5 نوفمبر، 2024 10:44 م
Search
Close this search box.

القائد الرمز ودوره في استحضار ارادة الجماهير

القائد الرمز ودوره في استحضار ارادة الجماهير

لكل جماعة انسانية، قومية كانت ام دينية، قيمها العليا التي تعبر منخلالها عن حضورها الخاص في التاريخ، وهذه القيم ليست مفاهيمثابتة لا تمتلك المرونة نحو التغيير بل هي قيم حيوية ذات فاعلية فيقدرتها نحو خلق الحراك الاجتماعي وتوجيه الافراد والجماعات باتجاهمعين تقصده.

ومن هنا تكون الشخصية التي لها القدرة على قيادة الجماعة والمعبرةعن هويتهم، رمزاً يؤشر تحولها الى عنصر ايديولوجي مهم في تحديدتلك الجماعة، ولخلق الفواصل بينها وبين الجماعات الاخرى فيمجتمعها الاوسع.

وكل جماعة سياسية او عرقية او دينية او حتى طبقية تتخذ لنفسهارمزاً بشرياً مثلما تأخذ لها شعاراً يشير الى شخصيتها المتميزة فيحالة قراءة ذلك الشعار. وفي التاريخ البشري نماذج عديدةلشخصيات تصل دلالاتها حد الرمز المعبر عن حضور خاص لجماعةما في التاريخ.

فهنالك شخصيات دينية لها حضور دائم عند الجماعة التي تنتمياليها تلك الشخصية والتي ترى في تلك الشخصيات حضورها فيالتاريخ.

ويجدر بنا ان نشير الى ان بعض الجماعات قد تتبنى صورة رمز فيحاضرها، كصورة البطل القومي في عصرنا الحالي مثلما قد تتبنىرمزاً في ماضيها ترى له الحضور المعنوي في حاضرها، كونخصائص تلك الشخصية او افكاره ومسيرته تنفق مع حاضر تلكالجماعة.

ان الكتابة عن القادة بصورة عامة، أمر كبير الاهمية، اذ يختصبنوعية من الرجال تمتلك القدرة على التأثير في مستقبل اوطانهموشعوبهم. فلا يمكن للمرء ان يتصور وجود مجتمع بشري في اي زماناو مكان دون وجود القائد. لان القائد هو اساس المجتمع، فلا يمكن اننتصور مجتمعاً بدون قائد او قائداً بدون مجتمع. فالقيادة أمر لامناص منه لتنظيم الحياة ولتحقيق مبدأ العدل والمساواة في المجتمعوللدفاع عنه وعن منجزاته ضد الاخطار التي تهدده.

وعلى هذا الاساس، حددت قيادة القائد الرمز/ الكارزما، بانها عمليةتأثير متبادل لتوجيه النشاط الانساني في سبيل تحقيق هدف مشتركاو هي المقدرة على توجيه سلوك جماعة في موقف معين لتحقيقه. لذاتقوم القيادة بدور هام في التطور والتقدم نحو تحقيق الهدف.

ولا شك، في ان اي عمل ناجح يرجع الفضل الاول في نجاحه الىقيادته الناجحة الواعية الموفقة التي توجهه وتصحح مساره اذا ضلالطريق الصحيح، كما ان القيادة المحنكة تعد افرادها الاعداد الملائموتجعلهم مؤهلين قبل الاقدام الى تحقيق الهدف.

ولعل ذلكوتأسيساً على ما تقدميقودنا الى السؤال:

* هل يمكن لعصرنا ان ينجب القادة الرمز/ الكارزما؟

أبقى في عصر الشعوب والجماهير او عصر التقنيات الرقمية والاعلامالعابر للاجواء، مكان لاولئك الافراد العظام الذين طالما تعلقت بهمابصار الانسانية وانجذبت نحوهم الجماعات البشرية بدوافع قويةقاهرة وغير منظورة؟

أما زال هذا العصر قادراً على ان يقدم تلك النماذج الانسانية العلياالتي توحد في تفكيرها وارادتها وسلوكها، الواقع والحلم، الحقيقةوالاسطورة؟

