المدني العراقي في المادة /2 منه وهي قاعدة فقهية اسلامية حيث تم تقنينها اولا في مجلة الأحكام العدلية في المادة ( 14 ) منها والمعروف إن قواعد المجلة كلها مقتبسة من الفقه الحنفي الذي يمثل المذهب الرسمي للدولة العثمانية عندما كان العراق جزءا منها وقد صدرت مجلة الأحكام العدلية في عام 1876 ( 1293 هـ ) وطبقت أحكامها في محاكم الدولة العثمانية وفي الدول الخاضعة لها ومنها العراق . حتى تم احتلال العراق من قبل القوات الانكليزية إبان الحرب العالمية الأولى وقد تضمنت المجلة ( 1851 ) مادة خصصت ( 99 ) مادة منها من المادة ( 2 ) إلى المادة ( 100 ) للمبادئ العامة المعروفة بالقواعد الكلية.
وان اكثر ما يقلق وجدان القاضي ويؤرق ضميره ويهز عاطفته النبيلة، هو ايمانه بعدالة قضية احد الخصوم لكنه يجد النص القانوني بالضد منها، فتبدا هنا مرحلة البحث الوجداني لدى القاضي بإيجاد ملائم قانوني لإنصاف الطرف الذي التصق حقه بواقع اكيد، وغاب عنه النص الذي يسعفه ، فان اجتهد في مورد النص جاء حكمه معيبا لاصطدامه بالقاعدة اعلاه ، وتصادمه مع شكليه الحق والباطل ،وان حكم بما جاء في النص وجد نفسه قد ابتعد عن منطقة العدالة ، فتبدأ مرحلة اخرى للوصول للحكم العادل ليس هي الاجتهاد في مورد النص بل الاجتهاد في البحث عن النص الملائم ، فعندما تستوعب عقلية القاضي مبادئ العدالة الممزوجة بالتفسير الصحيح لإرادة المشرع ،المعضدة بذهنية تتفهم الواقع المعاش يأتي الانصاف في الحكم .
استوفني حكم قضائي اصدرته محكمة استئناف بغداد/الرصافة بصفتها التمييزية ، فالمدينة في الحكم هي زوجة محكوم عليها بمطاوعة زوجها وقام زوجها بتنفيذ الحكم في دائرة تنفيذ الرصافة فتقدمت المدينة بطلب ايقاف التنفيذ لانها ميزت حكم المطاوعة و لم يكتسب درجة البتات، ووجدت المدينة ان التمييز يوقف التنفيذ- حسب طلبها – رفض المنفذ العدل طلبها معللا ذلك تعليلا قانونيا سليما، حيث جاء في تعليل رفضه بالقرار التالي (لدى التدقيق لوحظ بأن موضوع الاضبارة يتعلق بمطاوعة وان نص المادة 53/1 تنفيذ نص تأخير الاجراءات التنفيذية اذا طعن بالحكم تمييزا واذا تعلق موضوع الدعوى بعقار عليه قررت رفض الطلب وكيل المدينة اعلاه قرارا قابلا للتظلم والتمييز) فهو يرى ان التنفيذ لا يوقف الا بحالات نص القانون عليها على سبيل الحصر في المادة 53 من قانون التنفيذ النافذ وليس من بينها ايقاف التنفيذ عند وقوع التمييز على حكم المطاوعة . لهذه اللحظة فالمنفذ العدل تعامل مع نص القانون ولم يكن امامه الاجتهاد في مورد النص وابتداع حالة لم ينص عليها القانون . فما كان من المدينة الا ان ميزت القرار فجاء دور محكمة التمييز في البحث عن النص القانوني الاكثر انطباقا على الواقعة لما تملكه من علمية وسلطة تقديرية في تفسير النصوص القانونية ،دون تكلف في التكييف، او تصنع في الوقائع، ودون اجتهاد في مورد النص ، كل ما فعلته محكمة التمييز هو عرض الواقعة برمتها على قانون التنفيذ وعلى غاياته ومراميه واهدافه واستخلصت نية المشرع الكامنة فيه، فوجدت ان القرار مخالف للقانون وغير صحيح لأنها وجدت-أي محكمة التمييز- ان نص الفقرة الاولى من المادة 2 من قانون التنفيذ المعدل والتي تعالج اهداف القانون التي يجب ان يضعها المنفذ العدل نصب عينيه هو ( تحقيق التوازن بين مصلحة الدائن من الحصول على حقه المشروع وبين مصلحة المدين من ان لا يؤخذ من امواله او يعتدى على حريته دون وجه حق ومراعيا الاعتبارات الاجتماعية والانسانية والاجتماعية والاقتصادية للمدين ) وخلصت محكمة التمييز في قرارها ان مراعاة الاعتبارات الاجتماعية والانسانية والاجتماعية للزوجة المحكومة بالمطاوعة التي ترفض المطاوعة لأسباب تراها هي صحيحة ، ووجدت المحكمة انه لابد ان يكتسب الحكم الدرجة القطعية وخصوصا ان ذلك سوف لن يفوت حق الدائن او يلحق به ضررا .