ولكن، من هو القائد الرمز/ الكارزما؟

أليس هو ذلك التجسيد الحق لاحلام وآمال ومطامح أمة من الامم؟

أليس هو ذلك الذي يملك قدرة على قهر النفس والتضحية بها، ايثاراًللمبدأ الاعلى؟

أليس هو ذلك الذي يملك من الوعي بالتاريخ، والاستبصار بالمستقبل،والحساسية لالتقاط لحظات التحول الكبرى، ما يتيح له الكفاءةوالمقدرة على قيادة البشر نحو اهدافهم، عبر الدروب الشائكة،والمنعطفات الصعبة؟ وكيف يمكن للحياة ان تتقدم، وللمجتمعات انتتطور، من غير اولئك القادة؟

هكذا كان لكل عصر قادته في الماضي ، كانت الحياة بالنسبة لاولئكالقادة مجرد مغامرة فردية يدفعون بها الى اقصى درجات الخطر اماممتفرجين مبهوري الانفاس، سلبيين في معظم الاحيان، لا يملكونسوى عاطفة الاعجاب المطلق، ولا يستطيعون في النهاية الا التصفيقوالتمجيد واقامة التماثيل وروي القصص والاساطير.

كان المجتمع حينذاك منقسماً بشكل بالغ الحدة والوضوح الىاناوآخرين– (انا) يقود ويحكم ويسيطر ويهيمن ويتسلط، و (آخرون) يقادون، ويخضعون، ويتبعون، ويستلمون، وكأنهم منتمون اومسحورون لا يملكون من الوعي او الارادة شيئاً.

ولقد ظل هذا الماضي ممتداً في الزمن حتى استيقظت تلك الكتلالسديمية على أثر الثورات والحروب الكبرى، وتفتح وعيها بالفكروالممارسة وتراكم الخبرة. واصبحت تسمى في عصرنا بالشعوب اوالجماهير، وغدت العلاقة بينها وبين قادتهافي اطارها الصحيالصحيحليست علاقة قهر وتبعية، سيطرة وخضوع، وانما علاقةجدلية يتكامل فيها الفرد والمجموع، القائد والجماهير، الشعبوالبطل.ولم يعد الموت اوالشهادة هو العلامة الاساسية الوحيدة التيتضع اسطورة القائد البطل.

ولم يعد الموت وحده صكاً بالغفران يحول بين نقاد الفكر والسياسةوتناول حياة القادة بالتحليل واصدار الاحكام.

ان اللجوء الى التاريخ في تفسير الاحداث السياسية والاجتماعيةوالوقوف عند مكوناتها، وتحليل اسبابها ونتائجها، ودراسةالشخصيات التي صنعت تلك الاحداث.. امر له ما يسوغه من الناحيةالاعتبارية. فالتاريخ هو المعيار الاعتباري الاساس في تقويم الظاهرةالانسانية والحكم عليها. ولأن التقويم التاريخي ليس تقويماً آنياً مبنياًعلى استجابة سريعة او رد فعل آني تجاه حدث اجتماعي انسانيتكون في ظل ظروف اجتماعية وسياسية

وتاريخية معينة فحسب بل هو تراكم مادي كبير للخبرات والتجاربالانسانية الذي استدعي لتقويم تجربة انسانية ما.

واذا كانت قوانين الحياة الانسانية قد اوجبت وجود قوى ديناميكيةفاعلة تحرك الوسط الانساني وتقوده نحو النماء والتجدد والابداع،استمراراً لحياة الانسان وديمومة العنصر البشري، فالعناصر التيقادت هذه الحياة لم تلد من رحم الاحداث الاجتماعية الخالدة اوالتكوينات السياسية والاجتماعية الكبيرة فحسب وانما بزغت مناعماق التاريخ الانساني بكل تراثه وثقله الاعتباري. فالعناصر التيتركت بصماتها على مسيرة الايام لم تظهر بصورة عفوية ولم تحملهاالمتغيرات الى صدارة الاحداث بل كانت عصارة تجارب انسانية فكريةواجتماعية، ابرزها للوجود، الوعي المتقدم لدور التاريخ في حياةالبشر، فأكتشفت الشعوب رموزها التاريخية ووقفت عند المحطاتالتاريخية في مسيرة بني الانسان لتتزود منها ما يعينها على فهمواستيعاب واقعها اليومي واستشراف مستقبلها.

فاذا كان الانسان يصنع نفسه كما يختار، فأن القائد يصنع شعبهويصنع الحياة لهذا الشعب، كما يؤمن ويعتقد من خلال غرس وتنميةمعتقدات مشتركة لدى المجتمع وقيماً تعطي للشعب احساساًبالتضامن الاجتماعي وتشعرهم بقيم هذا التضامن وتساعدهم علىتكوين ذاتهم السياسية والاجتماعية كأساس للعضوية في المجتمعالام، ومن ثم في المجتمع الدولي ومحيطهم الاقليمي.

من هنا، عرفت القيادة بأنهاالقدرة التي يمتلكها احدهم في التأثيرفي افكار الآخرين واتجاهاتهم وسلوكهم. وهذا يعني، ان اي انسانقادر على التأثير في الاخرين وتوجيههم نحو هدف مشترك، فانه يقومبمهمته كقائد.

بمعنى آخر اكثر شموليةانه القادر على توحيد جماهيره حول هدفاو قضية، ومن ثم القدرة على تنظيم وتحريك هذه الجماهير بما يحركطاقاتها النضالية من اجل تحقيق النصر للهدف الذي يمثل الانتصارلها في تحقيق مصالحها وآمالها المستقبلية.

فالقائد، هو الذي يحافظ على وحدة جماهيره واستمرارية عطائها منخلال كونه قدوة في القول والممارسة، واذا كانت وحدة الجماهير تفرضبداهة ان تكون القضية هي قضيته فأن القائد الناجح لا بد من انيكون في قوله وعمله قدوة واضحة تقنع الجماهير بأن مسيرته متطابقةمع قضيتها.

والقائد من وجهة نظرنا: الانسان الذي يحتل ضمن القيادة الجماعيةثقلاً خاصاً، ويحتل ضمن المرحلة مكانة تاريخية، وتكون اعماله اعمالاًذات صدى وتأثير تاريخي لا ينحصر في اثاره الايجابية بمرحلة زمنيةقصيرة وانما يمتد بتأثيره الفعال الى ما بعد غياب القائد التاريخيعن الحياة، وتكون مرحلة بارزة في السجل التاريخي للأمم والشعوب،وتؤدي دوراً حاسماً في تغيير حياة الشعب من حالة الى اخرى، ونقلهمن مرحلة الى اخرى متقدمة.

ولئن كانت نظرتنا قد ركزت على نقاط معينة في تعريفها هذا، كونهااساساً للاختيار الصحيح للقائد، فان مجرد صياغتها في اطرهاالدقيقة وعلى نحو الذي ذكرناه يكشف عن طبيعة الوعي الشموليالذي يجب ان

يمتلكه القائد والحصيلة الواسعة من المعرفة والتجربة النضالية التييتوفر عليها والقدرة الفائقة على تحويل ذلك كله الى برامج عمل قابلةللتطبيق والسير في الطريق القويم.

من هنا نرى، الصعوبة في تحديد معنى دقيق لكلمة القائد الرمز(الكارزما) في السياسة وانظمة الحكم. والشخصية القيادية(الكارزما/ Charisma) وتعني في اللغة الاغريقية (الرحمة الالهية)،بمعنى قابلية الشخص على القيادة والالهام بفضل قوة شخصيتهوعبقريته وعقيدته. فعندما تمر المجتمعات بأزمات عنيفة تؤدي الىانهيار القيم والقواعد السائدة والمنظمة له، تظهر قيادات من نوع جديدتقود المجتمع، وتعتبر هذه القيادات ملهمة لانها لا تتقيد بما هو سائدانما تستوحي مسيرة التاريخ بوعي مكثف وارادة قويمة تستوحي منخلاله التغيير واعادة تطوير النظام القائم او بناءه من جديد.