ان تسبيب محكمة التمييز لأول وهله يبدو انها اجتهدت في مورد النص بحيث اضافت حالة جديدة لإيقاف التنفيذ لم ينص عليها القانون ولكن التدقيق في القرار يؤكد خلاف ذلك فالمحكمة اجهدت نفسها في البحث عن النص الملائم على الواقعة بلا ليّ لنصوص القانون او تحميلها مالا تتحمله وشتان بين الامرين مستندة للتفسير المتلائم مع الواقع وخصوصية كل قضية، وانها عندما اوقفت التنفيذ فأنها استندت الى نص قانوني صريح موجود في اهداف القانون .
ان هذا النظرة العقلائية العادلة التي سطرتها المحكمة في قرارها كانت نتيجة الفهم الواعي للقانون كجملة واحدة دون ان يقدح هذا في تطبيق النص الملائم على الواقعة المستوجبة للنص ، لذا تبدأ هنا رحلة القاضي ان يجهد نفسه بالبحث عن النص الملائم في القضايا المعروضة عليه دون ان يضطر لمخالفة قواعد العدالة او الاجتهاد في مورد النص .
واترك القاري الكريم مع نص الحكم :
المبدأ – تنفيذ حكم مطاوعة
لما كان تنفيذ حكم مطاوعة الزوجة لزوجها يقتصر على التنبيه فقط ، فإن مراعاة الاعتبارات الاجتماعية والانسانية للزوجة المحكومة بالمطاوعة يتطلب ان يكون تنفيذ ذلك الحكم بحقها بعد اكتسابه درجة البتات
رقم القرار – 527/ت/2011
تاريخ القرار – 28/11/2011
تشكلت الهيئة التمييزية في رئاسة استئناف بغداد /الرصافة الاتحادية بتاريخ 28/11/2011 واصدرت القرار الاتي :
المميزة / المدينة / ض.ج.ع.
المميز عليه / الدائن / ع.ع.خ.
بناءا على حضور وكيل المدينة امام مديرية تنفيذ الرصافة وطلبه ايقاف الاجراءات التنفيذية لوقوع التمييز على الحكم المنفذ بتاريخ 25/9/2011 وعدد 2324/2011 قرر منفذ عدل الرصافة (لدى التدقيق لوحظ بأن موضوع الاضبارة يتعلق بمطاوعة وان نص المادة 53/1 تنفيذ نص تأخير الاجراءات التنفيذية اذا طعن بالحكم تمييزا واذا تعلق موضوع الدعوى بعقار عليه قررت رفض الطلب وكيل المدينة اعلاه قرارا قابلا للتظلم والتمييز .) ولعدم قناعة المميزة بالقرار اعلاه طعنت به تمييزا بلائحتها المؤرخة 2/10/2011 طالبة نقضه للأسباب الواردة فيها .
القرار :
لدى التدقيق والمداولة وجد ان الطعن التمييزي مقدم ضمن المدة القانونية فقرر قبوله شكلا ، ولدى عطف النظر على القرار المميز فقد وجد انه غير صحيح ومخالف للقانون ذلك أن الثابت ان الحكم المنفذ هو حكم مطاوعة الزوجة المدينة لزوجها الدائن وان هذا الحكم لم يكتسب بعد الدرجة القطعية بسبب الطعن به تمييزا من قبل المميزة لدى محكمة التمييز الاتحادية وهذا ثابت بكتاب محكمة الاحوال الشخصية في المشخاب بالعدد 191/ش/2011 في 14/9/2011 وحيث ان من بين اهداف قانون التنفيذ المعدل هو ما نصت عليه الفقرة الاولى من المادة 2 منه والتي نصت (تحقيق التوازن بين مصلحة الدائن من الحصول على حقه المشروع وبين مصلحة المدين من ان لا يؤخذ من امواله او يعتدى على حريته دون وجه حق ومراعيا الاعتبارات الانسانية والاجتماعية والاقتصادية للمدين) وان المادة 11 من القانون اعلاه قد بينت كيفية تنفيذ حكم المطاوعة عندما (قضت على ان يقتصر تنفيذ حكم مطاوعة الزوجة لزوجها بالتنبيه فقط) لذلك فأن هذه الهيئة تجد بأن مراعاة الاعتبارات الاجتماعية والانسانية للزوجة المحكومة بالمطاوعة ان يكون تنفيذ حكم المطاوعة بحقها بعد اكتسابه الدرجة القطعية طالما ان التنفيذ قد قصره القانون على حالة التنبيه بالمطاوعة وليس في هذا الاتجاه ما يفوت حقا للزوج الدائن او يلحق به ضررا . ولما كان القرار المميز قد خالف وجهة النظر المتقدمة اعلاه لذا قرر نقضه واعادة الاضبارة الى دائرتها لاتباع ما تقدم على ان يبقى رسم التمييز تابعا للنتيجة . وصدر القرار بالاتفاق في 2/محرم /1432 الموافق 28/11/2011 .

أحدث المقالات