ان القادة الكبار الذين يمتلكون المواصفات والمؤهلات التي تميزهم عنالآخرين من ابناء امتهم، هم الذين يصنعون التاريخ ويحددوناتجاهاته ويتحكمون بالاحداث التي تمر بشعوبهم، ويوجهونها الوجهةالتي تحدد ملامح مراحل طويلة من مسيرتها الحضارية، بل لا نبالغاذا قلنا يحددون مصائرهم وادوارها الحضارية في المسيرة الانسانية. فالفضل يعود للقادة في نهوض اممهم ويقظتها وحجم الدور التاريخيالذي يمكن ان تؤديه هذه الامة او تلك. فان تأثير القادة وبروز ادوارهممتناسب طردياً مع حجم التحديات والمشاكل والصعاب وتعقيداتالمراحل التي تمر بها اممهم، فكلما كانت التحديات كبيرة وخطيرةوالمشاكل تزداد تعقيداً تطلب ذلك قادة من طراز خاص ممن يحملونمؤهلات خاصة. وهذا يجعل بروزهم وتميز ادوارهم اكثر تجلياً وبروزاً. فاذا تأملنا القادة الكبار منذ فجر التاريخ البشري حتى اليوم نجدانهم تحديداً اولئك الذين احدثوا انعطافاً نوعياً في مسار التاريخ العاملشعوبهم اولاً وللانسانية ثانياً.

فالقادة الذين هم من طراز خاص، هم اولئك الذين تفرزهم الظروفالتاريخية عبر ظروف وطنية وقومية وانسانية محرجة وعبر معاناةصعبة. فالتاريخ لا يفرز مثل هذا النوع من القادة الا في حالاتالضرورة القصوى، والشعوب كذلك، لا تفرز هذا النوع من القادة الاعندما تصل في وضعها العام من جهة وفي آمالها وتطلعاتها من جهةثانية الى الحالة التي لا بد ان تجد الرمز الذي يجسد معاناتها ويتمثلآمالها وتطلعاتهامثل هذا القائد هو ما نطلق عليه القائد الرمز اوالقائد التاريخي او القائد الكارزما، اي القائد الذي اجتمعت فيهبصيغة التفاعل خصائص القائد العسكري والفكري والسياسيوالاجتماعي والاقتصادي بابعادها الشخصية والوطنية والانسانية. بمعنىقابليته على القيادة والالهام بفضل قوة شخصيته وعبقريتهوعقيدته.. فعندما تمر المجتمعات بازمات عنيفة تؤدي الى انهيار القيموالقواعد السائدة والمنظمة له، تظهر قيادة من نوع جديد تقود المجتمعوتعتبر هذه القيادة ملهمة لانها لا تتقيد بما هو سائد، انما تستوحيمسيرة التاريخ بوعي مكثف وارادة قوية تستوحي من خلاله التغييرواعادة تطوير النظام القائم او بناءه من جديد.

ان الاساس الذي تقوم عليه سلطة القائد، هي مزايا تفوق الشخصيةلدى القائد او هكذا ينظر اليه اتباعه ومريده. فالقائد الملهم يكون بؤرةالاستقطاب الشعبي للمصداقية التي يتمتع بها والثقة بشخصه،وطيبته، وربما

لبطولات حفلت مسيرته بها. فالزعيم الديني او المذهبي او القومي مثلاًهو الشخص الذي يتمتع بجميع الصفات القيادية طالما ان مركزهالقيادي هذا لا يعتمد على ثروته او جبروته او جهازه القانوني. فعادةلا يعتمد القائد على جهاز منظم يساعده في الحكم، حيث ان تأثيرهوقوته لا تستمد من النظم القانونية والشرعية بقدر ما تستمد من قابليتهعلى كسب وارضاء الناس والتفاهم حوله.

لقد اختلف المفكرون حول وجود القائد الذي يمتلك المواصفاتوالمؤهلات القيادية التي ترفعه الى مستوى المرحلة التي تمر بها أمتهوالقادر على التقاط اللحظات المصيرية واستثمارها استثماراً وردياً،وبما يجعله قادراً على تجسيد طموحات امته وتطلعاتها وتحقيقها،فهناك من يقولان المراحل المصيرية التي تمر بها الشعوب هيالتي تصنع القادة. وهناك من يقول ان القادة هم الذين يصنعونالاحداث وبالتالي يكتبون تاريخ اممهم وشعوبهم.

من هنا، حاول كبار الفلاسفة والمفكرون على طوال حقب التاريختفسير وجود رجال عظام يقودون الحياة ويصنعونها. وقد اجمعتالدراسات ان لم نقل معظمها على وجود مجموعة من المميزاتالانسانية يقف على رأسها وفي مقدمتها العقل الذي يقود ويوجه هذهالمميزات.

فالفيلسوف هيغل يقولان العقل يحكم العالم، وان التاريخ الشاملتبعاً لذلك شيء عقلي. ويرجع الفيلسوف ديكارت سبب وجود قادةتاريخيين الى القدرات العقلية، حيث نبه الى وجود قدرتين اساسيتينبالعقل الانساني، قدرة تميز الخطأ عن الصواب وهي متساوية اوموجودة لدى جميع الناس بل ان هذه القدرة توهب لقلة منهم ليبدعواويكتشفوا.

ان الاسناد على العقل في تفسير الذات المبدعة أمر له ما يسوغه منالناحية السلوكية، ومن الناحية الاجتماعية ايضاً. لأن الانسان له ذاتمفكرة قبل ان يكون اي شيء، كما انه وجود اجتماعي ونفسي تركاثاراً خالدة في مجرى التاريخ.

العقل اذننستنتجله دور رئيس في تكوين الشخصية القيادية، فاذاما اضفنا اليه ظواهر الايمان العادل والعمل الدؤوب والتحرك بأفقيتجاوز الحياة المتداولة، اصبح القائد ممسكاً بالاحداث ومسيراً لهامن خلال تناسق فكري وعملي دقيق.

ان حقائق التاريخ تثبت بما لا يقبل الشك، في ان استحضار الارادةوالقدرة على اتخاذ القرار الحاسم، هي السمة التي تميز القائد عنغيره، لأن القرار العظيم يكشف عن امكانية القائد وقدرته في نقلالافكار العظيمة من سماء النظريات الى حيز التطبيق العملي علىارض الواقع المعاش.

ولأن هذا النقل ليس بالامر الهين بل هو مخاض انساني عسير يتطلباستحضار الارادة بكل عنفوانها وشموخها في مواجهة تحدياستثنائي ذو قوانين رتيبة وظروف محسوبة وغير محسوبة، تلك هيالتي ترافق ذلك المخاض، اضافة الى كيفية مواجهة تجذر القوانينالسياسية والاجتماعية البالية في التفكير الجمعي.

نرىبناء على ذلكان القرارات العظيمة تكتسب اهميتها وعمقهاوشموليتها عندما يتخذها القادة على مدى التاريخ لاقترانها الوقائعواحداث اجتماعية وسياسية صعبة ومعقدة ذات صلة بالانسان وحياته.

ولأن صنع القرار العظيم يتم في العقول القيادية الكبيرة، فأنه لايتجاوز تلك الظروف السياسية والاجتماعية والنفسية وانما يدرسهابعمق عبر ملكة ذهنية معقدة تجري داخل عقل الانسان القائد التيتتجاوز الحدود الوظيفية للعقل الى الحدود الانسانية الاوسع التيتجعل من العقل جزءاً من العملية لا كلها.

وعليه، نلاحظ ان القرارات العظيمة لا يصنعها الا رجال من نوع خاصيمتلكون عقليات خاصة وجرأة خاصة، لان القرارات وبخاصة المصيريةمنها لا تولد ولادة اعتيادية.

فالقرارات ليست رغبة آنية يلجأ اليها القائد لمواجهة حالة ما، لأن جميعالحالات محسوبة في تفكير القائد في اطار علم الحساب السياسيوانما القرار هو تصور نظري ومبدئي واستراتيجي مقروناً بتكتيكناجح وباجراءات واعية يعتمد الامكانات الذهنية والمادية ومواجهةواعية لكل الافرازات التي تنتج عن هذه الاجراءات وطرق معالجتهاومقدار التضحية التي يمكن ان تقدم تطبيقاً لهذا القرار.

ان ظهور القائد الرمز بالصفات التي يحملها، يجيء في اللحظةالتاريخية التي تحتاجها الامة والمرحلة التي تمر بها وتكون بأمسالحاجة اليه كونه الوحيد القادر على التقاط اللحظة والتمسك بهاوتوظيف مميزاته باتجاه قيادة الاحداث وتوجيه مساراتها بالاتجاهالذي يخدم طموحات الامة وتطلعاتها وبما يخلصها مما هي فيه منضعف.

فإذا كان القائد يستمد موقعه من الخصائص القيادية التي يمتلكهاومن طبيعة الدور التاريخي الذي يمارسه في قيادة الامة باتجاهتحقيق اهدافها ورسم ستراتيجياتها. فان ذلك كله وغيره مما يدخل فيمقومات القيادة الناجحة، يجب ان يستند الى ثقة الامة بشخصيةالقائد. والامتلاء بها الى الحد الذي يجعل من تلك الثقة وذلك الايمانحقيقة ثابتة وعميقة في الوجدان الجماهيري العام.

وان مثل هذه الثقة لا يمكن ان تنبثق من الفراغ بل هي عملية تتنامىبمرور الوقت وتترسخ مع تواتر الامثلة العملية التي تكشف عن مستوىالخصائص القيادية المتوفرة في شخصية القائد امام الامة، معبراًعنها في سلامة قراراته وشمولية رؤيته. وحين تثبت تلك ويتعمق ذلكالايمان، يكون التفاف الجماهير حول القائد عظيماً ولا حدود لقوتهومدياته، وينشأ بينهما تواصل روحي وشعوري يضع القائد موضعالامل الدائم خصوصاً حين تتعقد الازمات وتحتدم حتى لا يعود هناكما يشي بأمكانية وجود أمل في الخروج منها الا بحضور القائدلمعالجتها بالطريقة التي تعرفها الجماهير وتثق بها.

لقد ظهرت قيادات غدت بمثابة مذهب عام يعرف بشخص قائدها وفيضوء انجازاته تتحدد مكانتها التاريخية ودورها السياسيوالاجتماعي الفاعل بين القيادات الاخرى.

مثل هذه القيادات التاريخية لانها قيادات تستمد شرعيتها من كونهاجزءاً من شعوبها، ولذا فهي تحرص على تقصي احواله ومعرفةاحتياجاته وتطلعاته، وهي بذلك تمارس عملاً ينسجم مع تلك الشرعية.

اما القيادات التي تصطنع الحواجز ما بين القمة والقاعدة فهيقيادات مرتجفة تمارس السلطات بقوة الحديد والنار، ثم لا تلبث انتنهار وتتلاشى، وتعد هذه القيادات طارئة لا تغرس قدميها في العمقالتاريخي لشعوبها ولا تملك الشرعية التي تمدها بالثقة بنفسهاوبشعوبها. فالقيادة الحقة لا تكلف عن تقديم النماذج المتميزة في هذاالعصر للقيادات التاريخية التي انحازت الى صفوف الشعب اولاً منافتعال الحواجز الوهمية بينها وبينه، ومثل هذه القيادات لا تنكفئ يوماًفي برج عاجي بعيداً عن الزخم الحياتي للشارع الشعبي ولا تنقطعيوماً عن متابعة نشاطاته واسداء التوجيهات الى القائمين على امره،وهي خير من يقدر ثقل هذه المسؤولية.

المراجع

المراجع التي استعنا بها ، اعتمدناها للمراجعة والتوكيد والاستقراء لماورد في الدراسة .

1ــــامير اسكندر ــــ تراجيديا الابطال في عصر الجماهير ، مجلةالمنار ( باريس ) عدد 44(اب1988)

2ــــ عبد الرزاق حسين الندواي ــــ الكارزما او القيادة الملهمة ، جريدةالتاخي (بغداد ) ، عدد4398 ، الاربعاء 2612005

3 ــــــ مصطفى حجازي ـــــــ الجماهير والقائد في ضوء التحليلالنفسي ، مجلة الفكر العربي المعاصر (باريس ) ، العدد 11 (نيسان1981 )

[email protected]

 

أحدث المقالات

أحدث المقالات